تتصاعد المخاوف الحقيقية خلال الفترة الأخيرة من اندلاع أزمة عالمية جديدة اقتصادية ومالية ونقدية في ظل الشكوك المتزايدة حول التعافي الاقتصادي الهش في امريكا والدول الاوروبية.
ونوعية الأزمات التي توالت بشكل مكثف في دول الاتحاد الاوروبية ومجموعة اليورو والتي دفعت إلي سطح الأحداث بأحاديث متصلة عن مستقبل اليورو وقدرته علي الصمود والبقاء كعملة أوروبية موحدة واحتمالات خروج دول من مظلة اليورو ومعاملاته لا تقتصر فقط علي اليونان صاحبة الأزمة المتفجرة بل يضاف إليها إسبانيا والبرتغال ويصل التحليل في بعض الاحيان إلي ايطاليا وقد تصاعدت كوابيس الازمة العالمية الجديدة مع سياسات التقشف في الانفاق العام وتبخر أحاديث خطط التحفيز الاستثنائية والعودة لخطط فرض ضرائب جديدة علي الشركات واصحاب الدخول العليا مع تقليص مزايا شبكة الأمان الاجتماعي الاوروبية المستقرة علي امتداد العقود الطويلة الماضية وفي ظل تلاحق أطياف الخوف علي امتداد صورة الاقتصاد العالمي اندفع بعض الخبراء العالميين البارزين وفي مقدمتهم بول كروجمان الاقتصادي الأمريكي الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد في العام الماضي للحديث عن الكساد العالمي الثالث الذي يدق الابواب ويطرقها علي امتداد الكرة الأرضية.
ويقدم نموذج اليونان وترك ازماتها تتصاعد إلي حدود الاعلان عن إفلاس الدولة دليلا علي سطوة الفكر الأصولي المتطرف سياسيا واقتصاديا واجتماعيا علي الحياة العامة في المجتمعات والعالم الغربي بجناحيه الأوروبي والأمريكي علي جانبي المحيط الاطلنطي, كما يقدم دليلا علي سطوة نظريات الفوضي الخلاقة في ادارة شئون العالم المتقدم والنامي علي السواء واستغلالها بصورة شديدة البشاعة للتأثير في الرأي العام والنخب الحاكمة والفاعلة علي امتداد دول العالم لاقناعها بأسباب غير حقيقية لازمات الدول والعالم وكأن الواقع الدولي يؤكد إعلان حرب عالمية جديدة تستهدف تبرئة ساحة الأصولية الرأسمالية من الادانة القاطعة التي لحقت بها باعتبارها المسئول الأول والأخير عن الأزمة المالية العالمية الكارثية في خريف2008 بالإضافة إلي المسئولية الكاملة عن فساد المعاملات والأعمال وفي التشريعات المالية نتيجة لاصرارها علي تأليه اضام السوق وتأليه قوة السوق الخفية والاعاء الكاذب بقدرته اللا متناهية علي التصحيح والتصويب في مواجهة أعتي الازمات وأشدها واعنفها وهو ما أضفي دائما الحرص الشديد علي تحييد سلطات الدولة ومنع رقابتها اللصيقة الواجبة واللازمة خاصة للأعمال والمعاملات المالية بجميع صورها واشكالها وقد اتاح غياب الدولة وتغييب أجهزتها وشل قدرتها علي الرقابة والتدخل درجة غير مسبوقة من الفساد والتلاعب والنصب والاحتيال في الاقتصاد والأمريكي والاوروبي نتج عنها خسارة عشرات التريليونات من الدولارات وتعرض الاقتصاد العالمي للوقوع فريسة للكساد العظيم لولا تدخل الحكومات ببرامج تحفيز استثنائية يتحمل تكاليفها المواطن البسيط في الآجال القصيرة والمتوسطة والطويلة لتصويب وتصحيح اختلالات قوي السوق الفادحة والمروعة.
