تحدثت في مقالتي الأولى عن المعنى العام لمفهوم الحرية من الجانب النظري, وما قدمه الكثير من الفلاسفة والباحثين من نظرة عامة, وقد لاحظتم معي توافقا بين ما جاء في الأديان السماوية حول مفهوم الحرية ومجمل ما جاء على ألسنة الباحثين رغم التباين في بعض الآراء, لكن العامل المشترك الذي جمع هذه الآراء كان الاتفاق ان العقل والتدبر يشكل أساسا للحرية, فالعقل إذا أُعِمل بطريقة سليمة أدرك ان الحرية لا يمكن إلا أن تكون مرتبطة بالجماعة, لأن الإنسان كائن مدني, ولا يمكنه أن يعيش منفردا نظراً الى قدرته المتواضعة التي لا تفي باحتياجاته وتأمين متطلبات الحياة, ومن هنا كان تبادل الخدمات والاحتياجات بين الأفراد والجماعات خير وسيلة للمضي نحو التقدم, وهو ما يفرض بالضرورة الاحترام المتبادل فيما بينهم, ومن خلاله يتحدد مفهوم الحرية المنضبطة كما توصلنا إليها.
ولعل البعض يتساءل عن كيفية الموازنة بين مفهومي الحرية والانضباط أو التقيد, ومن أجل التوضيح نجد من الأمثلة ما يساعدنا على فهم واستيعاب كيفية إيجاد حالة توافقية بين المفهومين, ولنبدأ بالناحية الدينية والأخلاقية ذلك أن هناك توافقا يربط بين الدين والأخلاق, الحرية تعطي الإنسان مثلا الحق في عدم ممارسة الطقوس الدينية, لأن ذلك شأنه مع الله سبحانه وتعالى وهو الذي يحاسب الإنسان على أفعاله, لكن ذلك ليس معناه أن لا يحترم الضوابط الاجتماعية المنبثقة عن الدين والأخلاق, فبإمكان الإنسان أن لا يصلي أو لا يصوم في رمضان, لكنه لا يملك حق المجاهرة في الإفطار, إذ لا بد من احترام مشاعر الآخرين, كما لا بد من احترام تقاليد وأعراف الجماعة, ذلك أن مدنية الإنسان تفرض علية التقيد والانضباط في السلوك الذي يترك أثره على الجماعة, سواء كان الأثر ماديا أو كان معنويا, من هنا طالب الكثير من المجتمعات في دساتيرها بالمحافظة على القيم المجتمعية والأخلاق العامة, وأفردت لها القوانين الجزائية.
من حق الإنسان أن يكون معارضا سياسيا, لكن هذا الحق أيضا لا بد وأن يكون منضبطا, فهل حق المعارضة في المجتمع- مثلا- يعطيه الحق بمصادرة آراء الآخرين وفرض إرادته بالقوة أو العنف أو والتخريب وإشاعة الفوضى? هناك أساليب واضحة في الأنظمة, لا سيما الديمقراطية منها, تتيح المجال للتعبير عن الرأي بأسلوب متحضر قائم على احترام الآخرين وآرائهم وتوجهاتهم, فإذا كان معنى الحرية أن يفعل كل إنسان ما يريد ساءت العلاقات الاجتماعية جميعها, وتحولت الحالة إلى فوضى ذهبت بإنجازات البشرية جمعاء وما أحرز من تقدم وحضارة ورقي, كما أن علاقة الإنسان بالخالق لا يجب أن يقوم بتحديدها مخلوق آخر يدعي تنفيذ أحكام الله في إقامة الحد والقصاص, فعلاقة الإنسان بالله تقع ضمن الصلاحية المطلقة لرب العالمين, ولا يجوز أن ينصب أحد نفسه لتحديد تلك العلاقة, ويفرض على غيره شكل العلاقة بين الإنسان وخالقه.
ولأن مفهوم الحرية يرتبط بالعقل والتدبر نجد الجانب التربوي يؤدي دورا رئيسا في توجيه الأبناء قبل بلوغهم سن الرشد, ففي الجانب الدراسي ¯ مثلا- ليس من حق الابن الغياب عن المدرسة, وليس من حقه إهمال الواجبات المدرسية, فهو ليس مسؤولا عن نفسه في هذه السن, لكنه بعد أن يبلغها يصبح مسؤولا عن كل تصرفاته وسلوكه, فقد بلغ الرشد وأصبح قادرا على إدراك الغث من السمين, ويمكنه بهذه الحالة أن يكون حرا على أن يتحمل نتائج ما يقوم به من أعمال, أو حتى ترك المجال الدراسي والاتجاه للعمل وأن كان ذلك لا يرضي والديه, كما أن هناك قوانين خاصة ملزمة, سواء كانت للابن أم للأهل تقتضي على الأبناء الدراسة الإلزامية لحين بلوغ مرحلة ما أو سن معينة, وهي قوانين مرتبطة بالدولة ودستورها, وقوانين الأحوال الشخصية.
لقد كانت الغاية من تحديد مفهوم الحرية, سواء في الكتب السماوية أو في آراء الباحثين والعلماء, تنظيم العلاقات بين الناس ومعرفة الحد الفاصل بين الحرية الشخصية والانضباط الجماعي, في سبيل الوصول الى حالة مثلى من التعايش السلمي القائم على الاحترام المتبادل, لكن الفهم الخاطئ للحرية لدى البعض أصبح بحد ذاته يشكل تعديا على حريات الآخرين, وبات يشكل خطرا على حياة الأفراد والجماعات في الكثير من حالات النزوح الفردية والأنانية والبحث عن المصالح الخاصة تحت شعار الحرية والحقوق الشخصية, فأين حرية الآخرين وحقهم في العيش في أمن وسكينة واستقرار?

* كاتبة كويتية
g.h.karam@hotmail.com