محمد مرعي يكتب عن عاشقة مصر

الاستاذ/محمد مرعي
 
الكاتبة الصحفية الكبيرة غنيمة المرزوق انتقلت إلى رحاب الله.. كانت - رحمها الله- عاشقة لمصر: الشعب والتاريخ والحضارة والنيل، عاشت في القاهرة تدرس الصحافة في قسم الصحافة بكلية الآداب بجامعة القاهرة.. تتلمذت على يد الكاتب الكبير المرحوم مصطفى أمين، ودكتور عبداللطيف حمزة، ودكتور أحمد حسن الصاوي.. زاملت الكاتبة الصحفية الأديبة سكينة فؤاد.. قال لي المرحوم الدكتور الصاوي انه سعيد بأن غنيمة المرزوق، وسكينة فؤاد، وسناء البيسي من بين تلاميذه.. قدم - رحمه الله- دراسه عن مجلة (أسرتي) التي أسستها غنيمة المرزوق كأول مجلة تصدر في الخليج عن الأسرة والمرأة.. وتحتل التجربة الثانية في الصحافة الأسرية على مستوى الوطن العربي بعد حواء المصرية.. عاشت غنيمة - رحمها الله- بمصر على زمن جمال عبدالناصر الذي أحبته كمواطنة عربية لقائد عربي أعطى كل كيانه لأمته العربية.

وفيما يلي نبض غنيمة المرزوق - رحمها الله- في حبها لمصر سجلته في الكلمات التالية التي تشكل سيفونية في حب مصر:

سيمفونية في حب مصر

أيامنا الحلوة فيك حيَّة بداخلنا

بزعامة عبدالناصر

عرفنا روعة الحلم بالأمة الكبيرة
 

بقلم: غنيمة المرزوق

يا قاهرة.. ها أنا أعود إليك بعد هذه السنوات، يا للذكريات البعيدة والقريبة في شوارعك وأحبابك ومؤسساتك! كل شيء هنا يحدثني، يرمقني، يحتضنني، ليس عندي من فترات العمر أحلى من فترة عشتها فيك.

وتواصل غنيمة المرزوق:

عشر سنوات مضت عندما جئتك أول مرة للدراسة مفتوحة القلب والذهن والعيون، ليس هناك أروع من تلك الفترة من فترات العمر، ولا أعمق من أحاسيسها، كل شيء كان باهرا، عميق الرائحة، رائع الأحلام، والعمر كله بعد ذلك كان محاولات لتحقيق الأحلام، ننجح فنفرح، نتعثر فنصاب بالكآبة، نغمض العيون ونعود للوراء للحظات الوردية التي عشناها في القاهرة.

وتمضي غنيمة المرزوق في أغنية عشقها لمصر:

يا قاهرة:

أيامنا فيك هزتنا من الأعماق، عرفنا معنى وعظمة أن يكون كل عربي جزءا من كل، وكيف ينبض كل قلبه من خلايا الجسد حماسا وفرحا لكل انتصار، عرفنا روعة الحلم بالأمة الكبيرة والمستقبل العظيم، وبعد ذلك عرفنا أحلى ما في حياتنا الانسانية من سعادات الصداقة والحب، لذلك فإنني عندما أسبح في محيطك البشري أشعر أنني أتلمس ذاتي، ذاتي القديمة النضرة الخضراء التي لا تُنسى.

وتواصل غنيمة المرزوق أغنية العشق لعاصمة مصر.

«أيامنا الحلوة فيك حية بداخلنا، هل تعلمين أيتها المدينة العظيمة الحزينة أننا بعيدا عنك نتذكرك، نموت حنينا إليك ولك»؟

}}

وتمضي غنيمة المرزوق:

هبطت الطائرة، معي أبنائي، ارتجفت قدماي، ساحة المطار مزدحمة بالاشياء والناس والصراخ والتعليقات حفيفة الظل، كدت أضحك منها، لكنني ارتجفت عندما رفعت رأسي، رأيت صورته هناك فوق الرؤوس، انه يبتسم ابتسامته الحانية التي كانت في أشد لحظات الحلكة تعني انتصار الأمل، انه «جمال عبدالناصر» صورته أمامي تملأ ساحة الضجيج بفراغ أفزعني، فنحن جميعا بدونه، كل شيء فيك يا قاهرة موجود وغير موجود.

