بالأمس كنت في حولي (عاصمة الضباب) أو تستطيع أن تسميها (نيويورك الكويت) حيث لي فيها صديق وافد يعمل في كافيتيريا بسيطة فيها لوحة مكتوب عليها الكثير من أصناف المشروبات ولكن لا يقدم منها سوى صنفين هما شاي وقهوة، وأحياناً تقدم مشاريب أخرى، ولكن ليس كما يشتهي الزبون، بل كما يرى صديقي المشروب المناسب لحالته المزاجية.
بالأمس جلست عنده، وتبادلنا النظرات من دون سلام أو كلام، فقدم لي القهوة ثم ساد الصمت المكان وكأن على رؤوسنا الخفافيش، وفجأة ومن دون مقدمات، قال لي (الغربة صعبة!) فقلت له فوراً (ولكنك تضيع وقتك بين طلبات الزبائن وأشكالهم). نظر نظرة غريبة وبدا وكأنه سيعطس في وجهي ولكنه بدلاً من ذلك قال لي (عليك أن تسمي الأشياء بمسمياتها، فأنا لا أضيع وقتي، ولكني أضيع عمري، فمنذ ست سنوات وأنا مكانك سر).
هزتني العبارة من الداخل وأحسست بإعصار ينهش عقلي وقلبي، وكأنه عطس فعلاً ولكن في روحي، وتساءلت في نفسي سؤالاً فلسفياً يليق بالقبعة التي أرتديها (انظر صورتي البائسة في المقال)! هل يعقل أننا نتحايل على أنفسنا باللغة ولا نسمي الأشياء بمسمياتها؟ فما بين (أضيع وقتي) و(أضيع عمري) فرق عملة كبير.
يبدو أننا فعلاً نتحايل على أنفسنا باللغة، فالحفَّافة أصبحت (ميكب أرتست)، ومندوبة التسويق أصبحت (فاشينستا)، ومن يتاجر بعرق ومجهود وسنين العامل الوافد البسيط أصبح (تاجر إقامات)، بينما إذا سمينا الأمور بمسمياتها فسنطلق عليه (تاجر أحلام بشرية)، لأنه يشارك العامل في كل دقيقة عمل وكل ساعة نوم، حتى الأحلام يأخذ عليها ضريبة من أجل أن تتحقق.
ما هذا العبث؟ ندعي أننا نكرم الإنسان ونخاف عليه ولذلك نحارب تجار المخدرات لأنهم يهدمون مستقبله، بينما لا نحارب تجار الإقامات بالقوة نفسها وهم يهدمون حاضره.
1200 إلى 1500 دينار هي تسعيرة هدم هذا الواقع، وتجديد هدم هذا الواقع يقدر بـ300 دينار للسنة الواحدة. تجارة رائجة وأرباحها مضمونة للكفيل، خصوصاً وأنه يتعامل مع أناس تخاف من كل شيء وعلى كل شيء، أناس لم يودعوا أبناءهم كي لا يرونهم يبكون، فيبكون معهم، أناس وعدوا أمهاتهم وزوجاتهم أنهم سيجلبون لهم الخير من بلاد الخير.
ورغم أن هذا الخير يستقطع من دمه ولحمه وحاله كحال (سيخ شاورما) كلما نقص بدا بدنه ألذ وأطيب، إلا أنه لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة حتى لا يتم تسفيره من هنا.
نحن شعب كريم وتحكمنا أسرة كريمة ونعيش على أرض كريمة، فلا يصح أن نحسن صورتنا في الخارج، بينما الداخل مشوه بتجارة من هذا النوع. فاقضوا على هذه التجارة قبل أن تقضي هي على سمعة هذا الوطن، وأنا أعلم أن الوزيرة هند الصبيح أطال الله بقاءها وكبت أعداءها تعمل جاهدة من أجل القضاء على هذه الظاهرة ولكننا نطالبها بالمزيد.
واعذرني عزيزي القارئ لأنني أسهبت في موضوع الإقامات.
المهم، بعد أن شربت قهوتي وكتبت مقالتي ولملمت أوراقي قلت لعامل الكافيتيريا (بما أننا نتحايل على واقعنا باللغة فأنت من اليوم لست عامل مطعم، ولكنك مسؤول بوفيه).
وعندما هممت بالخروج قلت له: «أتمنى لك أحلاماً سعيدة»، فنظر إليّ نظرة مريبة بدت عيناه فيها ضيقتين، ثم قال «ولماذا دائماً الأحلام هي ما يجب أن تكون سعيدة، لماذا لا تتمنى لي واقعاً سعيداً؟».
وكانت هذه عطسته الثانية... «وعطستان في الروح...توجعان!».
قصة قصيرة:
عندما يُقبّل عضو برلمان وزير حكومة... فالشعب سيبكي!
كاتب كويتي
moh1alatwan@