هناك ثلاثية تاريخية تهدد الاستقرار فى مصر كلما ظهرت.. وعبر عصور التاريخ كانت هذه الثلاثية ترتبط بحياة المصريين فى الوادى الذى لم يتغير كثيرا فى ثوابته، هذه الثلاثية هى الماء.. والطعام.. والدين.. وقد يرى البعض أنها ثلاثية تشترك فيها كل شعوب الأرض.. فالماء هو الحياة والطعام هو الضرورة والدين هو الملاذ والحماية. إلا أن حياة المصريين قد اختلفت عن بقية شعوب الأرض، فالتوحيد والإله الواحد والعالم الآخر والحساب والعقاب كل هذه المعانى والطقوس والمعتقدات ظهرت فى مصر قبل أن تظهر فى أى مكان آخر.. عرف المصريون التوحيد والإله قبل أن تظهر الأديان ويأتى الرسل الذين عرفناهم فى التاريخ.. ومن هنا كان النيل نهرا مقدسا وعلى ضفاف هذا النهر كانت منظومة الزراعة والحصاد والحياة وكل ما حملت من مظاهر التقديس والعبادة.. لم تكن فكرة التوحيد فى معناها فقط عند المصريين ولكن الماء كان مقدسا والزرع مقدسا.. وحتى مواسم الزراعة والحصاد وتدفق مياه النيل كانت من مقدسات المصريين.. من هنا كانت طقوس العبادة تتداخل مع طقوس وفاء النيل وتصير شيئا واحدا مع الحصاد الذى تجود به الأرض على الناس.

ومن أخطر الأسباب التى تهدد استقرار حياة المصريين تلك المخاطر التى تتعرض لها هذه الثلاثية فالدين عنصر خطير جدا فى حياة المصرى.. والنهر المقدس الذى يفيض كل عام هو تأكيد على أن السماء راضية على سكان هذا النهر.. والغذاء الذى يحصده المصرى كل عام هو هبة السماء لسكان هذا الوطن.. فى بعض الأحيان كان الفيضان يتأخر وتتجه القلوب والعيون إلى السماء.. وإذا تأخر الفيضان كانت المجاعات والكوارث.. وفى سورة يوسف «عليه السلام» قصة طويلة مع النهر والماء والجفاف والسنوات العجاف والسنابل الخضراء.. والأراضى القاحلة.. كانت أعياد المصريين تدور حول هذه الثلاثية الدين.. والنيل.. والحصاد..

دارت فى رأسى هذه الخواطر حول هذه الثلاثية القديمة وأنا أتابع ما يحدث فى مصر الآن.. كل الشواهد تؤكد أن رياحا غريبة كئيبة تهب علينا فى هذه الأيام.. عواصف كثيرة تهدد هذا الكيان الرائع الجميل وهذا الوطن الذى لا يوجد له شبيه.. إنها مصر نسخة وحيدة صاغها الخالق سبحانه وتعالى أرضا ومكانا ودورا تاريخا.. شىء فى مصر يحدث الآن.

هناك خلل كبير فى أكثر من منظومة وهناك أياد خفية تعبث فى مناطق كثيرة فى هذا الكيان.. وإذا عدنا إلى هذه الثلاثية: الدين والماء والطعام.. سوف نضع أيدينا على أسباب الظاهرة.. اختلال فى قضايا الدين.. وأزمات فى مستقبل النهر الخالد.. وعناء يومى للمواطن المصرى لكى يوفر لنفسه وأبنائه طعاما مناسبا.

ما حدث فى الأيام الأخيرة من سجال بين المسلمين والأقباط صدرت بيانات وإدانات ومظاهرات واعتصامات واعتذارات.. عندما كان الدين فى مكانه احتراما وتقديسا كان كل إنسان مصرى يدرك قدسية هذه المعتقدات.. كل الأديان تجمعت فى مصر ولم يكن أحد يسأل عن دينه.. وكثيرا ما جمعتنا صداقات وزمالة عمل ونحن لا نعرف دين أصدقائنا أو زملائنا وكنا أحيانا نتساءل هل فلان مسلم أم مسيحى؟ ولا تنتظر الإجابة.. منذ شهور ظهرت قصة فى الصحافة المصرية عن طبيب ألمانى هارب من عصر النازى فى ألمانيا كان يعيش فى أحد الفنادق الصغيرة فى شارع بورسعيد.. كان هاربا من حكم بالإعدام وعاش خمسين عاما فى مصر دون أن يسأله أحد رغم أن هناك أكثر من جهة دولية كانت تطالب برأسه.. ومات ودفن فى مصر ومعه أسرار خمسين عاما عاشها فى أرض الكنانة وكم من الشعراء والأدباء الأجانب الذين اختاروا مصر وطنا دون أن يسأل أحد عن ديانتهم وأوطانهم، بل إن أسرة محمد على التى حكمت مصر مائة وخمسين عاما لم تكن مصرية.

