«الوجوه الجديدة هناك تعنى إعلان حالة الطوارئ، والاقتراب يقتضى منك أن تتعامل وكأنك فى منطقة ألغام، فحياة هؤلاء فى صنعتهم، والصنعة لها سر، والسر غير قانونى، ولأن هذه المنطقة لا مكان فيها سوى للتاجر أو العامل أو الزبون، كانت الطريقة الوحيدة للدخول إلى «عقر دارهم» أن نكون من هؤلاء، فذهبنا إليهم بحجة أننا بصدد بدء مشروع جديد، ونريد أن نشترى منهم البضاعة لنبيعها فى إحدى المناطق بجسر السويس.. وهكذا بدأت قصتنا فى قرية «باسوس»، أحد أكبر مراكز تعبئة حفاضات الأطفال فى مصر. ودليلنا هناك كان «حفاضات فرط» تباع فى أحد الأكشاك بمنطقة الدويقة، الأسعار تتراوح بين 75 قرشاً وجنيه.

اقتربت «أميرة» ممسكة ابنتها الصغرى «جنى» فى يديها، أخذت تقلب فى الحفاضات يميناً وشمالاً، وكأنها أمام «مشنة طماطم»، بضع دقائق استغرقتها الأم أمام بائع الحفاضات، عادت بطفلتها إلى المنزل ومعها حفاضتان «مكرمشتان»: «زوجى أرزقى على باب الله، ويادوب اللى جاى على قدّ اللى رايح، نجيب منين بقى ثمن الحفاضات الغالية اللى بنشوفها فى الإعلانات».. حسبما تبرر الأم شراءها حفاضات غير مغلفة ولا تحمل أى بيانات تدل على مصدرها من قريب أو بعيد.

أطباء: تؤدى إلى تسمُّم فى الدم والتهاب فى المخ والتهاب الكلى وقد تؤدى إلى الوفاة

تنظر إلى الحفاضة بتفحص قبل أن تنزع عن ابنتها الأخرى القديمة، وتتمتم: «المشكلة مش فى البيانات اللى مش مكتوبة، لكن اللى مخوفنى إن أختها الأكبر منها بسنة جالها حساسية من الحفاضات وتعبت أوى، وبنت عمها كمان الحساسية طوّلت معاها وعملت دمامل». تشير إلى «حساسية» بدأت تنتشر فى قدمى الطفلة الصغيرة، قائلة «وديتها للدكتور قال إن الحساسية أكيد من الحفاضات».. حديث «أميرة» عن الحساسية التى أصابت ابنتيها وقريبتهما، وعن تأكيد الطبيب لها أن السبب هو تلك الحفاضات، دفعنا إلى البحث وراء تلك الحفاضات، وبسؤال بعض الباعة عنها، جاءتنا إجابة واحدة فى كل مرة وهى «باسوس».

مئات البيوت هناك لا تعرف غير هذه التجارة، كباراً كانوا أم صغاراً، يتخذون منها مصدراً للرزق ولقمة العيش.. عشرات المحال هناك تلتصق جدرانها ببعضها البعض، لا عمل لها سوى التجارة فى الحفاضات جملة أو قطاعى، وتمتلئ الأرصفة عن آخرها بالآلاف من عبوات الحفاضات، الأسعار هناك موحّدة للقطاعى، أما الجملة فلكل امرئ ما جنت مفاوضاته مع البائع، فى البداية دخلنا إلى أحد تلك المحال نسأل صاحبه عمن يورّد له، فاعتدل فى جلسته، وقال لنا متوجساً: «خير عاوزينه فى إيه؟»، فحاولنا طمأنته وأجبناه بأننا بصدد افتتاح محل كبير للحفاضات فى منطقة جسر السويس، وأننا نسعى للوصول إليه لنحصل على أقل الأسعار الممكنة، نزلت الإجابة برداً وسلاماً على الرجل، وطلب منا الجلوس وقال ضاحكاً: «يعنى هتبقوا ولاد كار يبقى اقعدوا بقى»، وبدأ فى الحديث عن المورّد، قائلاً: «البضاعة دى بتيجى متهرّبة من بره مصر، شوية من ماليزيا وشوية من ألمانيا، لأن الكميات اللى بتتعمل هنا فى مصر مش بتكفى، بس أنا أقدر أديكم الكمية اللى انتوا عاوزينها».

