يتحول "التايم لاين" لديّ أيام المناسبات والاحتفالات إلى ما يشبه المناظرات الفكرية باستثناء أن المناظرة لا تقتصر على مجرد اثنين وإنما تمتد لتشمل الجمهور كله؛ الكل مدعو ومطالب بالمشاركة في النقاش.
 
"يوم المرأة العالمي" الذي مر عليّ منذ بضعة أيام كان واحدا من تلك الأيام. أمام عيني، فصلت سنتيمترات قليلة منشورين لشخصين ينتميان إلى عالمين شديدي الاختلاف وإن كانا يتفقان بشكل مثير للاهتمام والدهشة.
 
المنشور الأول هو تحية من أحد شباب التيار الإسلامي للدول الغربية التي تسمح للمرأة المسلمة بارتداء النقاب في الوقت الذي تضيّق فيه الدولة المصرية على المتدينين والمتدينات.
 
يمثل الشاب نموذج الإسلامي الأرثوذكسي الذي لا نية لديه ولا رغبة في الدفاع عن حقوق المرأة كما أقرتها المواثيق الدولية وكما شرعتها دساتير الدول المتقدمة (التي حياها الشاب لتوه) من حرية التعبير باستخدام اللفظ والملبس والإشارة وحرية التصرف في الجسد والحق في الإجهاض وحرية التوجه الجنسي.
 
لا نية لديه لمناقشة كل هذا، ولكن ليس لديه من حمرة الخجل ما يمنعه من الاستشهاد بما تكفله تلك الدولة للمرأة المسلمة من حقوق، فالمرأة يحق لها ارتداء النقاب دون مضايقات، ويحق لها ممارسة الشعائر الدينية بمنتهى الأريحية، ويحق لها دخول الأماكن العامة والمسابح والمطاعم والمقاهي والحانات إذا أرادت دون أن يستوقفها أحد بدعوى مخالفة زيها للأعراف المتفق عليها للزي في المكان.
 
لا يدرك طبعا أنه قبل أن يصل العالم الأول إلى هذه الدرجة من التسامح مع الآخر واحتوائه، مر بقترة طويلة من التثوير والتحرير الديني والاجتماعي. لا يدرك أنه وقت أن كانت المجتمعات الغربية ترجم الزانية على عتبة بيت أبيها كما يرد في سفر التثنية لم يكن هناك مسلمون في تلك البلاد أصلا. 
وقت أن كانت الكنيسة تحاكم البشر بتهم ازدراء الأديان والهرطقة، لم يتمتع المسلمون في بلاد الغرب بأية حريات إطلاقا.
 
وقت كانت النصوص الخادشة للحياء العام (والتي دافع الشاب المذكور نفسه -في وقت سابق-عن مصادرتها وحبس كاتبها في واقعة الروائي الشاب "أحمد ناجي") تصادر بمعرفة الدولة في الغرب، لم تكن حرية النقاب مكفولة للمسلمين في تلك الدول.
 
وقتها، للدقة، لم يحدث أي من هذا كله، لأن المسيحيين كانوا مشغولون بشنّ حملاتهم الصليبية ضد المسلمين أساسا.
 
لم يتجاوز العالم الغربي تلك العداوات والسياسات التوسعية إلا عبر طريق طويل من الثورات والحركات الاجتماعية والنضال ضد سلطة الدين ورجاله على الحياة العامة وتنحية النصّ الديني عن المشهد السياسي والتشريعي، على هذا الطريق إنما وصل العالم الغربي لقدر التحرر الذي سمح باحتواء الآخر وكفالة حقوقه كجزء من مناخ عام يكفل حقوق الجميع.
 
ولكن الكاتب لا يعنيه هذا كله فهو يرغب في أن يجني ثمار التنوير دون أن تخوض مجتمعاتنا التنوير أصلا. يمجّد هو مرونة "ما بعد الحداثة" دون أن يضطر إلى تبنّي "الحداثة" ذاتها.
 
