fiogf49gjkf0d
// مجدي طلبة //
"الشرعية الثورية" مفهوم سياسي طفا على السطح مع بزوغ المد الثوري العالمي، ويعني في الأساس نسف وهدم الشرعية القديمة واستبدالها بشرعية الثورة التي تعيد بناء مؤسسات الدولة وفقاً لآليات استثنائية كحل البرلمان وتعطيل الدستور، غير أن "الشرعية الثورية" لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تظل إلى مالا نهاية وينبغي أن تتوارى في مرحلة ما لإفساح المجال أمام شرعية ديمقراطية تتمثل في بناء مؤسسات جديدة عبر انتخابات حرة ديمقراطية تستقطب جموع الجماهير التي انتفضت وخرجت عن بكرة أبيها إلى الشوارع وضحت بالأرواح حتى أسقطت النظام القديم. الشرعية الثورية هي شرعية مؤقتة تزول وتختفي مع الانتقال إلى الشرعية الدائمة المتجسدة في الشرعية الديمقراطية التي تبدأ بانتخاب برلمان حر ديمقراطي، وبمعنى آخر فإن الشرعية الثورية هي الفرع والشرعية الديمقراطية هي الأصل والأساس. منذ تنحي الرئيس السابق حسني مبارك في الحادي عشر من فبراير 2011 وهناك صراع دائم ومستمر بين ثلاث شرعيات وهي "شرعية الميدان" أو "الشرعية الثورية"، وشرعية الإسلاميين والمتمثلة في الشرعية البرلمانية، ثم شرعية السلطة التنفيذية والمتمثلة في المجلس العسكري الحاكم.
من المفترض أن لا يكون هناك صدام بين الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية فالأولى يتعين أن تدعم وتؤيد الأخيرة وتقف وراءها حتى تتحقق كافة الأهداف المرجوة المتمثلة في انتخاب برلمان وتشكيل حكومة ووضع دستور جديد ثم انتخاب رئيس، لكن واقع مصر منذ بداية الفترة الانتقالية كان مليئاً بالعجائب والمفارقات حيث رفضت الشرعية الثورية نتائج الاستفتاء على الإعلان الدستوري، ورفضت نتائج انتخابات مجلسي الشعب والشورى التي شهد المجتمع الدولي بنزاهتها وديمقراطيتها، ثم رفضت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية. وهذا يعني أن كافة الحركات الثورية التي تمثل "شرعية ميدان التحرير"، إلى جانب قطاع كبير من النخب الليبرالية والعلمانية، باتت رافضة لكل ارهاصات العملية الديمقراطية التي من المفترض أن تفضي في نهاية المطاف إلى إقامة دولة محترمة تقوم على أساس الشرعية الديمقراطية، وهو أمر خطير للغاية بالنظر إلى أنه من الممكن في ليلة وضحاها نجد انقلابا على مكتسبات الشرعية الديمقراطية وتدخل البلاد في نفق مظلم معتم لا نهاية له. وتصاعد هذا الصدام على نحو شديد الخطورة من خلال حدثين مهمين وقعا مؤخراً: جاء الأول عقب إعلان نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية وتجسد في خروج أعداد غفيرة من الجماهير إلى ميدان التحرير بإيعاز وتأييد من عدد من النخب السياسية من بينها مرشحون خاسرون حيث أعلنوا رفضهم للنتائج وطالبوا بتشكيل مجلس رئاسي مدني، وهذا لا يعني سوى انقلاب على شرعية الانتخابات لصالح شرعية الثورة بل ورفض صارخ لكل ما تم انجازه خلال الفترة السابقة – أي الانقلاب على المرحلة الانتقالية برمتها، لكنه انقلاب لم يأت إلا في الوقت الضائع، وعملياً يعني إطالة المرحلة الانتقالية ومن ثم بقاء المجلس العسكري في الحكم إلى ما بعد 28 يوليو المقبل، مما يعد تناقضاً صارخاً في مواقف هذه النخب.
تجسد الحدث الثاني في دخول السلطة القضائية على خط المواجهة مع الشرعية الثورية عقب الحكم الصادر عن محكمة الجنايات برئاسة المستشار أحمد رفعت والذي قضى بالسجن المؤبد لكل من الرئيس السابق حسني مبارك ووزير داخليته الأسبق حبيب العادلي وبراءة مساعدي العادلي نظراً للافتقار إلى الدلائل التي تثبت تورطهم في جريمة قتل المتظاهرين، حيث خرجت حشود غفيرة للتنديد بالحكم والمطالبة بتطهير القضاء رافعين شعارات وهتافات خطيرة ومهينة للقضاء المصري الشامخ. الأمر المؤسف هو أن بعض مرشحي الرئاسة الخاسرين ومعهم قطاع كبير من النخبة قاموا بتحريض الجماهير الغاضبة من الحكم، وهو ما كشف عن الجهل بأمرين مهمين: يتمثل الأول في عدم جواز الاحتجاج على أحكام القضاء إلا من خلال السبيل القانوني الصحيح المتمثل في الطعن لدى محكمة النقض. الأمر الثاني هو أن القاضي الجنائي يقرر حكمه وفقاً للأوراق والأدلة التي توجد لديه، وليس على هوى الجماهير.
في النهاية لابد من الاعتراف بأن الصراع بين شرعية الميدان والشرعية الديمقراطية يمثل خطراً جسيماً على العملية الديمقراطية برمتها في مصر، ولا حل سوى تسليم كافة الأطراف بأصول اللعبة الديمقراطية والالتزام بقيمها وقواعدها ومبادئها وعلى رأسها مبدأ سيادة القانون والالتزام بالأحكام القضائية.