كان نبأ اختيار روسيا لاستضافة كأس العالم‏2018 هو أحدث حلقات مسلسل عودة الدب الروسي‏,‏ بعد سلسلة من الأحداث والوقائع السياسية والاقتصادية التي جرت علي مدي السنوات العشر الماضية‏.

الحرب الروسية الجورجية أكبر عودة لموسكو الى الساحة الدولية

‏ والتي أكدت أن الدب الروسي يستيقظ من سباته ليستعيد مكانته وهيبته‏,‏ وأن موسكو استردت بعضا من أمجاد إمبراطورية زائلة كان اسمها الاتحاد السوفيتي‏,‏ تاركة وراء ظهرها سنوات من الضياع عاشتها بعد انهيار المعسكر الشيوعي في تسعينيات القرن الماضي‏,‏ ولكن ما بين الضياع والاستيقاظ الجديد رحلة أخري من المعاناة وتحديات وحروب ومواجهات لا حصر لها‏.‏

روسيا أكدت ـ كما أكدت الصين والهند وتركيا وغيرها من القوي الصاعدة خلال العقد الماضي ـ أن الاقتصاد القوي هو أساس القوة السياسية لأي دولة في العالم‏.‏ وعلي النقيض تماما من فترة التسعينيات التي عاني فيها الشعب الروسي من الفقر المدقع وارتفاع معدلات البطالة إلي نسب خيالية‏,‏ شهد الاقتصاد الروسي نموا هائلا مكنه من أن يصبح سابع أكبر اقتصاد في العالم‏,‏ حيث بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي نحو‏7%‏ سنويا‏,‏ بالإضافة للانخفاض الملحوظ للتضخم والبطالة‏,‏ وارتفع الدخل الحقيقي للسكان بنسبة‏ %50،‏ كما عملت الحكومة علي تسديد ديون خارجية تبلغ قيمتها‏50 مليار دولار‏..‏

وفي السطور التالية عرض موجز لبعض التطورات التي حدثت علي الساحة الروسية منذ بداية الألفية الثالثة وحتي نهاية عام‏2010,‏ وأيضا طرح لتساؤل حول مستقبل الدب الروسي‏,‏ وهل ستحول الحركات الانفصالية في منطقة شمال القوقاز المضطرب ـ التي كانت تابعة لروسيا في عهد الاتحاد السوفيتي ـ دون مزيد من التقدم والاستقرار‏,‏ والي أي مدي ستؤثر مركزية السلطة والافتقار إلي الديمقراطية في نظام الحكم وارتفاع معدلات الفساد في مشوار ورثة السوفيت نحو الصعود ؟

عودة قوية إلي الساحة الدولية

تمكنت روسيا خلال العقد الأول من الألفية الثالثة ـ وتحديدا منذ تولي الرئيس السابق ورئيس الوزراء الحالي فلاديمير بوتين رئاسة البلاد لفترتين منذ 2000 إلي‏ 2008 ـ من فرض نفسها بقوة علي الساحة الدولية لتستعيد مكانتها التي تراجعت إلي حد الاختفاء في عهد الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين الذي تولي الرئاسة عام‏1991‏ ليكون أول رئيس منتخب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي‏,‏ والذي وصفت فترة رئاسته بأسوأ فترة في تاريخ روسيا‏,‏ حيث انتشر الفقر والفساد وسيطرة رجال الأعمال اليهود علي قطاع البترول والغاز المتوافر بكثرة في روسيا‏.‏

فبعد أن شهدت البلاد انتعاشة اقتصادية كبري‏,‏ بدأت موسكو في الظهور كإحدي القوي الكبري القادرة علي التأثير في القضايا الدولية‏.‏ ومن أهم تلك القضايا‏,‏ قضية البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل‏,‏ حيث إن روسيا واحدة من الدول الست الكبري التي تبحث الملف النووي الإيراني في مجلس الأمن مع كل من الولايات المتحدة والصين وفرنسا وبريطانيا‏,‏ بالإضافة إلي ألمانيا‏,‏ كما أن المصالح الروسية الإيرانية دفعت موسكو في وقت من الأوقات إلي عرقلة الجهود الغربية الرامية إلي فرض حزمة رابعة من العقوبات الدولية علي طهران‏,‏ وظلت تلعب دور العميل المزدوج لكل من الغرب المنادي بالعقوبات‏,‏ وطهران التي تبني لها مفاعلا نوويا في بوشهر حتي تحافظ علي مصالحها مع البلدين إلي أن قررت في النهاية الوقوف إلي جانب واشنطن ودعم العقوبات‏.‏