الهيئة العامة للصادرات والواردات أكدت لنا أن رسائل حفاضات الأطفال التى تأتى من الخارج تعرض على الهيئة من قبل الجمارك، حيث تجرى المعاينة الظاهرية، وتسحب عينات للفحص طبقاً للمواصفات الخاصة بالصنف، وتعرض أيضاً على الحجر الصحى لإجراء تحاليل خاصة بالصنف، طبقاً لتشريعاته، وفى حالة المطابقة من المعامل يتم إصدار المطابقة النهائية للرسالة، وأن أكثر سبب تُرفض بسببه رسائل حفاضات الأطفال من الخارج هو عدم القدرة على الامتصاص، طبقاً للمواصفات القياسية المصرية.

«البالة بيبقى فيها من 200 إلى 500 كيلو، حسب اللى هتعوزوه، والكيلو بـ14 جنيه، ولو ماعندكمش بنات تغلف الحفاضات أنا ممكن أجيبلكم أغلفة وأحط عليه الاسم اللى انتوا عاوزينه وأديهالكم جاهزة، البنات بياخدوا 2 جنيه على تعبئة البالة الواحدة».. هكذا قدّم الرجل عرضه، فسألناه عن جودة المنتج، فأجاب ضاحكاً: «الحاجات دى بتبقى فرز تحت الصفر، يعنى بيبعتولنا الزبالة بتاعتهم»، ثم أعاد علينا عرضه مرة أخرى.

فى البداية رحّبنا بالفكرة التى طرحها الرجل، لكننا أبدينا رغبتنا فى أن نلقى نظرة على عملية التغليف قبل عقد الصفقة، ولكن رغبتنا تلك قُوبلت برفض شديد منه، وبرر ذلك بأن «سر الصنعة» لا يخرج إلا لأبنائها هنا فى المدينة، وأنه لا يجد أى مبرر لرغبتنا، ما دام بإمكاننا أن نرى المنتج النهائى متكدساً على أرفف محله، وأغلق باب النقاش، فعدنا إلى نقطة الصفر من جديد.

فى الطريق مر أمامنا طفل لا يتجاوز عمره 10 سنوات، يميل يمنياً ويساراً فى مشيته، فجسده النحيل لا يتحمل هذه الكميات الكبيرة من عبوات الحفاضات التى يضعها فوق كتفيه، سألناه عن المخازن التى أحضر منها تلك البضاعة، فرفض فى البداية أن يجيب، فقلنا له إننا تجار أغراب عن المنطقة ونريد أن نبتاع كميات كبيرة من هنا، فوافق على الفور وأصبح دليلنا إلى هناك.

تركنا الشارع الرئيسى، وخلف الطفل الصغير سرنا فى شوارع جانبية تمتلئ عن آخرها بمخازن التعبئة، العشرات منها تنزل أبوابها الحديدية حتى المنتصف، فيضطر من يدخلها إلى أن ينحنى ليدخل، وأخرى وضع أصحابها ستائر يخفون بها ما يجرى بالداخل، وجميعها لا تحمل أى لافتات بأسمائها، فبدا الأمر وكأن تلك المخازن تمتلئ عن آخرها بالأسلحة أو بأطنان المخدرات، لكن الحقيقة أن تلك الأبواب وتلك الستائر تخفى وراءها أطناناً من الحفاضات.

محلان أو ثلاثة فقط فتحت أبوابها، عكس الجميع، فاتجهنا نحوها، وما إن وطأت أقدامنا مدخل أحد تلك المخازن، حتى وجدنا أمامنا 2 من العاملين يقفان أمامنا، «من أنتم؟ وماذا تريدون؟»، فأعدنا نفس الإجابة على مسامعهما، واستغرق الأمر حوالى 10 دقائق بين أسئلتهما وإجاباتنا حتى سمحا لنا بالدخول. العمل داخل المخزن يسير على قدم وساق، خلية نحل يعلم كل من فيها دوره ويتقنه، الفتيات والصبية يجلسون على الأرض وأمامهم آلاف الحفاضات، فيقومون بثنيها وتطبيقها ووضعها داخل الأكياس، وآخرون يجلسون أمام الماكينات التى خُصصت لعمل لاصقات الحفاضات، وهناك من ينقل أكياس التغليف، ومجموعة أخرى لنقل الحفاضات بعد تغليفها إلى المحال بالشارع الرئيسى، ويوميتهم كما قال لنا أحدهم لا تتجاوز فى أفضل الأحوال الـ10 جنيهات.

هنا توجد حفاضات للأطفال، تبدأ من يوم حتى عامين، ولا تقتصر على الأطفال حديثى الولادة، فالمسنون لهم أيضاً نصيب كبير من أطنان الحفاضات المتراكمة على الأرض، وجميعها يحمل اسماً رئيساً هو «كوتشى»، وهى تقليد لماركة شركة «كوتشى» للحفاضات، لكن كل تاجر يصنع «إكليشيه» لنفسه يميزه عن غيره من التجار، فهناك من يطبع اسم «كوتشى الأهرام»، و«كوتشى بيبى فاين»، و«كوتشى السلام»، وغيرها من الأسماء، ولا يتم تدوين أى بيانات على الكيس من الخارج، وتحوى كل عبوة على 40 حفاضة تتراوح أسعارها بين 23 إلى 30 جنيهاً، وفقاً لكل تاجر.

