إطلالة على المشهد / أمان مصر... ووصية «الحجاج»
| عبدالله متولي |
قال فيها رب العزة في كتابه العزيز: «ادخلوا مصر ان شاء الله آمنين» فهي واحة الأمن والأمان في الدنيا، وهذا ليس مدحاً او اطراء او تجميلا لصورة، او انحيازاً منا لها... فليس بعد قول الله سبحانه وتعالى قول... وكلام الله جل في علاه مؤكد بذاته... فلا يحتاج الى تدليل أو برهان لتأكيده لانه يتصف بصفات الكمال ومنزه عن النقص.
ومايلزمه الدليل لتأكيده او اثباته هو كل كلام غير كلام الله عز وجل... لانه يصدر عن مخلوق يتصف بالنقص فكان من الضروري اقامة الحجة لاثباته وتصديقه. اذاً مصر هي واحة الأمن وبلد الأمان منذ مهدها الضارب بجذوره في اعماق التاريخ الذي ان حكى عن الدنيا، كانت البداية مصر... التي لجأ اليها كل من فقد الأمان في بلده... او تعرض للاضطهاد والقهر من حاكم ظالم او سلطان جائر... والامثلة على ذلك تفوق الحصر والعد، ويعجز الانسان عن احصائها، لكن ان كان ولابد من مثال، فها هو خليل الرحمن سيدنا ابراهيم عليه السلام الذي لجأ اليها مع زوجه السيدة سارة بعد رحلة من الاضطهاد فاستقبلته مصر بدفء امانها وامنها وعاد منها ومعه خير هدية السيدة هاجر عليها السلام لتكون المعين الذي خرج منه ينبوع الامان الذي عمر الدنيا واسس لمكارم الاخلاق ومبادئ الخير والحق والعدل والأمن... سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم... وهذه ليست مصادفة، انما ارادة الله سبحانه وتعالى ان يكون النبي الذي عرف العالم كله بعد بعثته كيف يأمن الناس على انفسهم واموالهم واعراضهم، حفيد لامرأة مصرية نشأت في دوحة الأمن على وجه الأرض وهي مصر.
اعتقد ان هذا المثال جامع مانع يكفي لان يكون كاشفاً ومعبراً بصدق عن هذه الحقيقة التي نحن بصددها وهي ان مصر بلد الأمن دون منازع عبر تاريخ البشرية الطويل، لكن في هذا المقام لابد من الاشارة ولوباختصار شديد الى السيدة البتول مريم عليها السلام وفرارها بوليدها المسيح عليه السلام خوفاً عليه ولجوئها الى مصر في رحلة داخل اراضيها وبين مدنها استمرت لخمس سنوات فيما عرف برحلة العائلة المقدسة.
انه الأمن يا سادة، وهو اساس الحياة، ومصدر استمرارها وتطورها، والانتقال فيها من مرحلة الى اخرى... والا كيف يكون الانسان منتجاً وهو غير آمن... وكيف له ان يشارك في نهضة مجتمعه وهو خائف... بل كيف يستطيع رعاية اسرته وتوفير العيش الكريم لهم وهو لا يأمن على نفسه ولا على من يعول؟!
هذه هي الحال في مصر الآن... واحة الأمان بلا أمن... واحة الامان اهلها خائفون... واحة الأمان تعيش الآن في رعب واضطراب وقلق اعتقد انها لم تشهد نظيره عبر تاريخها الطويل المتخم بالاحداث الجسام والصعاب... المشهد في الواقع مخيف ومفزع يخفي ملامح المستقبل القريب، فما بالك بالبعيد... مشهد يجعل المتابع مشوشاً لا يمكنه الوقوف على حقيقة الصورة، واكاد اجزم انه لا احد يستطيع فهم الصورة او ادراك الحقيقة، او التعبير بقول فصل يبصّر الناس بحقيقة ما يجري... وبإطلالة سريعة على المشهد في مصر (بلد الأمان) نجده يراوح بين قتل وسحل وتعذيب وخطف واغتصاب وانتهاك حرمات واستباحة دماء... ولا عقاب لجانٍ ولا عزاء لمجنٍ عليه...!