قوي العالم الخفية وقدرتها علي السطوة والتشويه
وتفسر تداعيات الأزمة اليونانية ودفعها بالعهد إلي التصاعد حتي تحترق اصابع اليونانيين واصابع الرأي العام العالمي, القدرة اللا محدودة للقوي الخفية التي تتحكم في مسار العالم وفي تفضيلاته وقدرتها الفائقة علي زرع الأفكار الخاطئة والتحليلات الملتوية والتبريرات الفاسدة علي امتداد دول العالم وأن هذه القوي الخفية المسيطرة لا تلقي بالا للتكاليف الضخمة والباهظة التي يتحملها الاقتصاد العالمي حتي تتحقق مخططاتها بنجاح وفاعلية وتضمن استمرار سطوة وسيطرة أيديولوجيتها الاصولية المتطرفة علي كل العالم والمسماة بالاصولية المسيحية الصهيونية بكل عدوانيتها, وعنصريتها وخرافاتها وأساطيرها عن حكم العالم والخلاص واحتكار مقاليده وتصريف شئونه وتفسر مسرحية اليونان الهزلية وتركها لعدة اشهر تواجه أزمتها ومصيرها بدون حلول وبدون مساندة حتي داخل البيت الاوروبي الواحد نموذجا فريدا لتطبيق نظريات الفوضي الخلاقة وترك المشكلات معلقة في انتظار قرارات لا تصدر وأفعال مطلوبة تبدو وكأنها مستحيلة التحقق وهو نموذج أيضا لتفهم آليات السياسة الدولية والسياسة الخارجية للدول والتجمعات الأقليمية وحدود ارتباط القدرة علي اتخاذ القرار بالقوة الدولية أو الإقليمية المؤثره والفاعلة التي توصف دائما بالقاطرة بحكم ما تملكه من وزن اقتصادي ووزن سياسي يرجح دائما كفتها ويعطيها دائما ما يشبه حق الفيتو في تحريك الاحداث أو فرض وضع محلك سر مهما تكن حدة التأزم والاشتعال ومهما تكن تكاليف التأخير في اتخاذ القرار باهظة ومروعة للوضع العام علي مستوي مجموع الدول أو الوضع الخاص للدولة المشتعلة بالأزمة.
وعلي امتداد اشهر ومنذ أن تم الاعلان عن غرق اليونان في مستنقع الأزمة تلكأت المانيا التي هي في الأول والآخر بحسابات الاقتصاد والمال قاطرة الاتحاد الإوروبي ورمانة الميزان في مجموعة اليورو في اتخاذ الاجراءات اللازمة لتكتيل وحشد مجموعة اليورو والاتحاد الاروربي لمساندة اليونان وانقاذها من الغرق ومع تواصل الاجتماعات واللقاءات علي مستوي القمة بين القادة والرؤساء بغير نتائج حاسمة غرقت القارة الأوروبية فيحرب إعلامية غريبة وشاذة قياسا إلي المخاطر المحتملة والممكنة علي مجمل الاوضاع في القارة وطالب الاعلام الألماني من اليونانيين أن يبيعوا عددا من الجزر اليونانية لاستخدام عائد البيع في سداد الديون العامة المستحقة وتحدثوا عن الفساد في اليونان وردت الصحف اليونانية بأن اليونانيين لا يملكون جينات فساد كما أن الالمان لا يملكون جميعا جينات نازية تربطهم بهتلر وبشاعة تدميره وقتله للأوروبيين وغيرهم وتحدث الالمان عن عدم قدرة سلطتهم التشريعية وحكومتهم وإضرابهم علي تحميل المواطنين فاتورة عجز اليونانيين عن اصلاح اوضاعهم وفي ظل هذا الصخب الاعلامي ضاع الكثير من الحقائق وتشوه الكثير من معالم المشكلات التي لا تتحمل اليونان مسئوليتها بالكامل بل يتحمل الجانب الاكبر منها مفوضية الاتحاد الاوروبي والبنك المركزي الاوروبي بالأهمال العمد مع سبق الاصرار والترصد في مراجعة الحسابات القومية للدول وتدقيقها للتثبت من دقتها وصدقها.
