لم يكن الأديب الكبير الراحل جمال الغيطاني مجرد روائي فذ، أتعلم من كل جملة يكتبها كيف يكون «نحت» المعنى بسلاسة وشغف وتفرد.
 
.. كما لم يكن الغيطاني محض نموذج للمراسل الحربي الذي عشق عمله، وأخلص فيه فكان نموذجا يحتذي به تلاميذه ورواده من شباب الصحافيين.
 
.. جمال الغيطاني كان مصريا أصيلا، قبل كل شيء، أديبا موهوبا، وروائيا عبقريا، وكاتبا متميزا.. وإنسانا عظيما، وقامة صحافية من طراز فريد، بفقده فقدنا رمزا من رموز الإبداع المصري والعربي، وكاتبا ساهم في إثراء الثقافة ونشر الإبداع، اهتم بمصر.. وعاش عبق تاريخها، وكرّس قلمه لنقل ذاكرتها عبر رواياته وقصصه وأعماله التي حببت المثقفين والبسطاء على السواء في تاريخ مصر، وجعلتهم يعايشون وجدانها.
 
.. قبل رحيله تمنى الغيطاني أن يواجه المصريون القرار العالمي بـ «هدم الدولة المصرية»، وطالب بعدم التعامل بحرص شديد مع رجال الأعمال بحجة أنهم قادرون على انهيار البورصة أو إحداث خلل في السوق، وطالب بتطبيق ضريبة تصاعدية على الدخل لا تمس «الغلابة»، وتمنى إنشاء جهاز إعلامي قوي يمثل الدولة، وتمنى ألا يعول الرئيس كثيرا على أصحاب المليارات والثروات التي كونها أصحابها في زمن مبارك.
 
.. رحل جمال الغيطاني وقلبه موجوع بمصر التي عشقها، يقول في حواره الأخير مع الكاتبة الصحافية الصديقة زينب عبدالرزاق: «أنا مثل شخص رتب أوراقه وحجز تذكرته وربط الحزام وجلس في حالة انتظار مازال أمامي الكثير لأنجزه ولكن الوقت لن يكفي».
 
رحل الغيطاني «الشاب الذي عاش ألف عام»... صاحب «الزيني بركات» و«حارس البوابة الشرقية»، رجل «التجليات»، و«خلسات الكرى».
 
رحل «الرفاعي» صاحب «وقائع حارة الزعفراني» ورسائل «البصائر والمصائر» و«الصبابة والوجد»، كانت آخر كلماته:
 
«الحياة رحلة ولها مراحل ولا يوجد رحلة تتم في فراغ، وهناك رحلة تحدث كل يوم ولا يلتفت اليها أحد، وهي رحلة الوجود في مدار الكون، وهذا ما ركزت عليه في عملي الجديد «حكايات هائمة»، وتبدأ هذه الرحلة صباحا بميلاد الشمس وبالمناسبة أحد أسماء شروق الشمس «طفلا»، ثم تتوسط في السماء حتى يستوي الظل ثم تميل الى الغروب وتختفي، من الذي أدرك هذه الحقيقة؟ هم المصريون القدماء. ولو نظرنا لوجدنا أن عمرنا مثل هذه الشمس، وأكثر ما يشغلني هو فكرة الشروق والغروب: أي الوقت، وأنا طفل كنت أسأل سؤالا عفويا: «هو امبارح راح فين؟»، وكانت تلك بدايتي مع الاسئلة الوجودية. ونحن نرى الوجود كل يوم في كتاب الكون ولكننا لا نلتفت اليه، الليل على سبيل المثال هو العدم للشمس، لكن المصريين القدماء رفضوا فكرة العدم واخترعوا فكرة العالم الآخر. وأنا الآن متقبل الموت أكثر من ذي قبل بكثير.
 
.. وداعا يا زميل «أخبار اليوم» الذي لم تشبع منه مصر.. ولم يكتف منها.
 
 
حسام فتحي