أبي...
 بقلم/اسامة ابوزيد
 حان وقت السفر.
 ذهبت للسلام على أبي. كان حزينا كعادته في الفترة الاخيرة. قال وأنا احتضنه استعدادا للمغادرة: كلكم سافرتم، حتى ابن عمكم الذي اعتمد عليه في غيابكم، فمن الذي سيسير منكم في جنازتي؟
 كان ابي محقا في عتبه ولومه. تفرقت واخوتي وأولاد عمي ما بين العاصمة القاهرة وارض الذهب الاسود تحدونا امال واسعة وطموح ممتد لانهائي بحياة افضل ومستقبل ارحب. لم يتبق في البلدة سوى شقيق اصغر بحكم وظيفته وتخصصه. داعبت ابي. تمنيت له طول العمر، وأن يتم الله شفاءه ويمتعه بالعافية والصحة.
 لم تمض سوى اشهر قليلة. هاتفني شقيقي مساء يوم الاثنين وصوته مختنق، بادرته بالسؤال: هل مات (الحج)؟
 كنا نطلق على ابي (الحج). كنا نراه رمزا اكبر كثيرا من كلمة (ابي). فقد كان موجها عاما للغة العربية لمحافظة سوهاج، وقبلها كان موجها عاما للتربية الاسلامية للمحافظة. وهو خريج جامعة الازهر في وقت عز التعليم في مصر، فكيف الحال بقرية صغيرة نائية تقبع في صعيد مصر بالجنوب البعيد؟! وكان إماما للمسجد وداعية وفقيها. وكان رئيسا لجمعية تنمية المجتمع، وعميدا للعائلة.
 قال اخي: لقد تدهورت صحته ويمكنكما النزول الان.
 في منتصف الليل، كنت استقل وشقيقي المقيم في المدينة معي الطائرة المتجهة الى مطار اسيوط. اصابتني برودة الجو الشديدة خارج المطار برعشة عنيفة رغم الملابس الثقيلة، منذ مدة طويلة لم ازر مصر شتاء. حملتنا سيارة اجرة فجرا الى بلدتنا التي تبعد نحو 150 كيلومترا جنوب اسيوط.
 اقتربنا من المنزل. ترك المطر بصماته على الطرق الترابية فبدت لزجة وحلة. كان الهدوء يخيم على المكان. حمدنا الله على انه لم يحدث شيء. في التاسعة من صباح يوم الثلاثاء كنت واخوتي الذين قدموا من العاصمة نلتف حول ابي في المستشفى. ابن عمي كان حاضرا ايضا. هبط مصر قبلنا بأيام في مهمة عائلية.
مساء الاربعاء، حدثت جلبة بين افراد الطاقم الطبي. نقلوا ابي الى جهاز القلب الكهربائي في محاولة يائسة لاعادة النبض الى القلب المتوقف. بذلوا مجهودا فوق طاقتهم مجاملة لشقيقي الاستاذ بالجامعة والمستشفى لكن لكل اجل كتاب، وفاضت الى بارئها روح (أبي) وهي الكلمة التي لم ادرك معناها وعظمتها وجمالها وروعتها وسموها الا بعد رحيله رحمه الله.
 عدنا نحمل ابي الى البيت، في الطريق كنت اتساءل: ماذا سنقول لأمي؟ لقد طلبت منا الا نعود به الا صحيحا معافى، وقد عدنا به جسدا بلا روح. سامحينا يا امي لا نملك من امر الله شيئا. كان الله في عونك.
في العاشرة من صباح يوم الخميس، وفي مثل هذا اليوم (24 يناير) من عام 2008 صلينا على ابي في مسجد القرية الكبير الذي طالما صال وجال على محرابه ، ومحراب غيره من المساجد المجاورة والبعيدة، خطيبا وإماما وفقيها. بعدها انطلقنا غربا الى مقابر البلدة نحمل على أكتافنا جسدا أنهكه المرض. كنا جميعا وراء ابي. لم يتخلف احد...