بِصِدْق أحكي:

عندما كنت أقتحمك، كنت أشعر بأنني ابنة العائلة التي غابت عن عائلتها، ثم تعود لبيت يملؤه أبوها عزا وحنانا، لكنني اليوم شعرت بشعور آخر.. شعور «يتيمة» عادت لتجد فراغاً يستحيل تصوره! شعرت بدموع تنسكب بطيئة ممزقة بداخلي.. وهكذا التقينا على حزن فادح يا أمنا الطيبة.

نستقل التاكسي الذي يمرق بنا في شوارعك، وجوه الناس جامدة متجهمة، شعوري شعور طفل يواجه الدنيا وحده، أغمضت عيني المرهقتين بقية الطريق، وغبت عن صور بدت لي بعيدة جدا.

وتواصل غنيمة المرزوق:

وجدت نفسي في «الأوتيل» مرهقة تماما، غارقة في أشيائي وأشياء الصغار، انشغلت في التفاصيل، ليس في ذهني خطة معينة، قررت أن أزور ضريح عبدالناصر، انخلع قلبي، توقفت حواسي، سألت نفسي لماذا لم أتصور يوما أن يموت؟ استنجدت بكل إيماني بقدرة الله وعظمته وإرادته حينئذٍ، هدأت نفسي.

محنة موت القائد

بعد قضاء ليلتي في الفندق، كان الصباح نديا، يطل من شرفة غرفتي، شعرت بنوع من العافية والقدرة العجيبة، وهي طاقة الحياة بداخلنا، إنها ينبوع غير قابل للنفاد.

بدأت أتصل بالاصدقاء، أسمع أصواتا بعد الغيبة الطويلة لكنها لم تتغير.

وخرجت الى بحر الحياة الجارف خارج الفندق، الإنسان هنا تغير كثيرا، يبدو أن محنة موت القائد قد أخرجتهم من ذواتهم فبدوا أقرب لبعضهم البعض، وأقرب لغيرهم كذلك، انهم يحسون بمصر أكثر، ويحسون بضرورات كانت تبدو غير ضرورية في أحيان أخرى، ضرورة أن يموت الانسان اذا سحبت الأرض من تحته، ضرورة أن يقدم الانسان كل شيء، ويصر على كل شيء، ضرورة أن يشترك بنفسه في عمل ما يجب ورفض ما لا يجب.

وبدا لي أن الشعب هنا يعيش «حالة صوفية» دفعته اليها التجربة المريرة، تجربة هزيمة غير متوقعة بعد مشوار من الانتصارات المتصاعدة، لا أقصد بـ «الحالة الصوفية» النظرة الاتكالية! بل أقصد تجربة حب الذات وفي نفس الوقت الاستعداد للتضحية بها! فالنكسة التي طعنت الوجدان المصري بعمق جعلت الناس يفتحون عيونهم على الخطر الكبير الذي يهدد أمنهم واستقرارهم، انهم يعانون من حالة ولادة جديدة مؤلمة.

}}

وتواصل غنيمة المرزوق:

قابلت رفاق الدراسة، بعد الغيبة الطويلة أصبحن أمهات كل منهن تعمل، الحب بيننا لا يعرف الزيف، الحديث بيننا لا ينتهي، كلنا نسأل، وكلنا نجيب، نجلس ونحاول رسم خريطة للحياة، جمعتنا كلنا الحياة أربع سنوات في مكان واحد، كان هذا المكان جامعة القاهرة، ثم تخرجنا، تفرقنا على وجه الأرض كل في اتجاه مختلف.

بأذني كنت أسمع وأتابع صور الزملاء والزميلات.

أحس في فترة ما أن الحياة مرهقة ومعقدة، لكن لحظات اللقاء مع زملاء وزميلات الدراسة تغسل الإنسان من الداخل، تضحك بصفاء، تفرح بصدق، أشعر بولاء للانتماء الذي يربط بين أبناء دفعتي التي تخرجت بعد انتهاء الدراسة في الجامعة، شعور حقيقي بوجودي بينهم، إنه شعور لا يتحقق إلا مع رفقة طيبة لزمالة قديمة، ننسى كل الاشياء ونعود الى ذاتنا، لمعرفة إجابة عن سؤال يتردد داخل كل واحد فينا:

ماذا فعلنا؟ وماذا فعلت بنا الأيام؟

عودتنا الى ذواتنا بشكل جاد نحتاجها بين حين وحين، لكننا لا نقدر عليها إلا بوجود علاقة حميمة متبادلة، ليجد الإنسان نفسه وجهاً لوجه أمام صورة يحبها.