بورسعيد (الدامية) ... أهكذا أريد لها ... أم منها ؟!

بقلم.. عبدالله متولي
لقبوها بالمدينة الباسلة... وهو لقب استحقته عن جدارة، واسألوا التاريخ عن بسالة وصمود اهلها في الذود عنها، وشجاعتهم في مواجهة موجات العدوان المتلاحقة والمتتالية عليها، حتى اصبحوا مضرب الامثال في الصبر والمثابرة والقدرة التي تصل الى حد الاعجاز - على صد المعتدي وتكبيده الخسائر الفادحة ودحره...
قالوا عنها بلد البطولات والتضحيات... ولمَ لا... وصفحات التاريخ وسجلات العزة والفخار مليئة بعشرات بل مئات القصص الرائعة للمقاومة مقترنة بأسماء المئات بل الالاف من ابنائها الشهداء الذين قدموا انفسهم فداء لوطنهم، ومثلهم او اكثر منهم من كان نصيبهم اصابة او اعاقة او فقد جزءا من جسمه... فهي حقا بلد البطولات والتضحيات... انها انشودة فداء... انها مدينة بورسعيد... هذه المدينة التي لم يكن منذ نشأتها حتى يومنا هذا نصيب من اسمها (سعيد) اللهم إلا في سنوات قد لا تصل في عددها الى اصابع اليدين... تقل او تزيد قليلا... هذه المدينة التي يحار الانسان في فهم مايحدث بها على مدار سنوات وجودها، ما يجعل الاسئلة تتزاحم في عقل كل من يتابع الاحداث الدائرة فيها... هذه الاسئلة تغلفها حالة من الدهشة والاستغراب واحيانا الحزن والغضب وبعض من السخرية... هذه الحالة المتضاربة المختلطة قد يكون السبب فيها هو كثرة الاحداث وسخونتها، وتتابعها وتركيزها في مكان واحد... واغلب الظن ان السبب في هذه الحالة هو كثرة الدماء التي تراق على ارض هذا البلد، وكمية التخريب والدمار التي تلحقه وتصيب اهله.
هذه المدينة ذات المجتمع الحيوي الذي وصف حيويته واهميته (روديارد كبلينغ) بقوله «اذا اردتم ملاقاة شخص ما عرفتموه وهو دائم السفر، فهناك مكانان على الكرة الارضية يتيحان لكم ذلك، حيث عليكم الجلوس وانتظار وصوله عاجلا أو آجلا وهما: «موانئ لندن وبورسعيد».
هذه المدينة لماذا لم يكن لها من اسمها نصيب؟ وهل كل ما يحدث على ارضها من قبيل المصادفة ام هكذا اريد لها ومنها؟!
بداية المعاناة
لقد بدأت معاناة (بورسعيد) يوم مولدها... فقد كان يوم الاثنين الخامس والعشرون من ابريل سنة 1859، يوم ان ضرب اجدادنا اول معول في حفر قناة السويس، هو نفس اليوم الذي اطلق على بورسعيد هذا الاسم لان حاكم مصر وقتها كان الخديوي سعيد الذي تسمت باسمه تيمنا بهذا الاسم لكن يبدو ان ما حدث هو العكس...!
ففي نفس اليوم بدأت المعاناة لاهل بورسعيد كماكانت لكثير من ابناء الشعب المصري الذين قاموا بحفر القناة بالطرق البدائية وتحملوا في ذلك الجوع والعطش والضرب بالكرابيج والسخرة والعمل لاكثر من 14 ساعة في اليوم الواحد، ما ادى الى استشهاد اكثر من 120 ألف شهيد ذهبوا ضحية سوء التغذية وسوء المعاملة والتحميل فوق الطاقة، في عمل استمر لعشر سنوات... وبالطبع كان لبورسعيد من هذا كله نصيب... لكنه لم يكن سعيدا...!
لكن بعد افتتاح قناة السويس في نوفمبر سنة 1869 في عهد الخديوي اسماعيل الذي اقام احتفالات ضخمة دعا لحضورها اكثر من خمسة آلاف شخصية عالمية على رأسهم الامبراطورة (أوجينية) اصبحت بورسعيد بوابة مصر الشرقية والشمالية... وهذا عبء آخر...!
كانت السخرة في حفر القناة الجريمة الاولى للمهندس الفرنسي فرديناردي لسبس، اما الجريمة الثانية فهي سرقته للقناة بطريقة او بأخرى لأجل تمليكها لبلده فرنسا ومعها بريطانيا.
خيانة وغدر
لم يكتف دي لسبس بذلك بل ارتكب الجريمة الثالثة في حق مصر وكان ذلك في اغسطس سنة 1882 عندما أعطى وعدا للزعيم احمد عرابي بأن الانكليز لن يدخلوا مصر عن طريق القناة... لكن الغدر والخيانة جعلا دي لسبس ينكص في وعده وسمح للاسطول الانكليزي ان يرسو امام شاطئ بورسعيد وأطلق نيران مدفعيته على المدينة واصابها اصابات بالغة وهدم منها مناطق شاسعة، وصحيح ان المدفعية المصرية ردت بالمثل لكن الغلبة كانت للاسطول الانكليزي الذي نزلت قواته الى بورسعيد واحتلوا المدينة ومنها انطلقوا زحفا الى مدن القناة الاسماعيلية والسويس ثم الى القاهرة والاسكندرية وبقية محافظات مصر، ومن هنا كانت بداية الاحتلال الانكليزي لمصر والذي استمر 74 سنة منذ العام 1882 وحتى العام 1956.