وظهر أيضا الدور الروسي القوي في محاولات استعادة العلاقات الودية مع الولايات المتحدة‏,‏ وإيمان واشنطن بحيوية الدور الروسي الذي تمثل في توقيع اتفاقية ستارت‏2‏ لخفض الأسلحة النووية بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما ونظيره الروسي ديمتري ميدفيديف في أبريل من العام الحالي‏,‏ تلك الاتفاقية التي تستغلها موسكو بين الحين والآخر في تحذير واشنطن وبكل قوة من أن أي عمليات تطوير لترسانتها النووية سيقابله تطوير روسي مماثل‏.‏

‏.‏ كما تجلت القوة العسكرية الروسية أيضا في محاولات حلف شمال الأطلنطي‏(‏ الناتو‏)‏ لضم روسيا إليه‏,‏ وذلك بالإضافة إلي التهديدات الروسية المتواصلة للناتو بنشر صواريخ وأسلحة نووية علي حدودها إذا لم يشركها الناتو في منظومة الدرع الصاروخية المزمع نشرها في أوروبا‏.‏

الحرب الروسية ـ الجورجية‏.‏

كانت الحرب بين روسيا وجورجيا في أغسطس‏2008 دليلا واضحا علي استعادة النظام الروسي قوته وتحوله إلي كيان لا يستطيع الغرب أن يأخذ منه حقا ولا باطلا‏.‏ ففي‏8‏ أغسطس‏ 2008 قام الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي‏,‏ حليف واشنطن‏,‏ بعملية عسكرية لاسترجاع إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية المنفصلين عن جورجيا منذ عام‏1991.‏ وكان رد القيادة الروسية قويا لم تتوقعه واشنطن‏,‏ ولا حليفها ساكاشفيلي‏,‏ فأعلنت الحرب علي جورجيا‏,‏ وقصفت الطائرات الروسية أهدافا عسكرية جورجية وزحفت عشرات الدبابات علي إقليم أوسيتيا الجنوبية وسيطرت عليه في غضون ساعات‏,‏ ولم تمض بضعة أيام حتي أعلنت جورجيا سحب قواتها من أوسيتيا الجنوبية ووقع الطرفان‏,‏ بعد وساطة فرنسية‏,‏ علي قرار لوقف إطلاق النار بعد أن خلفت الحرب ألفي قتيل مدني في أوسيتيا وعشرات القتلي في صفوف الجيشين‏.‏ وهكذا وقفت واشنطن وحلفاؤها في الناتو عاجزة عن أي تدخل عسكري أو إصدار قرار دولي يمنع روسيا من اقتحام الأراضي الجورجية‏.‏

فشل الثورات الملونة وعودة إلي روسيا الأم

شهدت الأعوام الثلاثة المتتالية‏ 2003 و‏ 2004 و‏ 2005‏ ثلاث ثورات ملونة في كل من جورجيا وأوكرانيا وقرغيزستان وهي جمهوريات كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي حتي حصلت علي استقلالها بعد انهياره عام‏1991.‏ ويقصد بالثورة الملونة تلك الانتفاضات الشعبية المنظمة التي تحمل أعلاما وشارات ذات لون مميز تعرف به‏.‏ وبدأت تلك الثورات بالثورة الحمراء الوردية في جورجيا ثم الثورة البرتقالية في أوكرانيا ثم الصفراء في قرغيزستان‏.‏ وكانت جميع هذه الثورات تهدف للإطاحة بالحكومات الديكتاتورية ومحاربة الفساد وتحسين الأوضاع الاقتصادية للبلاد‏,‏ وتحمل بين طياتها غايات التخلص من الرؤساء المواليين لروسيا وتحلم بطريق جديد ممهد إلي الغرب‏.‏ ولعبت الولايات المتحدة دورا كبيرا في دعم هذه الثورات بهدف تقليص السيطرة الروسية علي تلك الدول التي كانت يوما جزءا من أراضيها حيث أغدقت بالأموال علي أنصارها ودفعت بالأشخاص المواليين لها إلي مناصب الرؤساء‏.‏ وعلي الرغم من تمكن الثوار من تحقيق أهدافهم في الإطاحة بالحكومة إلا أنه وبعد مرور السنوات اتضح فشل جميع الثورات الملونة في دول الاتحاد السوفيتي السابق وعادت كل من أوكرانيا وقرغيزستان إلي أحضان روسيا الأم بينما لايزال الشعب الجورجي ينعي حظه من فشل تحقيق أهداف ثورته الوردية‏.‏

