طيب!

بقلم: حسام فتحي

»البرجان«

.. لا يا سيدي، لا أتحدث عن «برجي التجارة» اللذين انهارا في 11 سبتمبر 2001، أو ما عرف بـ «غزوة نيويورك» حسب ما روجت له وسائل الإعلام الغربية، على لسان أسامة بن لادن الذي «يقولون» إنهم دفنوا جثمانه في المحيط، فيما تقول الشائعات إنه يعيش في حراسة المخابرات في إحدى جزر الباهاماس، فهذان البرجان سيكشف التاريخ حقيقة ما حدث لهما وبهما، وكذلك بن لادن وألغاز القاعدة!

«البرجان» اللذان يعنياني هنا هما قريتان صغيرتان تقعان في شمال شرق مصر بمحافظة كفر الشيخ، وأغلبية سكانهما من الصيادين الفقراء الذين لجأوا الى الصيد في البحر المتوسط كمصدر للرزق، ثم شيئا فشيئا حولوه إلى عائق عليهم عبوره لتحقيق حلم «الهجرة الى الشمال».

القرية الأولى هي «برج مغيزل» التابعة لمركز مطوبس، والقرية الثانية ـ والتي اعتقد أنها تحولت إلى مدينة الآن ـ هي «برج البرلس» التابعة لمركز بلطيم، والاثنتان تتبعان محافظة كفر الشيخ، وكانت أول مرة أسمع فيها اسم «برج مغيزل» أثناء رحلة عائلية إلى إيطاليا صيف عام 2009، وفي ميلانو لفت نظرنا انتشار المصريين في الشوارع والمحلات، وحديثهم بلهجة أقرب للهجة أهل بورسعيد المميزة، وأمام كاتدرائية «الدوما» الشهيرة وقف شاب مصري الملامح وسط مجموعة من أقرانه، ولم يكن الأمر بحاجة لذكاء ليعرف أننا أسرة مصرية، فسارع لمحاولة بيعنا عدة أكياس صغيرة تحوي طعاما للحمام المنتشر في الساحة، وتدلت من عنقه كاميرا، من النوع ذي الصور الفورية التي عفى عليها الزمن، وقبل أن أشيح بوجهي مبتسما ومعتذرا تطبيقا لنصائح جميع الأصدقاء، لمحت نظرة عتاب وتشجيع على مساعدته في عيني ابنتي الوسطى «مريم»، ففعلت ما أمرت به عيناها، ثم سألته بفضول صحافي عن قصته.

جلسنا على سلم «الدوما»، وحكى أنه يدعى «جمال» من «برج مغيزل»، درس العلوم وتفوق فيها، لكن كالعادة حصد أبناء الأساتذة فرص التعيين كمعيدين، وأصبح هو مدرس ثانوي محبطا، حتى جمع مبلغا من الدروس الخصوصية أعطاه لسمسار ألقى به في مركب متهالك «حدفه» على شاطئ إيطالي.. وانتهى به المطاف هنا ببيع طعام الحمام والصور الفورية!

ومثل «جمال» الآلاف، منهم من ذهب وليمة لأسماك البحر، ومنهم من تحول الى فريسة لتجار الأعضاء البشرية، ومن أسعده حظه ـ وربما أتعسه ـ قبع شهورا في سجون إيطاليا ثم خرج الى شوارع لا ترحم، ونزر يسير تمكن من الحفاظ على إنسانيته وكرامته.

الحكايات معروفة، وملخصها شراء «المعلم» أو السمسار لمركب متهالك، ثم يجمع الأموال بما يوازي 5 أو 6 أضعاف قيمة المركب يدفعها راغبو الهجرة، ثم يسلم المركب إلى أحدهم الذي ينتظر به خارج المياه الإقليمية، فيما يقوم «السمسار» بتحميل «المهاجرين» في مركب صيد «كبير وقوي»، ثم فجأة يسلمهم للمركب المتهالك لاستكمال الرحلة.. التي غالبا ما تنتهي في قاع البحر، أو في سجون أوروبا!

.. إذا كنا نعرف كل هذه التفاصيل، فلماذا فشلنا في القضاء على «تجارة البشر» هذه؟.. ولماذا لا تبذل الأجهزة المعنية الجهد الكافي لاصطياد «رؤوس الشر» من السماسرة وإحكام الرقابة على شواطئنا وحدودنا البحرية؟ وقبل ذلك كله.. لماذا لا نوفر لهم فرص الحياة الكريمة؟!

أم إن أرواح شبابنا مازالت «رخيصة» كما كانت؟!

وحفظ الله مصر وأهلها من كل سوء.