لم ينجح أحد
بقلم/ أحمد المنسي
 
معيار نجاح اي إدارة هو التقدم بالمؤسسة والارتقاء بها وتحسين أوضاعها وتحقيق أهدافها المرجوة. ومعيار نجاح إدارة الدول هو ارتفاع مستوى معيشة الفرد وتحقيق السلام الاجتماعي والارتقاء بأداء المؤسسات والخدمات وتنشيط العمل العام ومشاركة المؤسسات المدنية التي تعمل على النهوض بالأمة , وكذلك الحفاظ على مقدرات الأمم والشعوب وحمايتها من أي عدوان خارجي, والاهتمام بالصحة والتعليم والبحث العلمي , وبالتأكيد الحفاظ على كرامة المواطن بما يؤدي إلى تعزيز الانتماء الوطني والانتصار النفسي الداخلي للأفراد والمجموعات , وبالطبع قوة النقد والعملة المحلية . وإذا طبقنا هذا المعيار على الدولة المصرية الحديثة والإدارات والحكومات المتعاقبة عليها ستكون النتيجة ( لم ينجح أحد ). إذ أن التراجع والتخلف والقهر والتضخم الاقتصادي والفشل مصاحبا للجميع بلا استثناء , وأكبر دليل على ذلك ما نراه من مشاهد في شوارع تملأها المخلفات , وسلوكيات لا تمت للقيم الإنسانية بصلة. المكاتب الإدارية البالية المهترئة في الوزارات ومؤسسات الدولة , المستشفيات العامة والوحدات الصحية بشكلها الذي يرجع للستينات , في الوقت الذي تصرف فيه المليارات من أجل انتصار وهمي على أشلاء الناس بالقتل والهمجية , في حين ينتشر العوز والجهل والفقر والبلطجة وغياب القانون وفقدان القيم . لم ينجح أحد مصر التي تعد أقدم حضارة على وجه الأرض , أرض الرسالات السماوية وأعرق الحضارات الأرضية.
 
 مصر التي علمت العالم فن الكتابة والنحت والرسم والطب والهندسة والعمارة والفلك , مصر التي صدرت للدنيا العلم والفن والأدب والحضارة والدين والأخلاق , ووقفت حاضرة شاهدة على حضارات العالم كله , مصر التي أنشئ لها علم خاص باسمها يسمى (علم المصريات), مصر التي كانت دائما مطمعا للشرق والغرب من حلم هوميروس إلى وهم بني صهيون مرورا بحملات وغزوات وسنوات عجاف من الاحتلال والاضطهاد من الداخل والخارج , مصر التي تضج بالعباقرة والفلاسفة والأدباء والعلماء , مصر التي تنضح بالخير ولا ينضب لها معين, مصر التي كانت دائما عاصمة الثقافة والفن والأدب والرياضة, لماذا يقدر لها اليوم أن تكون في ذيل الأمم ؟ أن تتأخر ويتقدم من هم دونها ؟
 