ففي أوكرانيا‏,‏ عجزت الحكومة البرتقالية برئاسة فيكتور يوشينكو حليف الولايات المتحدة والذي وضعته الثورة رئيسا علي البلاد في انتخابات عام‏2004 في تحقيق النمو الاقتصادي وتحسين الظروف المعيشية وغرقت البلاد في مستنقع الفساد‏,‏ وهو الأمر الذي جعل البرتقاليين يتنازلون عن أحلامهم السابقة ويختارون الرئيس فيكتور يانوكوفيتش المعروف بموالاته لروسيا في الانتخابات الرئاسية لعام‏2010 علي الرغم من أنهم رفضوا انتخابه كرئيس لهم عندما كان منافسا ليوشينكو في انتخابات‏2004‏ التي جرت معها الثورة‏.‏

وأما جورجيا‏,‏ فبعد مرور سبع سنوات علي الثورة الوردية التي أتت بالرئيس الحالي ميخائيل ساكاشيفلي الذي كان أملا لشعبه ورمزا للتغيير‏,‏ مازالت جورجيا‏-‏ التي تحصل علي أكبر قدر من المساعدات المالية من قبل الولايات المتحدة وأوروبا‏-‏ تعاني من سيطرة الحكومة علي وسائل الإعلام وانتهاك حقوق الشعب وعمليات اغتيال مستمرة وفقا لتقرير منظمة العفو الدولية عام‏2005.‏ ووضعت الأحداث الدامية التي وقعت في قرغيزستان في أبريل من العام الجاري كلمة النهاية للثورات الملونة المناوئة لروسيا‏,‏ فبعد أن أطاحت الثورة الصفراء بالرئيس عسكر باكييف‏,‏ حليف موسكو‏,‏ وعينت بدلا منه كرمان بك بكاييف‏,‏ عاد الثوار مرة أخري ليطيحوا برئيسهم الذي اختاروه من قبل‏,‏ وتولت المعارضة بزعامة الرئيسة روزا أوتنباييفا‏,‏ التي تلقي دعم روسيا‏,‏ الحكم‏.‏

ثنائية بوتين‏-‏ ميدفيديف

يتمتع الرئيس الروسي السابق ورئيس الوزراء الحالي فلاديمير بوتين‏-55‏ عاما‏-‏ الذي حكم البلاد لفترتين رئاسيتين منذ عام‏2000 وحتي‏2008 بشعبية كبيرة لدي الشعب الروسي‏,‏ فهو في نظرهم ذلك الرجل الذي أنقذ بلادهم من حافة الانهيار ونما باقتصادهم وأرجع إلي روسيا هيبتها ومكانتها وسط العالم‏.‏

ومن متابعة الوضع الحالي للسلطة في روسيا نجد أنه بالرغم من أن الرئيس الحالي ديمتري ميدفيديف‏42 عاما‏-‏ هو الحاكم الرسمي للكرملين‏,‏ إلا أن بوتين لايزال هو المهيمن الحقيقي علي السلطة‏,‏ حيث يشير خبراء الشئون الروسية إلي أن بوتين عندما رشح ميدفيديف‏-‏ أحد أكبر مساعديه والذي عمل تحت رايته مدة‏ 17 عاما لخلافته ورفض تعديل الدستور لتوليه فترة رئاسية ثالثة كان يقصد أن يحافظ علي شعبيته‏,‏ وأن يختار من يضمن ولاءه حتي يتمكن من قيادة البلاد بنفسه كرئيس في الظل إلي أن تحين الانتخابات الرئاسية عام‏2012,‏ والتي أعلن بوتين استعداده لخوضها‏.‏

