في ظل الموجة العاتية من ملامح التطرف الفكري التي نشهدها في الكثير من مجتمعات العالم عموماً وفي الدول العربية والإسلامية خصوصاً، برزت في الطرف الآخر من المعادلة موجة فكرية معاكسة في الاتجاه، ورافضة لكل ما يعتنقه المجتمع من قيم وأفكار وعقيدة، ومتخذة من ثوابت المجتمع أساسا تقوم على رفضه ومخالفته والابتعاد عنه، فكان الإلحاد شكلا آخر من أشكال رفض الواقع والخروج عليه، وإنذاراً لثورة فكرية على المعتقدات والقيم، وهو ما يؤكد وجود خلل ثقافي في البنية الفكرية وفي التوجهات. ورغم عدم القدرة على توفر إحصائية دقيقة بعدد الملحدين في عالمنا العربي وتفاوتها حسب المصادر المختلفة، إلا أن المشكلة أصبحت تستحق الالتفات إليها، وتفويض الحكومات للمتخصصين للقيام بدراستها والوقوف على الأسباب ووضع الحلول المناسبة لها. وأود هنا أن ألفت الانتباه إلى أن مقالتي هذه قد لا ترقى، كما في مقالاتي السابقة، إلى مستوى تشخيص المشكلة وتحليلها ومعرفة الأسباب والدوافع التي تقف خلفها بشكل دقيق، وقد لا أقدم طرحا للحلول الممكنة لأنني لست متأكدة من قدرتي على الوقوف على الأسباب الحقيقة خلف انتشار الفكر الإلحادي بين الشباب. ولعل قصر قدرتي هنا نتيجة عدم إيماني بأن من يدَّعون الإلحاد من شبابنا ملحدون فعلا، فربما هي مرحلة من عدم القدرة لديهم على التمييز بين الخطأ والصواب، وعدم القدرة على التعبير عما يعتريهم من أحاسيس في مرحلة عمرية حرجة، وربما عدم وصول هؤلاء على أجوبة لتساؤلات تدور في أذهانهم، وربما يكون للتناقض في أخلاقيات الدين بين النظرية والتطبيق، والرسائل السلبية التي تصل عن الله سبحانه التي اختص بها بعض رجال الدين عن التهديد والوعيد والعقاب الشديد، وتجاهل هؤلاء لسمات رب العالمين في الرحمة الواسعة وتقبل عباده التوابين، وأنه هو الغفور الرحيم، وربما استياء الشباب مما يشهدونه على القنوات الفضائية من عنف وقتل ودمار نتيجة الفكر المتطرف الذي يحاول ارتداء عباءة الدين. إن كل ما سبق يمثل احتمالات قد تشكل أسبابا لدى البعض للتشكيك في المبادئ الدينية والنفور من الإسلام، وعدم الرضوخ والامتثال للمبادئ والقيم المنبثقة عن الدين، ويولد عدم الرغبة في تمثلها، لكن جوهر المسألة لا يقع على تلك الفئة من الشباب، إنما المسؤولية الأولى تقع على بعض رجال الدين الذين توانوا عن واجباتهم باحتواء الشباب ومحاكاة عقولهم، وتعالوا عليهم في زمن يشهد الانفتاح والثورة العلمية والثقافية، حيث أصبح الوصول للمعلومات سهلا ميسرا، وهم ليسوا بحاجة لعلماء ما زالوا يتحدثون بلغة الزمن السحيق والفوقية الزائفة. إن دور رجال الدين في تشكيل البنية الفكرية لدى الأفراد دور محوري، وهو إطار مرجعي عام في كل الأديان السماوية منها وغير السماوية، ولعل ما نشهده اليوم من الابتعاد عن الوسطية، سواء كان ذلك ممثلا في التطرف الفكري المؤسس على الاعتقاد المتطرف، أم كان متمثلا في توجه البعض نحو الرفض والإلحاد هو في الدرجة الأولى نتيجة لتقصير بعض علماء الدين في واجباتهم ودورهم في تثقيف الشعوب. وإذا وصلنا إلى تشابه العوامل المؤثرة ربما تتشابه الحلول، ذلك أن كل من التطرف والإلحاد يمثل خروجا ورفضا لثوابت المجتمع، ومحاولة لإيجاد بديل يمكن الطرفين من إلحاق الأذى بالآخرين، فكما تعمل الجماعات المتطرفة على إلحاق الأذى بالآخرين من خلال العنف والإرهاب، عمل الملحدون على عقاب الآخرين نفسيا من خلال بث الشك في العقيدة والقيم المرتبطة فيها. ولا يمكننا التنصل من المسؤولية والقول أن علماء الدين وحدهم في نطاق تلك المسؤولية، فهي منظومة اجتماعية شاملة يشوبها الخلل، وعدم مقدرة على إيجاد ستراتيجية تنأى بالأبناء عن التأثر بتيارات فكرية دخيلة، فالأسرة والمدرسة ودور العبادة والمثقفون والمفكرين وغيرها من المؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني معنيون بالأمر، والمسؤولية نتحملها جميعا، فدعونا نواجه الأمر بحجمه الطبيعي من دون مواربة، التربية مسؤوليتنا جميعا، والأجيال أمانة في أعناقنا تطلب منا أمام التاريخ وأمام رب العالمين، فلنكن بحجم المسؤولية ولنرضخ لواجباتنا تجاه أبنائنا. كاتبة كويتية g.h.karam@hotmail.com