المنشور الثاني هو مقطع فيديو من برنامج إذاعي على قدر هائل من السخف يرغب في استدعاء إرث "سي السيد" على حد تعبير مذيعيه.
 
يستضيف البرنامج أحد الإعلاميين محدودي الشهرة والمعروفين بالأساس وسط الأوساط الشبابية التي تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة ليخبرنا بخلاصة تجربته الحياتية مع الجنس الآخر والتي تتلخص في حقيقة أن النساء يرغبن في السيطرة على "العالم" وأنهم -كرجال-يجب أن يستعيدوا أمجاد "السيد أحمد عبد الجواد" ثانية.
 
والحق أقول لكم، أنني بعيدا عن كل الحجج التي يمكن أن أسوقها ضد دعاوى كهذه دفاعا عن المرأة، أفضل ببساطة أن أخبر صاحبنا هذا أنه حتى نعود -نحن الإناث-لموقع الست أمينة، يجب أن يكون هو نفسه "سي السيد" أصلا.
 
الآن دعني أخبرك، عزيزي، باختصار، عما يفصلك عن "سي السيد"، فلدى "سي السيد" بيت يسع من الأحباب ألف كما يقال في المثل، يقع عند التقاء شارع النحاسين وبين القصرين، والبيت له دوران وعدة مشربيات وفناء واسع ترمح به الخيل وتلهو، ويمكن تقدير بيت كهذا اليوم ببضعة ملايين من الجنيهات و"السيد أحمد" له ثروة طائلة جمعها بالحلال وبغيره.
 
ولدى أمينة خدامة تدعى "أم حنفي" تعينها على قضاء أعمال المنزل، هي التي لا همّ لها إلا ذاك المنزل لديها من يعينها. إذن، وقبل أن يفكر أحدكم في التحدث عن "السيد أحمد عبد الجواد"، فليتأكد أولا أنه يملك أن يوفر لامرأته مستوى الحياة والرفاهية التي كان يوفرها "سي السيد" لأمينة؛ إذا كنا مطالبين بالتنازل عن مطالبنا بالمساواة وتحديد المصير، فيجب على الأقل أن تكون الإغراءات على قدر التضحية!!
 
أما الوضع الحالي الذي تشارك فيه المرأة اقتصاديا في حاجات المعيشة مثلها مثل الرجل، وتعيل أسر بكاملها وهي لازالت تتقاضى أجورا أقل، والذي تعمل فيه المرأة بدوام كامل خارج البيت ودوام كامل داخل البيت دون مساعدة "أم حنفي"، ليس وضعا يسمح ب"تسييد" الرجل أصلا لأنه لا يسمح ب"تستيت" المرأة بمعنى المصطلح الشعبيّ.
 
منذ عدة أعوام، نشر حوار صحفي مع شخص قيل وقتها أنه ابن الرجل الذي استوحى نجيب محفوظ منه شخصية سي السيد. وفي نهاية الحوار، سؤل الرجل إذا كان يجعل زوجته تغسل رجليه في "طشت" كما كانت أمينة تفعل في الرواية، فرد الرجل: 
"في بداية زواجنا كانت تفعل أشياء قريبة من ذلك، أما الآن فقد تغير الزمن، وبقيت علاقة الاحترام التي ربطتني بها منذ البداية."
 
الرجل الذي تربى في كنف "سي السيد" نفسه أدرك حقيقة أن الزمن يتغير وأولئك المذكورون لم يتسن لهم الإدراك، فترى أحدهم يريد أن يسافر إلى الوراء ليلاحق "سي السيد"، وترى الآخر يريد أن يدير عقارب الساعة إلى المستقبل البعيد دون أن يضطر لمعايشة الحاضر بتعقيداته ولا أن يتحمل التضحيات المطلوبة حتى يصل إليه.