الحفاضات تعبأ يدوياً فى مخازن سرية بمدينة «باسوس» بالقليوبية.. وتوزع فى كل أنحاء الجمهورية مطبوعاً عليها اسم ماركة عالمية

امرأة بدا عليها أنها فى بداية عقدها الرابع، كانت تجلس بجوار الفتيات أثناء عملية التعبئة تساعدهن حيناً وتلقى عليهن الأوامر بالإسراع وضرورة الانتهاء قبل غروب الشمس حيناً آخر، فعلمنا أنها المشرفة على هذا المخزن.

«نريد كميات كبيرة من الحفاضات لنبدأ بها مشروعنا للمنتجات الورقية، ولكننا نخشى الملاحقة القانونية».. هكذا تحدثنا إلى المسئولة الأولى هناك، فردت علينا «مافيش حد هيقولكم فين ومنين، ما كلنا شغالين أهه ولو عاوزين تغيروا الاسم روحوا عند عادل بتاع الإكليشيهات ويعملكم الاسم اللى انتوا عاوزينه بـ500 جنيه».

داخل أحد محال تعبئة الحفاضات وجدنا 4 شباب وفتاة تتراوح أعمارهم بين 13 و16 عاماً، يفترشون الأرض وحولهم الآلاف من حفاضات الأطفال والمسنين ملقاة على الأرض فى انتظار دورها للتعبئة، فيما كان هذا المحل خالياً تماماً من أى لافتة توضح نوعية عمله، وكان مبنياً بالطوب الأحمر. اقتربنا من أحد الشباب المفترشين الأرض، كان لا يركز فى شىء آخر سوى عمله، يضع الحفاضة على إحدى قدميه ويثنى طرفيها ويضعها بين قدميه حتى يتسنى له تعبئتها فى الأكياس المعدة سلفاً لذلك، سألناه إذا كان بإمكاننا أن نأتى له بأكياس موجود عليها شعار المحل الذى سنفتتحه ويقومون هم بتعبئتها لنا، فأجاب بأنهم لا يقومون بتعبئة إلا فى أكياس «كوتشى الأهرام»، لأن هذا هو شعار صاحب المحل الذى يعملون لديه، فشكرناهم وتركناهم ليكملوا مهمتهم.

كانت مهمتنا التالية هى شراء عينات من تلك الحفاضات، حجم الوسط والكبير وتحليلها لمعرفة إذا كانت صالحة للاستخدام أم لا، لذا توجّهنا إلى مصلحة الكيمياء للحصول على إجابة دقيقة.

يذكر أن مصلحة الكيمياء التابعة لوزارة التجارة والصناعة تمارس نشاطها منذ أكثر من 100 عام، بصفتها المعمل الحكومى المعتمد أمام كل الجهات الرسمية، ويمتد مجال عملها ليشمل اختبار كل الخامات الطبيعية والمنتجات المطروحة فى الأسواق للمواصفات القياسية الخاصة بها، وذلك بالتعاون مع الجهات الرقابية مجملة فى مصلحة الرقابة الصناعية ومديريات التموين فى جميع المحافظات.

مر ما يقرب من أسبوع، ذهبنا بعده لتسلم النتائج، لكن مفاجأة من العيار الثقيل كانت فى انتظارنا، فقد جاءت نتيجة التحاليل المخبرية التى أجرتها مصلحة الكيمياء لتثبت أن المنتج غير مطابق للاشتراطات الصحية لكل من الحجمين، فيما ذكرت النتائج أن الاشتراطات العامة كانت غير مطابقة فى حفاضات الأطفال ذات الحجم الكبير، إذ إنها احتوت على أوساخ وتمزّقات من الخارج، وأنهى التقرير الخاص بنتائج العينات التى تم سحبها من الأسواق الشعبية بأنها غير مطابقة للمواصفات بشكل عام، لما فيها من أخطاء وعيوب تصنيع وميكروبات ضارة. وذكرت مسئولة التحاليل بمعمل الميكروبيولوجى أن سبب عدم مطابقة الحفاضات للاشتراطات الصحية هو أن العينات كان بها عدد كبير من البكتيريا والجراثيم الفطرية الضارة، التى تسبب ضرراً لمستخدمها.

