تناول
حديثنا في المقالة السابقة العمل التطوعي كونه عاملا من عوامل تعزيز الولاء
والانتماء للوطن وأساسا للتقدم نحو التحضر والرقي وتحقيق الإنجازات
الوطنية والمكتسبات الإنسانية للفرد والمجتمع على حد سواء, وقد تم تناول
اليابان كأنموذج نجح في الاستفادة من العمل في تحقيق المكاسب في مجالات
عديدة, بل تفوق فيها. وقد اقتصر الحديث عن الأسباب والعقبات التي تقف أمام
تحقيق الأهداف الوطنية السامية والإنجازات الاجتماعية المأمولة, تاركين
الحديث عن الحلول التي يمكن من خلالها أن نتجاوز تلك العقبات, فما هي هذه
الحلول?
تتمثل الرؤية, التي نحن بصدد تقديمها, في تقسيم الأدوار
والالتزام بتنفيذ الجهات الاجتماعية كافة المسؤولة عن الدور المناط بها,
ولأن الموضوع يتصل بالجانب التربوي بشكل رئيسي, فإن دور الأسرة هو أول تلك
الأدوار, فالأسرة هي المؤسسة التربوية الأولى التي تبدأ فيها رسم معالم
الشخصية وتترك أثرا دائما في الإنسان, وعلى الأسرة قبل غيرها تقع مسؤولية
غرس الولاء والانتماء للوطن في نفوس الأبناء, من خلال التنشئة الاجتماعية
السليمة التي ترفد المجتمع بعناصر البناء من خلال الأفراد المنتمين للمجتمع
والوطن, فلا بد للأسرة من تربية أبنائها على العمل وتنمية حسهم بالمسؤولية
من خلال تكليفهم ببعض الأعمال التي تتناسب مع المرحلة العمرية التي
يعيشونها.
ولأن الأسرة هي المحيط الأول الذي ينشأ فيه الإنسان, وكي توطد
العلاقة بين أفرادها عليها أن تشرك الأبناء في نشاطاتها المختلفة, ليدركوا
منذ الصغر أن دورا مهما عليهم ممارسته, ومسؤولية تقع على عاتقهم, سواء كان
ذلك في العمل من خلال تكليف الكبير برعاية الصغير من الأفراد, أو كان في
إشراكهم بالحوار والاستماع لآرائهم, كما أن وضع الأسرة كل مواضيعها بشفافية
أمام الأبناء يولد الإحساس بأهمية الذات لديهم ويشعرهم بقيمتها, وفي ما
يخص المجتمع لا بد للأسرة من غرس روح العمل الجماعي لدى صغارها من خلال
تشجيعهم على المشاركة في الأعمال المجتمعية, كالمشاركة في المناسبات
والأعياد الوطنية, المشاركة العملية القائمة على بذل الجهد, فلا تتوقف
المشاركة بالحضور والمراقبة, ليدرك الأبناء أن للوطن قيمة سامية, وللمجتمع
أهمية وضرورة لا يمكن للفرد إلا أن يكون عضوا فاعلا فيها, فعلى الوالدين
تشجيع الأبناء على المشاركة في الأعمال التطوعية الخاصة بالمجتمع والوطن,
ويمكن ذلك من خلال مشاركة الأهل وإشراك الأبناء معهم في الحملات الاجتماعية
التي تعكس حب الوطن والانتماء والمحافظة عليه وعلى مقدراته, كحملات تنظيف
الأماكن العامة, كالشوارع والشواطئ والمرافق الأخرى, فيصبح بذلك لدى النشء
قيمة سامية للوطن منذ بداية نشأته ليبدأ المرحلة التالية وهو ولديه
الاستعداد والقابلية للانسجام مع العمل الجماعي.
وتأتي المدرسة كونها
المؤسسة التربوية التالية لترسخ وتنمي ما تعلمه الفرد وما أنشأ عليه في
الأسرة, فهي تكمل ما بدأه الأهل في بناء شخصية الفرد, وهي مؤسسة متخصصة في
تدعيم وتأهيل الفرد تربويا ليكون فردا في جماعة ينتمي إليها ويحافظ على كل
ما يخصها بداية من المحافظة على غرفة الصف ومكوناتها, وعلى مستوى المدرسة
لا بد وأن يتعلم كيف يحافظ على مرافقها ونظافتها ويساعد أقرانه في ما
يحتاجون تحت إشراف الطلبة الأكبر سنا, فتبدأ بذلك روح الجماعة تتبلور,
ويبدأ يكرس نفسه لخدمة الجماعة ويقدم مصالحها على المصالح الفردية الضيقة,
وتذوب الشخصية في روح الجماعة من خلال الأعمال الجماعية التي يؤديها الطلاب
كفريق, كما يمكن للمدرسة أن تكلف الطلاب – مثلا- بغرس الأشجار في ساحتها
والعناية بها, ذلك أن هذا الأمر سيجعل من تلك الأشجار رمزا لعمل الطالب
وإنجازا يحافظ عليه ويصونه, وقد يكون للمدرسة دورها في الأعمال خارجها
والمساهمة في الأعمال التطوعية التي تدعو إليها مؤسسات المجتمع المدني, وقد
يكون ذلك بمبادرة من الإدارة المدرسية ذاتها.
ويأتي دور المؤسسات
الحكومية ليدعم هذا الحس الذي غرس في روح الفرد وترسخ بكيانه, وذلك من خلال
إشراك الشباب وتشجيعهم للانخراط في العمل الوطني, ويمكنها تحقيق ذلك عن
طريق طرح المسابقات الخاصة بالعمل التطوعي في أيام العطل وتخصيص جوائز
ومكافآت للمتفوقين في هذا المجال, لأنها بذلك تولد لدى الفرد قيمة خاصة
لذاته ولما قدمه فيحافظ على إنجازه ويسعى لتقديم المزيد.
إن هذه السياسة
المتكاملة بين هذه المؤسسات التربوية إذا ما توفرت فيها الجدية لا بد وأن
تخرج جيلا قادرا على النهوض بالمجتمع لأرقى المستويات, ومتحملا مسؤولية
الحفاظ على الوطن ومقدراته. ومع إدراكي أن الأمر يحتاج إلى الكثير من العمل
لتحقيق مثل ذلك النهج المتكامل, لكنني أدرك أيضا أن صعوبتها متوقفة فقط
على البدء, آملة أن تكون رؤيتي وجدت صدى جيدا في نفوس القائمين على
المؤسسات التربوية, وميلا نحو تحقيقها.
كاتبة كويتية
g.h.karam@hotmail.com