وطوال هذه الفترة كان الانكليز يعتبرون انفسهم أسيادا والشعب المصري هو العبيد.
وأيضا بدأ الاحتلال الانكليزي لمصر من بورسعيد...! وبدأت فرق المقاومة من شعب مصر تتكون في بورسعيد ضد قوات الاسطول الانكليزي... وسطر الشعب المصري بشكل عام وأبناء بورسعيد بشكل خاص ملاحم تاريخية في النضال ضد المستعمر طول ما يزيد على سبعين سنة تعد من السنوات العجاف في تاريخ الشعب المصري... أكرر لقد كان لبورسعيد الحظ الاوفر من هذه المقاومة كما كان لها النصيب الاكبر من التدمير والتخريب والقتل في ابنائها... نظرا لأنها كانت نقطة البداية... ومنها دخل الانكليز الى مصر... وكذلك لموقعها الاستراتيجي عند مدخل القناة من جهة البحر الابيض المتوسط.
في يوم 25 يناير من عام 1952 دارت المعركة الشهيرة بين قوات الشرطة المصرية ضد الانكليز وأبلت فيها قوات الشرطة بمشاركة الفدائيين بلاء حسنا، ولذلك اتخذ هذا اليوم عيدا للشرطة. هذه المعركة بدأت في الاسماعيلية لكنها امتدت الى بورسعيد ايضا وكانت معركة دامية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
• ملحوظة: 25 يناير هو اليوم الذي قامت فيه ثورة يناير 2011، وكان مقصودا باعتبار عيد الشرطة، وهو اليوم الذي سقطت فيه الشرطة المصرية وخرجت من الميدان، ولم تعد منذ ذاك التاريخ...!
العمل الفدائي
في 23 يوليو من العام 1952 قامت الثورة المصرية وسقوط الملكية وإعلان الجمهورية، وكانت الثورة دافعا لأن يكون العمل الفدائي مشروعا ومدعوما من قبل الثورة، فقد قامت القوات المسلحة المصرية بفتح معسكر في بورسعيد للتدريب على العمل الفدائي تحت مسمى «فدائيو حرس وطني بورسعيد»، وتقدم لهذا المعسكر الكثير من شباب بورسعيد، وتلقوا تدريبات على العمل الفدائي، وحملوا السلاح، وقاموا بمطاردة الجنود البريطانيين في كل مكان داخل المعسكرات وفي الشوارع وفي الطرقات وظلت العمليات الفدائية مستمرة والتي كانت سببا مع عوامل اخرى في عقد اتفاقية الجلاء بين مصر وبريطانيا في 19 اكتوبر 1954، وقد كان من أهم بنودها ان تنسحب بريطانيا من مصر نهائيا في موعد أقصاه عشرون شهرا، وهو ما تم بالفعل قبل موعده في اوائل يونيو سنة 1956، حيث تم جلاء اخر جندي بريطاني من ميناء بورسعيد - ايضاً - في 18 يونيو 1956، واعلنت مصر الجلاء واحتفلت باستقلالها، وكانت احتفالية الجلاء في بورسعيد - ايضاً - وكان على رأس المحتفلين الرئيس الراحل جمال عبدالناصر والذي ذهب الى ميناء بورسعيد في حشد من الفدائيين وابناء المدينة الباسلة وانزل العلم البريطاني ورفع العلم المصري مكانه على الميناء... وسلم عبدالناصر ساعتها (علم الفدائيين) للفدائيين من ابناء المدينة تكريماً لهم وتقديراً لاعمالهم الفدائية والبطولية وما قدموه من تضحيات.
العدوان الثلاثي
رغم انتهاء الاحتلال وجلاء المستعمر الا ان معسكرات التدريب استمرت استعداداً لأي احتمالات قد صدقت التوقعات، فلم يلبث الأمر طويلاً، ففي 26 يوليو 1956 أعلن عبدالناصر عن تأمين شركة قناة السويس (شركة مساهمة مصرية)، وهذا بالطبع لم يكن على هوى الغرب الذي اعتبر هذا القرار تحديا لهم وضد مصالحهم، فعقدت بريطانيا وفرنسا واسرائيل العزم على إثناء عبدالناصر عن هذا القرار ولو بالقوة، فكان العدوان الثلاثي على مصر في 29 اكتوبر 1956.
وعادت الكرة للبطولات والتضحيات والفداء من جديد، وتجلت شجاعة وبسالة اهل بورسعيد في المقاومة وصد العدوان الثلاثي بقوته وعتاده، وخير دليل على ذلك هو قائمة الشهداء الطويلة من ابناء بورسعيد الذين سقطوا وهم يواجهون بأجسادهم وأسلحتهم البدائية قذائف الطائرات ودانات المدافع...