فى السنوات الأخيرة تغيرت أحوالنا كثيرا.. بدأ الاهتمام بالمظاهر مع فساد الجوهر.. تحولت الأديان والعبادات عندنا إلى مظاهر شكلية فأصبحنا نتحدث كثيرا فى الأديان رغم أن تصرفاتنا وسلوكيات حياتنا أبعد ما تكون عن جوهر هذه الأديان.. إننا نتحدث كثيرا عن الحرام والحلال رغم أن الحرام هو الأقوى والأكثر انتشارا وتأثيرا.. نتجادل ونختلف حول بناء المساجد والكنائس ونتوسع فى ذلك رغم أن العبادات عندنا لا تمثل أبدا مقياسا حقيقيا للسلوكيات.. فنحن نصلى كثيرا ولا تترك هذه الصلوات أى مظهر من مظاهر الالتزام فى معاملاتنا.

تجرأت جماعات كثيرة على قدسية الأديان تشبها بالغرب وترويجا لثقافة تشويه الأديان وانتقادها بالحق والباطل أو جهلا وعلما.. وزادت درجة الاجتراء على الأديان حتى وصلنا إلى انكار النصوص السماوية أو انتقادها والتشكيك فيها.. كان البعض يرى أن ذلك يدخل فى نطاق حرية الرأى والفكر والعقيدة والحوار والاختلاف وكل هذه المسميات.. ولكن الفارق كان كبيرا بين أجيال سبقت، كان الحوار سبيلها للاختلاف وأجيال أخرى أفتت بغير علم وعارضت بغير فهم وتجرأت بلا إيمان.

ليس مطلوبا أن نفكر كما يفكر الآخرون وإذا كانت أوروبا قد خاصمت الأديان وتجرأت على مقدساتها منذ أزمنة بعيدة فليس من الضرورى أن نتشبه بهؤلاء خاصة أن أوروبا كلها لم تشهد ميلاد نبى ولم يعبر على ترابها رسول ولم تكن يوما أرضا للأنبياء والرسل.. إن الأديان عندنا ليست مجرد رسالات وكتب وأفكار سماوية حملها أنبياء البشرية ولكنها عندنا أرض وتراب وتاريخ ورموز وشواهد.. وإذا تنكرنا لأفكارها طاردتنا أماكنها ورموزها وإذا تجرأنا على دعواتها فكيف نتجرأ على ثوابتها وهى تعيش فى ضمير الناس وتسكن أفئدتهم.. ليس معنى ذلك أن نرفض الاجتهاد أو الحوار فى قضايا الدين فكرا أو سلوكا أو عقائد ولكن هناك فروقا كبيرا أن أجادل عن إيمان وأن أتجرأ عن جهل، أن أناقش عن يقين وأن أعارض عن رفض.

وصلت بنا الأحوال أحيانا إلى مناطق تجاوزت حدود الاجتراء ودخلنا مناطق التطاول وهنا كان الصدام بين أبناء العقائد المختلفة تحت دعاوى الجدل والحوار والاختلاف، ودخلنا منطقة أخرى هى تطاول أبناء العقيدة الواحدة على ثوابتها.. ومن هنا وجدنا من يحارب الإسلام من بين صفوفه ومن يرفض المسيحية من بين أبنائها.. وفى هذا السياق كان من السهل أن تصل المواجهة إلى صدام بين أبناء العقيدة الواحدة ثم تتجاوز لتصير سجالا بين أبناء العقيدتين ولم يكن غريبا أن نشاهد مظاهرات ضد الكنيسة.. ومظاهرات أخرى ضد الدولة تحمل راية الإسلام وكان من السهل فى هذا المناخ أن تكون هناك لحظة صدام غير معروفة الهدف أو الاتجاه.

والغريب فى الأمر أن هذا الاختلاف ولا أقول الصراع أنتقل من عقول الناس ومظاهراتهم ليصبح تيارا أساسيا فى الفضائيات التى اقتحمت كل بيت وأصبحت منابر واسعة لكل من أرد أن يفتى أو يهاجم أو يختلف.. فتحت الفضائيات أبوابا كثيرة للتجاوزات وأعطت فرصا واسعة للتطاول وهنا انزلقت أسماء كثيرة فى مواجهات افتقدت روح الحكمة وسماحة العقائد ووجدنا أسماء كثيرة لا علاقة لها بالدين أو الثقافة تتحدث فى قضايا غاية فى الحساسية ولا يردعها أحد.

