حذَّر يحيى غانم الخبير في الشأن الإفريقي مما أسماه "نزوحًا جماعيًّا" مصر إلى السودان بسبب سد النهضة الإثيوبي.

وقال غانم، في حلقته السادسة بموقع "هافينجتون بوست" عن سد النهضة والشأن الإفريقي بعنوان "سد النهضة.. خطيئة النفس في حق النفس: "إثيوبيا لها اليد العليا في إدارة ملف مياه النيل في ظل استسلام كامل من جانب مصر بسد النهضة بمواصفاته الكارثية".

وأضاف: "بقدر ما يجب أن نسلم أنَّ إثيوبيا هي التي خطَّطت فينبغي أن نسلم أيضًا أنَّ ما أقدمت عليه إثيوبيا لم يكن مفاجئًا لمصر بدايةً من المتابعين للملف الإفريقي وصولاً إلى القيادة السياسية، ولم يكن باستطاعة إثيوبيا أن تحقِّق هذا النصر دون مساعدة رئيسية للأسف من مصر ذاتها".

مصر دفعت كل خصومها للتوحد ضدها 

ودعا غانم إلى تفادي ما أسماها "الكارثة" من خلال مراجعة موضوعية للكشف عمن تسبَّبوا في الوضع الراهن، مشيًرا إلى أنَّ الأزمة بدأت منذ بداية طرح مصر فكرة مبادرة حوض النيل كوريث متطور لمجموعة عمل "التيكونيل" وصولاً إلى التوقيع على وثيقة الخرطوم وما بينهما من قرارات كارثية تمثِّل الخطأ القاتل الذي كان واضحًا منذ البداية، حسب تعبيره.

وتابع: "المبادرة كانت في جوهرها آلية تفاوضية أكثر من كونها آلية للتعاون الفني التي كانت قائمةً بين بعض دول الحوض في زمن مجموعة التيكونيل، ولقطع الطريق على ممارسة مزيدٍ من الخداع في قضية حياة أو موت، وهو ما أوصلنا إلى عدة نتائج أهمها أنَّ مجموعة دول التيكونيل كانت تَجَمُّعًّا لبعض دول الحوض، لوضع مشروعات تنمية الحوض، وبالتالي تنمية موارده المائية، وعندما أقدمتْ مصر على الدفع بمبادرة حوض النيل كي تخرج إلى النور، كانت عمليًّا تدفع كل خصومها للتوحد على جانب من مائدة تفاوض جماعي على أن تجلس هي وحيدة على الجانب الآخر من المائدة، وهو ما لا يمكن أن يقوم به عاقل، إلا إذا كانت هناك أهداف أخرى من وراء الأكمة".

القضية سياسية وليست فنية 

وذكر غانم: "من طرح هذه الفكرة أو تحمَّس لها في مصر كان يجب أن يدرك إنْ لم يكن مدركًا منذ البداية بالفعل أنَّ التفاوض منذ بداية المبادرة سيكون جماعيًّا وأنَّه كان سيسفر بالتأكيد عن توحيد مواقف دول أعالي النيل ضد مصر، وهذا التفاوض الجماعي كان سيفضي في النهاية -بعد توحيد مواقف دول أعالي النيل- إلى مرحلة أخيرة من التفاوض بين دولة المنابع الشرقية (إثيوبيا) التي تفتعل المشكلة- وبين مصر والسودان، ومن أنَّ السودان سوف ينحاز في النهاية لدول المنابع لأسباب سياسية واضحة، وبالتالي سيكون على مصر أن تواجه إثيوبيا وحيدة، ولكن بعد أن تكون الأخيرة قد حصنت نفسها سياسيًّا بدعم كل دول الحوض لها، والأهم أن تكون بدأت في خلق أمر واقع، ألا وهو السد ذاته بمواصفاته الجائرة".

