تنبهت دول كثيرة من الدول المتقدمة لأهمية الحس الوطني في بناء وتنمية مجتمعاتها بوقت مبكر بالمقارنة مع غيرها من الدول التي ما زالت تلهث خلف بلوغ قدر متواضع من التقدم والنماء, وأخذت تبحث عن الوسائل التي يمكن من خلالها ترسيخ الحس الوطني لدى الأفراد وإرساء مبادئ المواطنة في نفوس نشئها وشبابها, وبتنا نشهد في الآونة الأخيرة تطورا وتقدما ملحوظين لدى بعض هذه الدول, ليس في تحضرها من الناحية الاجتماعية فقط, بل انعكس ذلك على نجاحها في الجوانب الأخرى من الحياة, ولا شك ان الكثير من القراء يشاركني الرأي عندما يجدني أضع اليابان في مقدمة هذه الدول التي أصبحت تقارع الدول الصناعية العظمى, بل وتتفوق عليها في الكثير من المجالات. لا سيما التكنولوجية منها, إلى جانب ما يشهده العالم من رقي وحضارة تنعكسان من خلال سلوك الفرد في المجتمع الياباني, حتى أفردت لها الكثير من القنوات الفضائية برامج خاصة تلقي الضوء على تلك التجربة التي تعد قصيرة من حيث عمرها وعدد سنوات تجربتها الحديثة.
لقد اهتدت اليابان إلى ضالتها المنشودة التي بحث عنها الكثير من الدول, تمثلت في الاهتمام بالخدمة الاجتماعية والعمل التطوعي والانضباط, سواء كان ذلك في السلوك الفردي أم كان السلوك الاجتماعي العام, ذلك أن جوهر العمل التطوعي وسره يكمنان في ميل الإنسان للحفاظ على المكتسبات والإنجازات, فمن يبذل الجهد لا يفرط فيه, بل يدافع عما أنجزه من خلال ذلك الجهد, وهي قاعدة تنطبق على الأفراد قبل الجماعات, فتشكل بذلك ميلا عاما نحو الانضباط والحفاظ على المنجزات, بل وتكون دافعا قويا نحو المزيد منها, خصوصا عندما يصبح الإنجاز واضحا وجليا, ولأن الأجر هو الإنجاز ذاته, تزداد قيمته وتتعاظم.
ويتميز العمل التطوعي بمردود نفسي إيجابي على الفرد, فهو يقدم عملا من دون مقابل فينمي ذلك فيه الحب غير المشروط, ويعلمه الصبر والتسامح, ويرفد روح الفريق بالابتعاد عن التعصب أو التطرف داخل الجماعة وخارجها, فيحترم رأي الآخر ويتقبله, ويبدأ يشعر بالمسؤولية تجاه الجماعة والمجتمع والوطن, إضافة الى كون العمل التطوعي داعما ومساندا لمؤسسات الدولة في سعيها للمحافظة على المقدرات والإنجازات, وهو عامل من عوامل التقارب بين الأفراد وتحطيم الفوارق الطبقية فيما بينهم, حيث يصبح الكل في جانب واحد من المعادلة يسعى للحفاظ على المكتسبات وتطويرها وتنميتها.
وفي الكثير من مجتمعاتنا العربية نجد أن الإيمان في أهمية العمل التطوعي متوافر من خلال تواجد الكثير من جمعيات النفع العام واللجان الاجتماعية, إلا أنه لم يرتق إلى المستوى المطلوب, ولم يصل إلى مرحلة العمل والتطبيق الجاد.
ومن خلال النظرة العامة الى جمعيات النفع العام وكثرتها في الكويت, وهذا أمر محمود بلا شك, أجد القليل منها يمتثل للمسؤولية التي ألقاها على عاتق نفسه ليعود بالفائدة والنفع على المجتمع, كما أن الكثير من هذه الجمعيات التي تتشكل لا تتميز بالاستمرارية, علما ان المعطيات متوافرة والإمكانات قادرة على تجسيد هذه الأفكار السامية وتطبيقها على أرض الواقع, وهذا ينطبق على الكثير من اللجان الوطنية المختلفة التي تميزت بجدواها وتكللت بالإنجازات, لكنها حلت تلقائيا عند زوال الأسباب الاجتماعية التي كانت سببا في تشكيلها.
إن الاستمرار في العمل التطوعي بحد ذاته يجب ان يكون هدفا مبدئيا وركيزة لتحقيق الأهداف الأخرى, لأنه الخطوة الأصعب التي تواجه المؤسسين, كما تحتاج الاستمرارية لدعم من مؤسسات الدولة للجهود الشبابية التي تحاول أن تسهم في البناء وتشارك في العطاء, سواء كان هذا الدعم ماديا أم كان معنويا, لأن ذلك يمثل لدى الشباب قيمة لما قدموه من جهد, واعتراف بحاجة المجتمع إليهم, ويعزز لديهم الشعور بأهميتهم وتقدير عطائهم, فيكون تاليا سببا في استمرارهم بالعطاء ومزيد من الجهد ويجنبهم الانكفاء على الذات.
لقد كان إنشاء بعض هذه الجمعيات يفتقد للأساس السليم الذي لا بد وأن يقوم على فلسفة خدمة المجتمع وتنميته, فكان إنشاء بعضها لإضافة سطر في السيرة الذاتية لمنشئيها والمنضمين إليها, فشكل ذلك سببا في عدم جدواها وتعثرها, إضافة لافتقاد البعض ثقافة العمل التطوعي وإدراك ماهيته, كما أن عدم تأصيل العمل التطوعي في ثقافة الأبناء في الأسرة أو التلاميذ في المدرسة يضاف إلى هذه الأسباب, التي تثبت عدم إدراك أهمية العمل التطوعي في عملية البناء المجتمعي السليم الذي يؤمن بالعطاء ويصقل روح الفرد ويذيبها في الكل الجماعي.
إننا أمام أسباب واضحة وعقبات يمكننا بالعمل الجاد على تجاوزها عندما تتوافر النوايا الصادقة, وأنا لا أشك بالنوايا, لكنني أقصد ان النوايا لابد ان ترتقي إلى مستوى المسؤولية فنتبع حسن النوايا والحب الذي نكنه للكويت بالعمل على تجسيد هذا الحب بالتطبيق الذي يعكس حبنا إليها كما كنا دائما.
في المقالة المقبلة سأحاول تقديم رؤية موضوعية لتجاوز هذه المشكلة ودمتم على حب الكويت ألقاكم بإذن الله.

* كاتبة كويتية
g.h.karam@hotmail.com