لم يتوقف ذلك على الفضائيات ولكن تحت دعوى حرية الصحافة وجدنا عشرات القصص التى أشعلت النيران وفرقت الصفوف وفتحت أبوابا كثيرة لمزيد من التطاول تحت راية الدين.. كان نشر الكثير من القصص الدرامية سواء كانت حقيقية أو مختلقة جريمة فى حق حرية الصحافة وحق المجتمع بصورة عامة.

وللأسف الشديد فى الوقت الذى كنا نتمنى فيه أن تتسم مواقف رجال الدين بالحكمة والترفع والحرص على قدسية الأديان وقدسية الوطن وقع بعضهم فى سلسلة من المهاترات زادت من حدة المواجهات واشعلت نيرانا كثيفة كان المجتمع فى غنى عنها.. حدثت تجاوزات وتصريحات من هنا وهناك أساءت لعقائد البعض واستخفت بمقدسات البعض الآخر وهنا دخلنا فى مناطق الإدانات والاعتذارات وكلها ظواهر سلبية تؤكد أن هذا الدخان الكثيف يخفى وراءه نيران أكثر وأخطر.

لا بد أن نعترف أن تراجع هيبة الدولة فى أحيان كثيرة قد شجع البعض لأن يتجاوز.. وهيبة الدولة هنا لا تعنى الجانب الأمنى ففى قضايا الدين والفكر ينبغى أن تسود لغة الحوار وليس عصى رجل الشرطة.. كان العلاج الأمنى أحيانا على حساب لغة الحوار حتى ان تجاوزت لأن الحوار فى النهاية هو أفضل الطرق حين نتحدث عن ثوابت الدين أو مناطق الفكر رفضا أو خلافا أو اتفاقا، يضاف لذلك أن المناخ السياسى خنق كل الاتجاهات المعارضة بكل ألوانها سواء كانت فكرية أو سياسية ولم يعد أمام الناس غير الكنائس والمساجد التى وجدوا فيها الملاذ والامن والحماية.

أن اغتيال النشاط السياسى فى مصر ترك مجالا واسعا للشطط الدينى والتطرف بكل أشكاله بين الأجيال الجديدة.

هناك جانب آخر لا بد أن نضعه فى الاعتبار وهو أن الحالة الاقتصادية ومعاناة المواطنين تركت آثارا بعيدة على حياة الناس.. إن المواطن المطحون فى بيته وعمله حيث تحاصره نيران الأسعار والبطالة والفقر وعجز الخدمات والتفاوت الطبقى الرهيب بين سكان المنتجعات وضحايا الخنازير هذا الواقع الاجتماعى الشديد الضراوة ترك آثارا بعيدة على الحالة النفسية والعصبية فكان انفلات الأعصاب واحتقان المشاعر والرغبة فى تحدى هذا الواقع المؤلم.. فى أحيان كثيرة لا يحتاج الإنسان إلى مبررات فكرية أو عقائدية حتى يثور ويخرج للشارع، إن واقعه الاجتماعى والاقتصادى وما يفرضه من ضرورات وأزمات ومآس يجعله فى أحيان كثيرة فى حالة تمرد على كل شىء حتى على نفسه.

ولعلنا نلاحظ كيف تغير الشارع المصرى فى السنوات الأخيرة أمام الضغوط الاجتماعية المفروضة عليه.. لقد زاد حجم الاحتجاجات والمظاهرات ودرجة التمرد والرفض والعنف بل الجريمة فى سلوكيات الناس.. وفى هذه الحالة أخذ التمرد أشكالا عديدة سواء كان تمردا ضد الدولة أو ضد الآخرين مهما كانوا أو تمردا على الحياة بشكلها وصورتها القبيحة.

كان من السهل أن تتحول مظاهر التمرد والرفض والاحتجاج على هذا الواقع الاجتماعى والاقتصادى المختل لتأخذ أشكالا أخرى حتى ولو تداخلت مع المشاعر الدينية مادام هناك من يعبث فى هذه المناطق فى وسائل الإعلام والفضائيات وأحاديث تفتقد الأمانة أو تصريحات تفتقد المسئولية.

فى ظل هذا كله كنا نكتفى بالمصافحات والقبلات بين رموزنا الدينية فى الأعياد والمناسبات رغم أن الشارع يغلى.. ولا شك أن دور المؤسسات الدينية خاصة الأزهر والكنيسة ينبغى إن يتجاوز هذه المصافحات لنصل إلى معالجات حقيقية لأزمات كثيرة واضحة ومعروفة ولا تجد من يقترب منها.. إن دور فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر وقداسة البابا شنودة بابا الكنيسة ينبغى أن يتجاوز مصافحات المناسبات الدينية والاحتفالات بالأعياد لأن الموقف أخطر بكثير من كل هذه المظاهر والطقوس.