العدل غائب وهو أساس الملك... إذاً لا ملك...! ومادام لا ملك... فلا سلطان... وإذا غاب السلطان أو تغافل شاعت الفوضى وأصبح كل شيء مباحا... فمن أمن العقاب أساء الأدب...!
تتصارع المصالح وتتناحر ويتعالى صوت الأنا... وتسيطر الطائفية والمذهبية والانتماءات الفكرية على المشهد... فتخيب الضمائر وتنحرف الفطرة السليمة وتضل العقول وتعمى القلوب التي في الصدور... هنا تستباح الحرمات وتلفق الاتهامات، وتصنع المبررات للأخطاء والمصائب التي ترتكب، وتنسى كل فرقة أو طائفة كل شيء إلا نفسها ومصالحها... فلا وطن مهماً... ولا إنسان له حرمة... ولا دين يراعى... وترى الكذب مبررا... والفجور في الخصومة تخطى كل الحدود... فعندما تصبح المصلحة هي الغاية تصبح جميع الوسائل لتحقيقها مباحة.
قالوا «مشروع إسلامي»... ففرح الناس، سيحكم الدين، ويعم الرخاء، وننعم بالأمن... لكن ما لبثوا أن رأوا العجب العجاب... أي مشروع هذا الذي يبيح الكذب والخديعة وخُلف الوعد وعدم الوفاء بالعهد وتضييع الأمانة؟!
فحار الناس وشعروا بخيبة أمل... وظهر على إثر ذلك فريق آخر سمى نفسه (معارضة) وهو لا يعرف أو يدرك مجرد معناها اللفظي لا العملي... فجميع من فيهم أقل من أن يقود مجموعة بسيطة من الناس وليس أمة... ومعظمهم لهم تاريخ فكري غير محمود... ناهيك عن انهم ايضا أصحاب مصلحة ويسعون للغاية نفسها... فما استطاعوا أن يقنعوا أحداً أو يجمعوا الناس حولهم... فزاد المشهد تعقيداً، وزاد الناس آلاماً وأوجاعاً، وارتفعت وتيرة الفوضى... لأن هؤلاء وأولئك اتخذوا من الإنسان البسيط مطية لتحقيق مصالحهم ومآربهم الشخصية في الحكم والسلطة أو على الأقل حجز مكان في الصورة.
إلى كل هؤلاء أسوق لهم وصية الحجاج بن يوسف الثقفي لطارق بن عمرو حين صنف العرب فقال عن المصريين:
لو ولاك أمير المؤمنين أمر مصر فعليك بالعدل... فهم قتلة الظلمة... وهادمو الأمم... وما أتى عليهم قادم بخير إلا التقموه كما تلتقم الأم رضيعها... وما أتى عليهم قادم بشر إلا أكلوه كما تأكل النار أجف الحطب... وهم أهل قوة وصبر وجلدة وحمل... ولا يغرنك صبرهم ولا تستضعف قوتهم... فهم إن قاموا لنصرة رجل ما تركوه إلا والتاج على رأسه... وان قاموا على رجل ما تركوه إلا وقد قطعوا رأسه... فاتقي غضبهم ولا تشعل ناراً لا يطفئها إلا خالقهم... فانتصر بهم فهم خير أجناد الأرض واتقي فيهم ثلاثاً:
1 - نساءهم فلا تقربهم بسوء وإلا أكلوك كما تأكل الأسود فرائسها.
2 - أرضهم وإلا حاربتك صخور جبالهم.
3 - دينهم وإلا أحرقوا عليك دنياك.
وهم صخرة في جبل كبرياء الله تتحطم عليها أحلام أعدائهم وأعداء الله...!
أتمنى أن يقرأوا هذه الوصية جيداً، وأن يستوعبوا مافيها علهم يفيقون من غفلتهم ويعودون إلى رشدهم، ويتقون الله في مصر وأهلها، لأنهم إن استمروا في غيهم فليعلموا أن من أراد مصر بسوء قصمه الله... والله من وراء القصد.