تزوير الحسابات القومية للدول
وتزييف المؤشرات الاقتصادية
وبحكم حرص حكومات الدول علي تجنب ادانة بعضها البعض وعدم الاقتراب بشكل مباشر أو غير مباشر من تعليق المشانق في الميادين العامة للمسئولين السياسيين إلا في حالات واوضاع مختارة بدقة شديدة البناية فائقة فإن القادة الاوروبيين تجنبوا الخوض ـ تصريحا أو تلميحا ـ في أصول الفساد اليوناني المرتبطة بالتزوير العمد للحسابات القومية بكل مفرداتها وتفصيلاتها للوصول في النهاية إلي مؤشرات مالية واقتصادية حالية وإجمالية تجعل من اليونان مؤهلة للدخول عضوا في منطقة اليورو والتعامل بالعملة الاوروبية الموحدة وما تفرضه من ضرورة ألا يتعدي العجز في الميزانية العامة3% من الناتج المحلي الاجمالي وألا يتعدي الدين العام60% من الناتج المحلي الاجمالي وثبت مع اشتعال الأزمة اليونانية ان المؤشرات كانت ملفقة ومزيفة وأن التزييف والتزوير استمر حتي بعد الانضمام لليورو وأن الاحزاب التي توالت علي الحكم علي امتداد السنوات الماضية مارست هذه المخالفات الصارخة بشكل دائم ومستمر وهو ما يعني اطمئنانها الشديد إلي غياب الرقابة من سلطات الاتحاد الاوروبي وسلطات منطقة اليورو وأن هناك ما يشبه التوافق بين هذه السلطات علي عدم التدخل في شئون الدول مادامت حكوماتها تحظي بالرضا والقبول السياسي من الدول الرئيسية والقائده.
وقد اشتعلت الأزمة اليونانية مع تصويت اليونانيين للحزب الاشتراكي وفوزه بالأغلبية وتشكيله للحكومة وتحول الاحزاب اليمينية إلي صفوف ومقاعد المعارضة في عام2009 وكان وزير المالية في الحكومة الخاسرة اليمينية احد النجوم الساطعة المالية اوروبيا وعالميا باعتباره المنقذ وباعتباره النموذج الأفضل للاصلاح بحكم أفكاره اليمينية المتطرفة وبحكم تطبيقه الحرفي لروشتة الاصلاح لليمين المحافظ الأمريكي العالمي ودوره الكبير في القيام بعملية خصخصة واسعة النطاق ومنح رجال الاعمال واسواق المال حريات واسعة بعيدا عن الرقابة والتدقيق وقد اثبتت الأزمة اليونانية أن هذا الوزير الملهم كان يقوم بعملية تزوير واسعة النطاق للحسابات القومية وأن المؤشرات الاجمالية للاقتصاد والمال في اليونان كانت ملفقة وكانت مؤشرات العجز المعلنة وقت توليه المسئولية تبلغ6% من الناتج المحلي الاجمالي ووصلت في أعلي تقديراتها إلي8% وعندما انفجرت الأزمة اكتشف الجميع ان عجز الموازنة الحقيقي يبلغ13,6% وأن المديونية العامة تبلغ115% من الناتج المحلي الاجمالي وانفتح الصندوق السحري للفساد الحكومي والعام ليكشف عن عشرات المليارات من الدولارات المنهوبة والمسروقة وعن اوضاع تهرب ضريبي لا حدود لها يستفيد منها الكبار والأثرياء.
التهرب الضريبي الكبير للشركات
والاغنياء والرشوة العلنية
وقد كشف التقرير الأخير الصادر عن منظمة الشفافية الدولية عن اتساع ظاهرة الفساد بكل صوره وأشكاله في اليونان التي جاءت في مقدمة الدول فسادا واحتلت المرتبة71 من بين180 دولة علي مستوي العالم رصدها التقرير الذي اكد أن الجزء الأكبر من أزمة اليونان المالية يرجع للفساد وما ترتب عليه من غضب شديد لدي الشعب والمواطنين حيث اصبح الحصول علي الخدمات العامة بكل صورها واشكالها ومنها الخدمات الصحية مرتبط بالرشوة حتي يمكن تلقي العلاج اللازم كما اشارت دراسة صادرة عن اتحاد الصناعات اليونانية العام الماضي إلي أن خسائر التهرب الضريبي المتفشي في الشركات الخاصة تبلغ30 مليار دولار سنويا كان من الممكن ان تقلل بشكل كبير من عجز الموازنة والدين العام كما تشير دراسات اقتصادية وتحليلات إلي تفشي الرشوة في المؤسسات العامة وان اثنين من كل خمسة من رؤساء المؤسسات يحصلان علي رشوة عن توقيع التعاقدات ورصدت صحيفة نيويورك تايمز تفشي الرشوة بين المسئولين الحكوميين لدرجة أن الرشوة اصبح لها تسعيرة محددة متعارف عليها بين المسئولين والمتعاملين.