والغريب أن مؤسسات الدولة تعبث كثيرا فى هذه المناطق دون إدراك لخطورة ما تفعل.. فى التعليم نحاول تغيير المناهج ونستبدل التربية الدينية بمادة جديدة تسمى الأخلاق.. لماذا نعبث فى هذه المناطق ولمصلحة من؟ لماذا لا يدرس التلميذ المسلم كتاب التربية الدينية؟ ولماذا لا تخصص حصة للتلاميذ المسيحيين لدراسة ثوابت دينهم؟ ولماذا لا تكون هناك حصة دين مشتركة للاثنين معا المسلم والمسيحى ليتعرفا على تلك المناطق الكثيرة التى يلتقى فيها الإسلام والمسيحية؟.

فى جوانب أخرى نجد استخفافا كبيرا بعقول المواطنين أن يقضى الشعب المصرى شهرا كاملا وهو غارق فى مسلسلات وبرامج لا تضيف لعقله شيئا.. إن الإعلام المصرى يرسخ البلاهة والتخلف.. والتعليم لا يفرق بين ثوابت الأديان وظواهرها وثقافة «الهشك بشك» لا يهمها عقل المواطن ولكن كل ما يعنيها المزيد من الاحتفالات والمهرجانات والولائم.

يمكن لنا الآن أن نتصور حجم المأساة الحقيقية حيث لا ثقافة ولا إعلام ولا تعليم ولا شعب يقرأ ويكتب.. فى ظل هذا الواقع المتخلف تنمو حشائش التعصب وتكبر أشجار الصراع ويأخذ الاختلاف فى الدين أشكالا غريبة تتعارض تماما مع سماحة الأديان وقدسيتها.

سوف تبقى الأمية فى الشارع المصرى من أخطر الأمراض التى يعانيها الإنسان المصرى فى فكره ودينه وحواره وثوابته.. حين يظلم العقل بالجهل لا شىء يضىء هذه الحياة بما فى ذلك نور الأديان ووهج الحقيقة.

إن ما يحدث فى مصر الآن من ظواهر غريبة يحتاج إلى وقفة عاقلة وحكيمة من أهل الفكر والدين والثقافة حتى لا تتحول هذه الظواهر إلى أمراض اجتماعية وفكرية تعانيها مجتمعات أخرى وحملتها إلى مخاطر كثيرة.. لم يكن اختلاف الدين فى مصر فى يوم من الأيام يمثل مشكلة أو أزمة.. ولم يكن التعصب من صفات الشعب المصرى.. ولم تبخل مصر أبدا على أن تحتضن كل صاحب فكر أو دين أو عقيدة.

فى مصر عاش معظم الأنبياء والرسل فى التاريخ القديم وفى قصص القرآن نجد مواكب الأنبياء فى مصر يعقوب ويوسف وعيسى ومريم وموسى عليهم السلام كل هؤلاء عاشوا فى مصر أو عبروا منها.. وفيها سكن آل بيت رسول الله «عليه الصلاة والسلام» الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة «رضوان الله عليهم».

هذه مصر التى توحدت فيها كل الأديان وعاش فيها جميع الأنبياء والرسل وقال سبحانه وتعالى ادخلوا مصر آمنين..

لا ينبغى أن نترك هذه العواصف تفسد علينا حياتنا وتضلل طريقنا وتدخل بنا إلى متاهات من التعصب الأعمى والجدل العقيم.

إن مسئولية الدولة أن تستعيد هيبتها أمام الجميع ولا تفرق بين هلال أو صليب.. إن الهيبة ليست فقط فى قوات الأمن ولكن فى توافر الدور والمسئولية ثقافة وتعليما وإعلاما.

إن مسئولية رجال الدين مسلمين ومسيحيين أن يكونوا القدوة والنموذج فى لغة الحوار والترفع والحرص على أمن واستقرار هذا الوطن..

إن مسئولية أهل الفكر والثقافة أن يبحثوا عن طريق آخر لتحقيق أمجادهم الفكرية بعيدا عن التطاول على الأديان لأن كل من حارب الأديان فى هذا الوطن خسر المعركة.

أما الإعلام والفضائيات والصحافة فيجب أن تكون أكثر حرصا وحذرا وهى تتعامل مع قضايا الدين فكرا ورموزا ورجالا.

نأتى إلى الثلاثية التى بدأنا بها هذا الحديث.. الدين.. لله والوطن لنا جميعا.. والنيل مادام يجرى سوف تبقى الحياة.. والطعام مأساة عصيبة فى هذه الأيام مع حكومة غائبة.. وأسعار لا ترحم.. وغابة يأكل القوى فيها الضعيف ويضيع سكان العشوائيات فى صخب أصحاب المنتجعات.. وربنا يستر.