ليس عيبا أن يكون الفرد منتميا لجماعته، محبا لها، مضحيا في سبيلها، عاملا على تحقيق مصالحها، ففي الحديث الشريف قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»، وهو ما يؤكد أن المسلم يستوجب منه أن يكون منتميا لجماعته، حاملا لها في قلبه الولاء والمحبة، لكن العيب أن يكون الفرد كاره الخير لغير جماعته، متمنيا لها الأذى، حاملا في قبله عليها الحقد والضغينة والغل، مهما كان مختلفا مع هذه الجماعة عقيدة أو نوعا أو فكرا أو نسبا، وهو ما يبين الفرق بين العصبية الحميدة والتعصب المذموم، فالأصل في الإنسان أن يحب الخير للناس، كل الناس، وهي مشيئة الله التي تجلت بقوله تعالى:» إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا»، والتعارف في الآية الكريمة لا يتوقف عند المعرفة المجردة، بل هو دعوة إلى التعايش وانتشار الألفة وتنظيم العلاقة بين الناس بمفهومها الإنساني العام.
لقد عاش الناس في الماضي القديم، عند بداية ظهور أسلوب العيش الجماعي على شكل مجموعات وقبائل، فكان في ذلك الوقت الانتماء للقبيلة يشكل أسمى معاني الانتماء وأنبلها، وهو أمر طبيعي، لكنه مع الانتقال للمجتمع المدني الذي تجاوز حدود القبيلة أو الفئة وأصبح مفهوم الانتماء يتجاوز ذلك المعنى الضيق القائم على تقديم المصالح الفئوية، ذلك أن القبيلة أو الفئة لم تعد هي الضامن للأمن والاستقرار، ولم تعد هي التي تؤمن احتياجات العيش الأخرى كالملبس والغذاء وغيرها، وانتقل بذلك مفهوم الانتماء وتطور تبعا لطريقة العيش إلى المعنى الأوسع ليصبح الانتماء للمجتمع والوطن هو الغاية النبيلة والسبيل المهم للحفاظ على تضامن الأفراد والجماعات التي تعيش على أرض واحدة.
فالمواطنة في معناها الاصطلاحي تتسم بالحداثة في مجتمعنا العربي، إذ نجد المعاجم العربية القديمة تخلو من المفردة، وهذا ما يؤكد أن مفهوم المواطنة ومبادئها غربي النشأة والولادة، ورغم ذلك نجد المفهوم يحمل الكثير من الإيجابيات المفيدة التي تشكل رابطا وداعما للوحدة والتضامن والمحافظة على تماسك المجتمع، خصوصا بعد أن انتشرت الجماعات المتطرفة في مجتمعاتنا الإسلامية داعية لتفكك المجتمع وعاملة على التفريق والفتنة بين فئات المجتمع، مستغلة العواطف الدينية والاختلافات الفردية التي تتميز بها كل فئة أو جماعة دون غيرها.
ولأن المصطلح يبدو ملتصقا بمصطلح الديمقراطية فهو توأمه القائم على العدل والمساواة وضمان العيش بكرامة وعزة، ولكل فرد حقوقه وواجباته، لذلك نجد المواطنة تتجلى في أبهى صورها في المجتمعات التي تطبق مبادئ الديمقراطية أكثر وضوحا، كونها قائمة على احترام القيمة الإنسانية، وتمنح الفرد حقه الإنساني وحريته في التعبير والاعتقاد والفكر، لذلك نجد الفرد في تلك المجتمعات أكثر ارتباطا بوطنه ومواطنيه مقارنة في المجتمعات الأخرى، لأن انتماءه للوطن والمواطن حقق له مراده وطموحاته الفردية وذاته من خلال ارتباطه بالمجتمع. ولعل خير الأمثلة على ذلك تلك الصورة التي رسمها أجدادنا في اللحمة والتضامن والتعاون في الدفاع عن الوطن على مدى قرون، والمطلع على تاريخ الكويت لا يمكنه أن يمر مرور الكرام على أسوارها من دون أن يلاحظ أن تلك الأسوار تعبر عن صورة زاهية للدفاع عن الكويت، ومحاولة كف الأذى عنها، وحمايتها من العبث والفرقة، وتعكس مدى التلاحم بين أهلها في الدفاع عن أرضها.
لقد قدم الشعب الكويتي، الشيعي منهم والسني والقبلي والحضري وغيرهم من الجماعات التي تعيش على أرض الكويت، نقول قدموا الشهداء والتضحيات، وضربوا المثل في صهر الاختلافات والتعايش على مدى سنوات طويلة في إطار وطني واحد يضمن الحقوق لكل الأفراد والجماعات في مناسبات عدة، فمحنة الغزو العراقي الغاشم خير مثال على ذلك، كما كان يوم الأربعاء الحزين وما تبعه من أحداث صورة واقعية دليل على تلاحم الكويتيين، وكانت حادثة تفجير مسجد الامام الصادق (ع) وما تلاها من مظاهر التضامن والتلاحم خنجرا في صدر كل من أراد التفريق والفتنة بين أهل الكويت، لكن الانفتاح على الشعوب الأخرى جعل بعض أفراده عرضة للتأثر السلبي، وفتح الباب للكثير من مثيري الفتنة، فأصبحنا نرى الانتماء للقبيلة أو للفكر أو الطائفة يؤثر في انتمائنا الأكبر، انتماؤنا للكويت بأرضها وأهلها وفكرها المتحضر الذي كان سورا يحمي أهلها ويحافظ على لحمتهم وتضامنهم على مدى قرون من التآلف والمودة والحب.
فأين نحن الآن مما كان عليه أباؤنا وأجدادنا؟ حري بنا أن نستحضر تلك الصورة الزاهية المطرزة بالتضحيات، وحري بنا أن نستشعر ما نحن مقبلون عليه من تحديات، وحري بنا أن ندرك أن الفرقة فيما بيننا تشكل غاية المغرضين التي ما برحوا يسعون إليها.
كاتبة كويتية
g.h.karam@hotmail.com