fiogf49gjkf0d
دعوات التصالح وبون شاسع بين السياسة والاقتصاد!
مجدي طلبة
 
ما إن أعلن وزير المالية المصري ممتاز السعيد عن تلقي الحكومة عرضاً من رموز النظام السابق القابعين في سجن طرة بالتنازل عن أموالهم وممتلكاتهم في مقابل رفع الاتهامات الصادرة بحقهم حتى تلقفته وسائل الإعلام والقوى والأحزاب السياسية والخبراء لتجعل منه مادة ثرية ولقمة سائغة لتكريس حالة الانقسام والتدليس والتضليل التي تعصف بالمجتمع المصري منذ فترة ما بعد تنحي حسني مبارك ومنذ انتهاء حالة "يوتوبيا التحرير". الحكومة المصرية تعتقد أن استرداد تلك الأموال يصب في مصلحة مصر في ضوء "الفاجعة الاقتصادية" التي تمر بها البلاد لأسباب عديدة أهمها هروب الاستثمارات العربية والأجنبية وتآكل احتياطي النقد الأجنبي وارتفاع عجز الموازنة العامة وتعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. أثار إعلان وزير المالية عن فكرة التصالح جدلاً واسعاً في الأوساط المصرية التي انقسمت بين مؤيد ورافض، وأظهر بوناً شاسعاً في الرؤى والتحليلات بين خبراء السياسة والاقتصاد حيث راح كل فريق يتناول هذه القضية من خلال المرآة الخاصة به. جاء رد فعل "الفريق السياسي" سريعاً وقوياً حيث رفض وبشدة هذا الاقتراح بل وصم أذنيه عن مجرد الحديث في هذا الخصوص معتبراً أن هذا الإعلان "جريمة في حق الوطن" ويمثل إقراراً بالجرائم التي ارتكبها رموز النظام السابق ومن ثم ينبغي توقيع أقصى العقوبة عليهم. كما اعتبر أصحاب هذا الفريق أن دعوات التصالح تأتي في إطار المحاولات المبذولة من أجل إجهاض ثورة 25 يناير، مشددين على أن "مصر لا تشترى بمال، ولا يتعين التفاوض على دماء الشهداء".
 
هكذا تحدث أصحاب هذا الفكر وراحوا يروجون لمنطقهم واعتقادهم ويدافعون عن رؤيتهم في كل مكان، وكانوا بمثابة "سوبر استار" على معظم القنوات الفضائية المصرية، خصوصاً تلك القنوات التي دأبت خلال الفترة الماضية على اللعب على مشاعر المواطنين وباتت تدق على أوتار الرأي العام بالعزف تارة وبالإثارة والتهييج تارة أخرى. تعاطى أصحاب هذا التوجه مع الحدث من خلال منظور سياسي بحت وبدا أنهم غير مدركين أو ملمين بصورة كافية بحقيقة الوضع الاقتصادي الخطير في مصر على نحو يجعلهم يفكرون ملياً في إمكانية أن تفضي عملية التصالح واسترداد الأموال المنهوبة إلى الخروج من المأزق الاقتصادي الذي تمر به البلاد. اللافت للنظر هو أن الإعلام المصري تعامل أيضاً مع الحدث عبر المنطق السياسي من خلال استضافة شخصيات قيادية في الأحزاب والقوى السياسية، بالإضافة إلى محللين وخبراء سياسيين، دون النظر إلى وجود محور اقتصادي مهم في القضية يستدعي استضافة خبراء اقتصاديين مرموقين يمكنهم توضيح حقيقة الوضع الاقتصادي ومن ثم بحث ودراسة دعوات التصالح من حيث المبدأ، وما إذا كانت ستصب في مصلحة الوطن أم لا. من ناحية أخرى، جاء رد فعل "الفريق الاقتصادي"، الذي جاءت تصريحاته عبر الصحافة، مغايراً لرؤية القوى السياسية حيث رحبوا بالفكرة واعتبروها تصب في مصلحة مصر في ضوء تقلص الاحتياطي النقدي وارتفاع عجز الموازنة، كما أكدوا أن عودة الأموال المهربة تمثل مخرجاً وحلاً مضموناً للمأزق الاقتصادي الصعب.
 
أعضاء "الفريق الاقتصادي" يدركون جيداً أن حجم الدين العام الداخلي لمصر بلغ نحو 1133 مليار جنيه مصري) (188 مليار دولار) في نهاية ديسمبر الماضي، وأن حجم الدين الخارجي بلغ 34 مليار دولار، كما أنهم يدركون صعوبة الحصول على مساعدات أو قروض عربية أو خارجية، بالإضافة إلى وجود عمليات هروب ضخمة لاستثمارات وأموال إلى الخارج، ناهيك عن عمليات بيع مؤسسات تجارية كبرى وخروج أصحابها بشكل شبه نهائي من مصر بسبب الغموض والضبابية وانعدام الثقة في كل شيء بدءاً من المحاكمات وجدية القائمين على الحكم وانتهاءً ببرلمان مازال في مرحلة المراهقة. المشكلة الآن هي أن الانتظار لحين صدور أحكام نهائية قد يأخذ سنوات، وحتى في حالة صدور أحكام فهذا لا يضمن على نحو أكيد استرداد وإرجاع هذه الأموال المنهوبة من الدول الأجنبية التي لن تتنازل عنها بسهولة إما لأنها تمثل عنصراً استثمارياً مهماً بالنسبة لها أو للعلاقة الوثيقة التي تربطها ببعض رموز وأصدقاء النظام السابق. ولهذا فأنا أعتقد أن الحل ببساطة يكمن في الولوج في مصالحة وطنية جدية وصادقة تعتمد على أربعة محاور رئيسية: أولاً؛ ضرورة الكشف عن الحجم الحقيقي لكافة أصول رموز النظام السابق في الداخل والخارج من أراضي وعقارات وأصول بنكية واستثمارات عن طريق آلية موثوقة وفعالة وجديرة بالاحترام بحيث تستطيع أن تنفذ إلى جميع الاستثمارات السرية في الصناديق السيادية وغير السيادية. ثانياً؛ قصر عملية المصالحة على القضايا المتصلة بالفساد المالي أو التهرب الضريبي أو الاستيلاء على أراضي الدولة أو حتى الكسب غير المشروع. ثالثاً، منع جميع المسجونين من رموز النظام السابق من ممارسة أي نشاط سياسي لمدة لا تقل عن خمس سنوات تحاشياً لأي تأثير أو تدخل من جانبهم في العملية السياسية والديمقراطية في البلاد. رابعاً؛ عدم الاقتراب من قضايا قتل المتظاهرين لا من قريب ولا من بعيد فهي بمثابة "خط أحمر"، ولا يحق لأحد مهما علا شأنه أو منصبه أو رتبته أن يمنح "صك غفران" لمن تثبت إدانته في قتل المتظاهرين السلميين أو التحريض على قتلهم إبان ثورة 25 يناير.