مصر اليوم التي يجهل ابناؤها تاريخها وجغرافيتها ومواردها وعبقريتها و ريادتها . لا يرون منها إلا السوءة , فصار الفن سوء , والأدب سوء , والطب سوء , والعلم سوء , والأمن سوء , والهدف سوء , والظن سوء. في جملة هذه السوءات جميعها يوحي بعضنا إلى بعض زخرف القول غرورا , كلنا متهمون, وكلنا متآمرون , لنظل في حالة دفاع عن النفس دائمة ومستميتة , نتحدث عن انتماءاتنا السياسية والحزبية والفكرية منصرفين عن طريق النمو والارتقاء منشغلين بصغائر الأمور, لأن المقصود أن تنهزم النفوس ويدب اليأس في أرجائها , ويفقد المرء عقله ودينه فيصير مسخا أو تشويها, وقد كان . لم يعد الانسان المصري انسانا يعرف الحضارة والرقي , وإنما يعرف أسباب السقوط ورموز الجهل والهمجية والكذب والتدليس , ويبتهج بهم ويصفق لهم لعله يجد دورا في طوابير العته والنفاق والتبعية بعد أن فقد كل دور يدل على أنه واحدا من بني البشر يحمل جنسية أعرق دولة في التاريخ . لم ينجح أحد فسدت القرائح فاستحسنت مشاهد المخلفات في الطرقات لم تحرك في الناس شعرة, حتى عجز الناس بعجز الحاكم عن حل مشكلة بسيطة تحتاج إلى جهد بسيط وأدب راق وسلوك متحضر. وإن كان الله عز وجل يزع بالسلطان ما لم يزع بالقرآن فإن سلاطين مصر وحكامها لم يزع الله بهم عند الناس وازع خير قط , وإن كان الناس على دين ملوكهم – أي أخلاقهم- فإن العار ثوب المذكورين والمحصلة النهائية... لم ينجح أحد . ورد في مقال للأستاذ محمد سلطان الآتي : نقرأ يوميا في الصحف أخبارا مؤلمة عن الفقراء : ( انتحر لفشله في الحصول على عمل) ..( انتحر لأنه لا يستطيع الإنفاق على عياله ) ..( غرق الشباب في الطريق إلى ايطاليا )..( اقتتال الفقراء على أماكن التسول )......وآخر هذه الأخبار منذ أيام..: ( أم قتلت طفلتها ضربا لأنها أضاعت خمسين جنيه ).. الأم الفقيرة انفعلت في نوبة غضب انتهت بمصرع الطفلة..الأم قالت : ( لم نكن نملك سوى الخمسين جنيه..ولا نعلم متى سنحصل على نقود أخرى ) .. هذه الأم هي اليد التي نفذت الجريمة لكن الفاعل الأصلي هو من تسبب في هذا الوضع الحرج الذي أدى إلى ظروف الجريمة... وأبلغتني صحفية زميلة أن هناك من الأسر في العشوائيات من لا يعرف الشبع لبطنه طريقا ولو لمرة واحدة, لا يجد ما يقتات به ولا ما يسد جوعه أو يستر عورته. وأعداد هؤلاء الناس في مصر كبيرة جدا .
 
هذا جزء يسير من وجه مصر الكالح كوجوه حكامها, وجه يحمل معالم الفشل وخيبة الأمل والضياع , يحمل الخزي والعار والانكسار والخجل لكل مصري ومصرية أمام الشعوب الأخرى. منذ ما بعد محمد علي حتى يومنا هذا والدولة المصرية في انهيار دائم وتراجع مستمر , تتقدم الأمم ولا تتقدم, تتغير ولا تتغير مصر أبدا إلا إلى الأسوأ, المؤشر دائما يتجه لأسفل. في الأزمات .. المواطن خاسر , في حالات الرخاء النادرة .. المواطن خاسر, إذا انخفض سعر الدولار أمام الجنيه يوما من الأيام .. المواطن خاسر, في الظل والحر , في السر والعلن, في الليل والنهار .. المواطن خاسر. ولا يحسبن المصري يوما أن شيئا ما يحدث قد يسره, وإذا – معاذ الله – ظن يوما أن ذلك سوف يحدث فسرعان ما يدرك أنه كان في حلم أو وهم , وعليه أن يتوب ويرجع إلى الله , ويغسل يديه سبعا إحداها بالتراب , وأن هذا الوطن سيظل هكذا أبدا.
 
حكامنا ليسوا كالحكام , حكامنا ضرورة قدرية حتمية, لا مثيل لهم ولا شبيه , هذا زعيم وذاك قائد وذلك عبقري وآخر ملهم , والنتيجة ... ( لم ينجح أحد ) وبرغم روعة مصر , وتاريخ مصر وجغرافية مصر ورجال مصر مازلنا نبحث عن حاكم لا يعرف الفشل , لا يعرف الطمع والجشع , يَسْـلَم من أمراض العظمة والجنون والبهاق والبرص, يسلم من الأوهام والأسقام . ما زلنا نبحث عن حياة لمصر , نبحث عن وجهها الأنور الأزهر الأصفى , نبحث عن أسباب العدل , نبحث عن معالم الحضارة والعلم , نبحث عن دولة اسمها مصر. ملاحظة مهمة: القول ( يزع الله بالسلطان ما لم يزع بالقرآن ) ليس بحديث لكنه من كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه , وقيل من كلام عمر رضي الله عنه. والقول ( الناس على دين ملوكهم ) ليس بحديث فقد قيل أنه من كلام الحافظ بن حجر وقال بعضهم هو لعلي رضي الله عنه.