ومع ظروف الأزمة المالية العالمية وانفلات الأوضاع المالية لدول المجموعة الاوروبية الكبيرة والصغيرة فإن تعليق جرس الانهيار اليوناني في رقبة العجز المالي للموازنة والمديونية العامة أصبح يشكل خطورة سياسية علي الاوضاع العامة في دول الاتحاد الاوروبي كاملة بحكم أن العجز الكبير والمديونية العامة المرتفعة اصبحت حقيقة واقعة فرضت نفسها علي الفاتورة الضخمة والمتزايدة لخطط التحفيز الاقتصادي الاستثنائية مما جعل الاصلاح المالي العاجل والسريع مطلبا عاما وشاملا داخل الاتحاد الاوروبي ومجموعة اليورو ليس فقط بمفهوم اصلاح المؤسسات المالية واسواق المال وتشديد الرقابة علي أعمالها ومعاملاتها ولكن بمفهوم اصلاح اوضاع الدول من خلال مفهوم جديد للرقابة المالية يعطي المفوضية الاوروبية سلطة مراجعة الميزانيات ومراجعة الحسابات القومية للدول قبل ان يتم اقرارها من السلطات التشريعية المختصة وهو ما يعني ان الأزمة المالية لم تفرض فقط الرقابة الجادة والمتابعة الدقيقة لاعمال الشركات والمؤسسات الخاصة ومعاملاتها بعد ان كشفت الأزمة العالمية وانهيار بنك ليمان برازرز الأمريكي العملاق عن حجم التلاعب الكبير والتزوير والتلفيق الواسع النطاق في معاملاته واعماله بل وصلت إلي حدود الانتقاص من المفهوم التقليدي لسيادة الدول الكاملة علي موازناتها العامة وحساباتها القومية وأن هناك سلطة عليا اصبحت تملك حق الفيتو اعلي من سلطة الدولة المتعارف عليها.
***
وما حدث في اليونان من تزوير وتلفيق للحسابات القومية لتجميل الصورة العامة للاقتصاد ومالية الدولة لا يعبر عن اكتشاف عالمي جديد ولا يعكس اوضاعا شاذة كانت غائبه عن الاذهان بقدر ما يعكس ضغوط الازمات الحادة والخانقة وقدرتها علي كشف المستور واخراجه إلي العلن وخلال ازمة النمور الاقتصادية الاسيوية في عام1997 وانهيارها المدوي تحدثت تقارير المنظمات الدولية والاعلام العالمي عن التزوير الفاضح والواسع النطاق للحسابات القومية لهذه الدول وعن تزوير عجز الموازنة والمديونية العامة وكذلك عن النصب والاحتيال في تقدير الصادرات والواردات وجميع حسابات وتقديرات ميزان التفامل الخارجي للدولة وميزان المدفوعات.
كما فضحت الانهيارات الاسيوية وقبلها تفجر ازمة مديونيات امريكا اللاتينية في الثمانينيات وغيرها كثير عن تغطية المنظمات الدولية لعمليات النصب والاحتيال في الدول وابلغ دليل علي ذلك اصدار البنك الدولي للكتاب عن المعجزة الاقتصادية الاسيوية قبل ان تنكسر عظامها بشهور قليلة كما اكدت الاحداث علي مشاركة البنوك العالمية في التغطية علي هذه الأعمال الاحتيالية حتي تستمر اعمالها ومعاملاتها التي هي خارجة تماما عن القواعد المصرفية والائتمانية السليمة ومع ذلك تركت الأمور وكأنها لم تكن.