كمين مُحكم.. توصيف دقيق لزيارة "لندرة". دعوة في توقيت مُختار بدقة.. ذكرى وعد بلفور، ليس قبلها بأسبوع ولا، ولا بعدها بأسبوع. مجرد قبول الرئيس عبدالفتاح السيسي للتوقيت، كان رسالة ضعف، فإنجلترا، كخالقة لإسرائيل تدرك أن فلسطين قضية مصر، قبل العرب، المركزية. توقيت، ربما، شجعهم، على وضعه في نفس وضعية المخلوع حسني مبارك حين قبل دعوة زيارة مماثلة في ذكرى 23 يوليو، ووبخه وقتها الراحل يوسف إدريس، علناً.
أدركت الإمبراطورية الغابرة التي لم تنس أن "ذيلها" قُطع في السويس، وخالقة، وحاضنة، الإخوان، تاريخياً، الوضعية التي صدّر السيسي نفسه منها، فتقدمت خطوات: تقليل من تأثير عداء إعلامي للزيارة.. لطمئنته لإكمالها، وعود بإتفاقات تعاون أمني وتعليمي، بشارة من سفيرها بالقاهرة للمصريين بـ "حاجة حلوة" ستعلن مع وصول رئيسهم لإنجلترا. وبعد ساعات بدأت اللطمات، إهانة مُتعمدة، وكأن الإنجليز يقولون لنا: "هذا هو حال رئيسكم، القائد الأعلى لجيشكم."
لا أنفي، ولا أقر، وجود معلومات إستخبارية بريطانية وأمريكية، بإختراق "داعشي" لأمن مطار شرم الشيح، ولا أستبعده. لكن توقيت اللعب، وهو في بيتهم، بها بدا مُهيناً وطنياً، وصمت السيسي عليها ومواصلته الزيارة خضوع للإهانة، ما شجع عواصم غربية أخرى على العزف مع الكورس البريطاني.
عداء الغرب، كـ نُظم، لأي تجربة صعود وطني.. حقيقة تاريخية، لدينا حصار تجربتي محمد علي وعبدالناصر وبينهما غرس إسرائيل في قلبنا لعرقلة أي أحلام مصرية. لا جديد هنا، سواء كان صراع نفوذ دولي أو حضاري أو مؤامرة. أين أجهزتنا المعنية لترصد وتحذر، أو تعوض ما فاتها، وتضع سيناريوهات رد ومواجهة، لنتفاداها أو نقلل من خسائرها؟ كيف نلدغ عدة مرات "فجأة" خلال 24 ساعة؟
انشغلت أجهزتنا عن دورها في الخارج، بما لم نكلفها به في عقدنا الإجتماعي، بالسيطرة على المجال العام، سياسة وإعلام، لهيكلته وفق رؤيتها هي، تحت وهم إحتكار الوطنية وحماية الدولة، كما حاول من ثرنا عليهم في 30 يونيه احتكار الدين. قيدت الأجهزة طاقات مجالنا العام، بتنوعاته، بدلا من تهيئة المناخ له لينمو ويتطور بآلياته هو، ليقوى ذاتياً كحائط صد ضد خصوم دولتنا. وتجاهلت، داخلياً، دورها في متابعة أداء الجهاز الإداري، ورفع تقارير عنه، لسد نواقصه وشد المُتراخي منه. وربما، أعدت تقارير تبرر، أو تتجاهل، ترديه وتفككه، لأنها تنتمي، مثله، لـ لانظام مبارك.
"تأمرهم" علينا ليس جديداً، فعداء الغرب لنا لن ينتهي، فماذا فعلنا لنسد ثغراتنا؟ ثرنا على منظومة مبارك، شعب وجيش، لننقذ البلد مما تردت إليه أحوالها. فنحت "يسقط يسقط حسني مبارك" على حديد الدبابات التي نزلت ليلة 28 يناير لم يأت من فراغ، بل كتعهد من المؤسسة لـ ملايين الثوار، لا مئات النشطاء، بحتمية "إسقاط لانظام مبارك".
لم أفهم، أبداً، منطق صمت الجيش على إحياء لانظام خطط هو لإسقاطه، لأنه كان خطرا عليه كما على البلد؟ ولا الإبقاء على منظومة شرطة العادلي، التي تعهد المجلس العسكري علنا بإعادة هيكلتها، ومديح الرئيس لها في كل مناسبة، بينما هي أسد على الشعب وأمام الإرهاب والبلطجة والفساد نعامة؟ النتيجة هي ما هاجمتنا به لندرة ورأس نظامنا على أرضها. تحلل تام للمنظومة الامنية، بينما نحن نعيش وهم ان لدينا جهاز أمن يحمينا، بينما هو، عمليا، علينا لا معنا.
رصاصات الإعلام الغربي، بعد إشارة لندن، توالت، كلها تذكرنا بسلوكيات عايناها وعانينا منها، وحذرت ألاف الأصوات بسببها من تسرطن جهازنا الأمني. فالنائب العام أغتيل لأن مرورنا متمرد وتغافل عن سيارة مُفخخة إنتظرته خمس ساعات في الممنوع، وأمن مبارك يُضرب في ذات المنطقة مرات، كوبي بيست، دون أن يتعلم، على الأقل، كيف يحمي نفسه، لأنه، أصلا، غير مؤهل لذلك.
نحن من مكناهم من ضربنا، ومن خصم حلفاء، كروسيا، منا. من قبل كنا نقول: لو حقق السيسي في الداخل نصف ما حققه في الخارج، لأصبح حالنا أفضل كثيرا. نسينا انها "أواني مستطرقة"، ولم ننتبه إلى أن الضرب من الخارج سيأتي وفق توقيته هو.. لا نحن. الآن اكتملت دائرة الفشل، داخلياً وخارجياً. و"الحدوتة" لن تقف عند تدمير السياحة، فضمنها إشارة تشجيع لأثيوبيا، وفي ذيلها البشير: "افعلوا ما تريدون في ملف النيل." ولندرة تؤيد موقف أديس أبابا، متجاهلة الإتفاقات التي وقعتها هي، كمحتلة لمصر، لضمان حقوق القاهرة في المياه. ولتركيا وقطر: "تقدموا لإختراقات أكبر، داخل مصر وفي جوارها." ولحلفاء الخليج، علينا خصم السعودية بعد فوز أردوجان، وباقي دول المحيط: "أنتم تراهنون على ورقة في مهب الريح." وللشعب المصري: "راهنت على جيشك.. فلم يتغير شيئاً."
لن نستطيع مواجهة الخارج والسوس ينخر فينا، ولن ينقذنا سوى إصطفاف وطني حاسم، قاعدته عودة الرئيس والمؤسسة لما تعهدوا به، وأوكلهم الشعب تنفيذه: التخلص من سوس مبارك، وشد مفاصل الدولاب المُفككة، وتدشين بناء مصر مدنية حديثة. وقتها، لن يجد الخارج ما ينفذ منه لضربنا، ولو حاول، سيجد جبهة داخلية وطنية صلدة.
رمم بيتك.. رمم بيتك، التاريخ، والخارج، لن يرحم.