وأوضَّح غانم: "الأخطر من ذلك كله أنَّ مبادرة حوض النيل أوهمت كثيرين بأنَّ القضية فنية بحتة، في حين أنَّها قانونية وسياسية بامتياز، وهو ما أدركته القيادات السياسية في مصر عن وعي، حيث أنَّ هذا التكنيك الإثيوبي كان واضحًا للطفل قبل أن يكون للمتخصصين، أمَّا في حال الاحتجاج بعدم الوعي بذلك، فإنَّ كل هذه القيادات ما كان لها أن تكون قيادات من الأساس، ناهيك عن ضرورة محاسبتهم، وعندما تدخلت القيادة السياسية في النهاية، وللعلم لم تتدخل القيادة السياسية في مصر تدخلاً سياسيًّا في الأزمة طوال فترة حكم مبارك ولا المجلس العسكري ولا محمد مرسي، فإنَّها سلمت بكافة مطالب إثيوبيا التي تجور على حق مصر في الحياة، ولا أقول حقها في المياه".

لابد من رفض البرلمان لإعلان المبادئ.. ووضع وثيقة جديدة 

وأضاف غانم: "بالرغم من هذا السقوط الحر الذي أقدمت عليه إدارات مصر وقياداتها السياسية على مدار السنوات الـ 16 الأخيرة فيما يتعلق بمياه النيل، فإنَّه تبقى خيارات يمكن أن تحفظ لها حدًا أدنى من مستقبل لأجيالها القادمة، ومن بين هذه الخيارات أنَّ أي اتفاق بين الدولة وأي أطراف أجنبية -سواء كان دولة أخرى أو مؤسسات نقدية أو مالية دولية- يستوجب إقرار ممثلي الشعب المنتخبين بعد توقيع السلطة التنفيذية كشرط لتفعيل الاتفاق، فإنه يجب على مجلس النواب أن يرفض إعلان المبادئ الثلاثي الموقع في مارس من العام 2015".

وأوضح: "رفض البرلمان لا يعني بأي حال من الأحوال الانتقاص من قدر القيادة السياسية التي وقعت ولا ممثلي السلطة التنفيذية الذين قاموا بصياغة ودراسة الاتفاق قبل التوقيع.. ببساطة، هذا هو دور البرلمان في المراجعة والقبول بالإقرار أو الرفض وبالطبع، سيكون من الأفضل ألا يكتفي البرلمان بالرفض، وإنما أن يطرح نسخة أخرى للاتفاق بعد جلسات استماع يستمع خلالها لشهادات خبراء متخصصين في مجالات السياسة والقانون والمياه والبيئة والدفاع، بالإضافة للاستماع لشهادات مختلف رؤساء الأجهزة المعنية بالقضية". 

وتابع: "في حال وضع البرلمان وثيقة جديدة- بعد رفض هذه الوثيقة الكارثية- فإنَّ هذه الوثيقة يجب أن تضع سقفًا واقعيًّا لمواصفات السد شديدة الجور على حق مصر وشعبها في الحياة، وهو الأمر الذي يتوافق مع كافة القوانين الدولية المنظمة للعلاقات المائية للدول المتشاطئة في نهر دولي واحد، أن تأخذ القيادة السياسية هذه الوثيقة التي يضعها الشعب المصري مُمَثَّلاً في برلمانه المنتخب وأن تضعها أمام إثيوبيا في نفس الوقت الذي تقدمه إلى كافة المنظمات الدولية المعنية بالقضية فنيًّا وقانونيًّا وسياسيًّا لوضع أديس أبابا أمام المجتمع الدولي ووضع الاثنين أمام مسؤولياتهما الدولية وفي هذا، فإنَّ هذه الوثيقة -التي ستكون أهم وثيقة في تاريخ مصر وحياة أمتها- لا يجب أن تكون موضع تفاوض مع الإثيوبيين، فهي الحد الأدني من الحق في الحياة لأقدم أمة عرفها العالم، والتي هي مهددة حالياً بالاندثار. مرة أخرى، هذه الوثيقة لا يجب أن تكون موضع تفاوض، وإنما هي تطبيق لمواد القانون الدولي فقط.. وبالرغم من أنَّ مجلس النواب قد انعقد منذ أكثر من شهرين، إلا أنَّه لم يثر مجرد جدل حول هذه القضية المصيرية ولا اتفاق الخرطوم الكارثي، وهو ما يجب أن يدفع كلَّ من يحب مصر ويخشى على مصير شعبها أن يدفع البرلمان أن ينهض بهذه المهمة بأقصى سرعة".