وعلى الرغم من دحر العدوان وانسحاب الدول المعتدية الا ان ما اصاب مدينة بورسعيد من دمار كان فوق الوسع والطاقة...
اليوم المشؤوم
يبدو ان هذه المدينة كتب لها القدر ان تضحي لغيرها، وتتألم لنفسها... فما كادت الأمور تهدأ وتستقر ويلتقط اهل بورسعيد انفاسهم حتى جاء اليوم المشؤوم الذي اسموه (نكسة) وهو هزيمة منكرة يوم الخامس من يونيو 1967، وبعد ان احتلت اسرائيل سيناء انتشرت كتائب الجيش الاسرائيلي شمال القناة في محاولة لاحتلال مدينة بورسعيد، الا انها فشلت في ذلك، رغم ان المدينة تعرضت لقصف شديد، واعادت اسرائيل الكرة مرات اخرى الا انها فشلت ايضاً لبسالة أهلها واستماتتهم في الدفاع عنها... هدمت المدينة ودمرت شر تدمير، لكن شجاعة ابنائها كانت في صعود دائم.
وبعد الهزيمة في حرب الستة ايام بدأت مرحلة جديدة من الصراع لمدة ست سنوات وهو ما عرف بحرب الاستنزاف وكانت مدن القناة هي الهدف الاستراتيجي للعدوان الصهيوني، فتم تهجير اهلها وخاصة بورسعيد... وهنا وصلت المعاناة مداها لانه ليس اصعب على الانسان من ان يجبر على ترك بيته وموطنه...
ثم جاءت حرب النصر العظيم حرب اكتوبر 1973 والذي قضى فيها الجيش المصري على اسطورة الجيش الاسرائيلي في انه جيش لايهزم... ومن المؤكد ان بورسعيد ومدن القناة تحملت العبء الأكبر في هذه الحرب ايضاً لأنها مدن المواجهة اضافة الى موقعها الذي يعد مطمعاً لأي مغتصب.
استقرار ولكن...
كانت بداية الاستقرار لمدينة بورسعيد في نهاية العام 1975 عندما جعلها الرئيس السادات - رحمه الله - مدينة حرة تعويضاً لها عن سنوات العذاب التي مرت بها... وما هي الا سنوات حتى جاء العام 1999، الذي اعلن فيه عن محاولة اغتيال للرئيس السابق حسني مبارك، واغلب الظن انها كانت تمثيلية لاسباب غير معروفة اللهم الا ان كان المراد منها هو تعذيب هذه المدينة... لأنه منذ ذاك التاريخ قلب النظام لها ظهر المجن وحبسها.
وبدأ يعزلها تماماً عقاباً لها على جريمة خيالية هو من قام بصناعة اركانها...
وظلت بورسعيد تعاني العزلة الى ان تم اختيارها لتكون مسرحاً لاحداث مذبحة جماهير النادي الأهلي في مباراة كرة قدم جمعته مع النادي المصري... هذه المذبحة التي راح ضحيتها 72 شاباً في ريعان الشباب كانت فاجعة يعجز العقل عن تصديقها واستيعاب احداثها، لكنها ايضاً طرحت العديد من التساؤلات: لماذا بورسعيد تحديدا؟
ولماذا هذا التوقيت والبلد يعيش ثورة على الفساد والاستبداد؟ ولماذا جمهور النادي الأهلي؟
كثيرون منا يعرفون الاجابات عن هذه الاسئلة... وهي بالمناسبة ليست صعبة - لكن اعتقد ان المقبل من الايام سيكشف لنا حقائق قد تصيب الكثيرين منا بالذهول.
تهمة بلا ذنب
ما اود قوله هنا ان هذه الحادثة كانت وبالأعلى مدينة بورسعيد واهلها وحملت المدينة فوق طاقتها ونبذها البعض واعتبرها كحامل المرض المعدي الذي يجب ان يتجنبه الناس رغم معرفتنا جميعاً بأن أهلها لاذنب لهم في كل ما حدث.
مرّ عام وجاء ميعاد النطق بالحكم في القضية ومصادفة - ايضاً - يكون اليوم التالي لذكرى 25 يناير (الملتهبة) والجميع يعلم ان طرفي النزاع سيكون احدهما غير راض عن الحكم... ورغم ذلك سكت المسؤولون واصموا اذانهم قصداً او عن غير قصد - فكانت الطامة الكبرى... اشتعلت بورسعيد وسقط القتلى بالعشرات والجرحى والمصابين بالمئات، وتم اضافة عدد جديد من الثكالى واليتامى الى سجل الشعب المصري...
ومازالت النيران مشتعلة... والفتنة مستفحلة... وليس هناك من رجل رشيد... فماذا فعلت بورسعيد حتى تعيش في معاناة وعذاب منذ نشأتها الى يومنا هذا...؟ هل هذه الاحداث التي مرت عليها عبر تاريخها الذي يمتد لأكثر من 150 سنة جاءت مصادفة ام انه هكذا اريد لها ومنها؟!