توجّهنا بنتائج التحاليل إلى الدكتور جمال بطران، أستاذ طب الأطفال وحديثى الولادة، الذى أكد بدوره أن مناعة الأطفال تكون ضعيفة، خصوصاً فى سنواتهم الأولى، لذا يكون من السهل أن تخترق مسام جلدهم أى فيروسات أو بكتيريا يتعرّضون لها، بل أضاف أنه من الخطورة أن تفاعل البول والبراز مع تلك البكتيريا والجراثيم الموجودة بالحفاضات قد يؤدى إلى إنتاج سموم تخترق الجلد بسهولة، تبدأ بعدها رحلة سريعة تسير بها التهابات الجلد عبر الدم، تؤدى إلى تسممه وتتدهور حالة الطفل فيصل الأمر إلى إصابته بالتهاب شديد فى المخ قد يؤدى إلى الوفاة.

نفس الأمر أكدته الدكتورة آمال البشلاوى، أستاذ طب الأطفال وأمراض الدم بكلية طب قصر العينى، قائلة إن الالتهابات التى قد تصيب الأطفال جراء اختراق تلك البكتيريا والجراثيم لجلودهم خطيرة جداً، تصل إلى المثانة أيضاً، وتحدث التهابات فى مجرى البول يصل إلى إصابة الكلى، مضيفة أنه من الممكن أن تتسلل تلك الالتهابات عبر فتحة الشرج إلى أمعاء الطفل، وأن تسمم الدم فى هذه الحالة وفى وجود هذا الكم من البكتيريا يصبح أمراً حتمياً، وتساءل الطبيبان عن دور الرقابة الحكومية فى منع انتشار مثل تلك الحفاضات المسمومة.

وهنا كان لا بد من طرح هذا التساؤل على وزارات الصحة والتموين والتجارة الداخلية والصناعة، وجاءت إجابة الأولى على لسان الدكتور محسن عبدالعليم، رئيس الإدارة المركزية لشئون الصيدلة بوزارة الصحة، قائلاً إن الوزارة لا تقوم بأى دور رقابى على هذا النوع من الصناعة، رغم إدراجها ضمن المستلزمات الطبية، لافتاً إلى أن الاشتراطات الصحية لا تعنى بالضرورة وقوعها تحت إشراف «الصحة»، فالمقصود هو الاشتراطات الصحية بشكل عام، وأكد أن الجهة التى من شأنها الرقابة على هذا النوع من الصناعة هى وزارة الصناعة والتجارة الخارجية.

التجار: نستوردها من ماليزيا وألمانيا.. وتاجر جملة: البضاعة دى فرز تحت الصفر يعنى بيبعتولنا الزبالة بتاعتهم واحنا بنغلفها

وقالت الهيئة العامة للصادرات والواردات التابعة لوزارة الصناعة والتجارة الخارجية فى رد أرسلته إلى «الوطن»: «بالنسبة لتعبئة الحفاضات بطريقة غير رسمية، وأن التجار يأتون بها من ماليزيا نحيط علمكم أن الهيئة تقوم بفحص ما يتم عرضه عليها من مصلحة الجمارك، وينتهى دور الهيئة بإصدار المطابقة أو الرفض للرسالة، أما خلاف ذلك فإنه يعد من اختصاص قطاع التجارة الداخلية، حيث إن الهيئة ليست جهة اختصاص فى هذا الشأن»، مشيرة إلى أن الدول التى تم رفض رسائل حفاضات منها منذ بداية 2012، وحتى منتصف العام هى ألمانيا وبلغاريا والإمارات بعدد رسالة لكل منهم.

أما الدكتور أحمد عباس، رئيس قطاع التجارة الداخلية بوزارة التموين والتجارة الداخلية، فأكد أن هناك مئات المحاضر التى حُررت بسبب وقائع غش تجارى فى بيع الحفاضات المقلدة فى الأسواق المصرية، وأنه عند قيامهم بعمليات تفتيش مفاجئة على تلك الأماكن يرفض التجار الإدلاء بأى معلومات عن الأماكن التى أحضروا منها تلك البضاعة، مشيراً إلى أن لديه معلومات عن أن بعضهم يعيد تدوير الحفاضات التى يحصل عليها من المستشفيات، والتى تلقى فى القمامة من قسم الحضانات، ويعبئونها من جديد.

وأضاف «نعلم بوجود الكثير من مصانع بير السلم فى منطقة باسوس ونكثّف حملاتنا التفتيشية على تلك المنطقة، ولكن الأزمة الحقيقية أننا بحاجة إلى تغليظ عقوبة الغش التجارى». وأوضح أن من بين تلك التشريعات «قانون الغش التجارى رقم 281 لسنة 94»، من حيث تغليظ العقوبة، بدلاً من الحبس لمدة عام واحد، وغرامة مالية 10 آلاف جنيه لتصبح حبساً وجوبياً.