لابد من وضع برنامج زمني لأي اتصالات مع إثيوبيا 

وطالب غانم  بوضع مدى زمني محدود ومحدد لأي اتصالات مع إثيوبيا، بحيث يتم قطع الطريق عليها في خلق واقع على الأرض، وبخاصةً أنَّ الزمن الذي يفصل عن استكمال السد بموصفاته الحالية التي وصفها بـ"الجائرة"، لا يزيد عن عام ونصف العام، متابعًا: "قصدت عدم استخدام كلمة مفاوضات، وهو المفهوم الكارثي الذي أدَّى بنا إلى ما نحن بصدده.. فالاتصالات يجب أن تتم بشكل حازم، ومفادها أنَّ ما يحدث هو انتهاك صارخ للقانون الدولي فيما يتعلق بحياة أمة بأكملها".

العمل بكل الوسائل لإيقاف سد النهضة فورًا 

وذكر الخبير: "لكي يتحقق ما سبق، ينبغي بالتزامن مع ذلك كله، العمل بكل الوسائل لتوقف إثيوبيا عن أعمال الإنشاء في سد النهضة فورًا حتى يتم التوافق على اتفاق مرض للجانبين، ولتحقيق ذلك.. ينبغي على القيادة السياسية -وأكرر القيادة السياسية حيث أنَّه لا مجال لما دونها لعمل ذلك- القيام بخطوتين متزامنتين الأولى هى السعي لدى الدول الصديقة والحليفة لمصر بالضغط على إثيوبيا للتوقف تمامًا عن استكمال بناء السد إلى حين حسم مسألة مواصفاته الفنية الكارثية والثانية هى التوجه فورًا إلى مجلس الأمن الدولي بملف كامل ومتكامل حول هذه الكارثة التي ليست لها إلا نتيجتان، إمَّا خلق أجواء حرب فعلية، في حال قرر النظام المصري أن يحفظ حدًا أدنى له من شرعية في الداخل، أو أن تؤدي الكارثة إلى موجات هجرة جماعية -أوسع بكثير مما أدَّى له الجحيم الذي أقامه بشار الأسد لشعبه- نحو الشمال، وهو ما لا يريده الغرب بالطبع. وغني عن القول إنَّ جانبًا من موجات النزوح الجماعي للمصريين ستتجه صوب السودان".

موقف حاسم مع السودان 

طالب غانم بضرورة أن يكون هناك موقف أكثر وضوحًا وحسمًا مع السودان الذي بدا انحيازه واضحًا خلال العام الأخير للجانب الإثيوبي، لا سيَّما أنَّه لن تلحق به التأثيرات الكارثية التي ستنال مصر، حسب قوله.

وأشار إلى أنَّ موقفًا مؤيدًا من جانب السودان سيكون له أثره، وبخاصةً بعد أن فقدنا جنوب السودان بفضل سياسات كارثية خاطئة تبناها نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك.

لا ينبغى التوقيع على اتفاق يمثل تنازلاً رسميًّا عن الحقوق للأبد 

شدَّد غانم قائلاً: "يتوجب على الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يعلم إنَّه إذا تقطعت بمصر السبل لوقف هذه الكارثة، فعلى الأقل لا ينبغي التسليم بها، وذلك بتوقيعه على اتفاق هو بمثابة تنازل رسمي عن الحقوق للأبد.. فإذا فشل هذا الجيل في الحفاظ على حق الأجيال المقبلة في المياه، فلا أقل من ألا يقيدهم نفس هذا الجيل بمثل هذه الوثائق، وأن نترك لهم الفرصة لكي يحاولوا فيما أفشلته القيادات السياسية عمدًا تارة وبالجهل تارات، وأعتقد أنَّ هذا أقل من الحد الأدنى لكي نكون مخلصين في ترديد شعار: تحيا مصر".