وتتضح اليد العليا لبوتين علي الحكم جلية في العديد من المشاهد المحلية والدولية‏.‏ فالشعب الروسي كثيرا ما يطلق نكاتا تؤكد سيطرة بوتين منها نكتة تقول إن بوتين أهدي سيارة فاخرة لميدفيديف عندما تولي الأخير الرئاسة إلا أن السيارة بدون مقود‏,‏ في إشارة إلي أن المقود هو بوتين وبغيره لا يستطيع ميدفيديف التحرك‏.‏ كما أظهر استطلاع للرأي أجري نهاية العام الماضي أن‏ %70 من الروس يعتقدون أن بوتين هو الرئيس الفعلي للبلاد‏,‏ بالإضافة إلي أن مئات الموظفين في الكرملين مازالوا يعلقون صورة الرئيس السابق في مكاتبهم في حين لا يضع بوتين صورة رئيسه في مكتبه‏.‏ وخارجيا‏,‏ كان بوتين هو صاحب قرار وقف إطلاق النار مع جورجيا‏,‏ أما ميدفيديف فكان مجرد معلن لها ودائما ما يستقبل قادة العالم رئيس الوزراء بوتين استقبال الرؤساء‏,‏ كما يحرصون في زيارتهم لموسكو علي زيارة مكتبه‏.‏

هل يحول الفساد دون مزيد من الصعود ؟

الفساد يضرب جذوره في روسيا هذا ما كشف عنه تقرير منظمة الشفافية العالمية الذي نشر في أكتوبر من العام الجاري‏,‏ وأظهر أن روسيا هي أكثر الدول فسادا من بين دول مجموعة العشرين الاقتصادية‏,‏ وأنها هوت من المرتبة الـ‏146 في مؤشر الشفافية إلي المرتبة الـ‏154 مما يضعها علي مرتبة متقاربة مع دول أفريقية ونامية ويهدد وضعها كقوة عالمية‏.‏

التمرد في شمال القوقاز وتهديد الأمن الروسي‏.‏

منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام‏1991,‏ والحركات الانفصالية في منطقة شمال القوقاز تعد أخطر التهديدات التي تواجه الأمن والاستقرار الروسي‏.‏ ففي الوقت الذي يواجه فيه العالم اليوم خطر الإرهاب المتمثل في تنظيم القاعدة‏,‏ تعاني روسيا منذ أكثر من عشر سنوات من إرهاب من نوع آخر وهو تمرد الانفصاليين الشيشان الذين بعد أن عانوا من ويلات الحربين الروسيتين الأولي والثانية علي الشيشان‏,‏ تحولوا من متمردين ذوي نزعة قومية تسعي لفصل الشيشان عن روسيا الأم‏,‏ إلي مجاهدين إسلاميين يسعون إلي توحيد جمهوريات منطقة القوقاز في دولة إسلامية تحكم بالشريعة‏.‏

وشهدت روسيا علي مدي العقد هجمات إرهابية خطيرة‏,‏ وكان العنف إما واقعا داخل منطقة شمال القوقاز‏,‏ أو نابعا منها‏.‏ ونذكر من تلك الهجمات‏,‏ علي سبيل المثال لا الحصر‏,‏ حادثة احتجاز رهائن في أحد المسارح المزدحمة في موسكو‏(‏ عام‏2002)‏ الذي أسفر عن مقتل مئات الرهائن والخاطفين الشيشان‏,‏ واحتجاز تلاميذ في مدرسة في أوسيتيا الشمالية‏(2004)‏ الذي أسفر عن مقتل‏ 150 شخصا أغلبهم من الأطفال‏,‏ وإسقاط طائرتي ركاب‏(2004),‏ واختتمت تلك الهجمات بتفجيري مترو أنفاق موسكو في مارس من العام الجاري‏,‏ الذي راح ضحيته نحو‏39 شخصا‏.‏ مما يؤكد أن الدب الروسي علي موعد مع سنوات ملتهبة في العشرية المقبلة لا تقل سخونة عن العشرية الأولي‏.‏