لم يعد الحمار القبرصي رمزاً من رموز الجزيرة التي نسي العالم قصتها. ولَم يكن في تاريخه مصدراً من مصادر خجل القبارصة لكثرة انتشاره وتجاوز أعداده في ثنايا التاريخ أعداد السكان الأصليين أو المتجنسين. كانوا وما زالوا يفتخرون به ويتحسرون على غيابه التدريجي مقابل تقدم الزمن والعمران. يتحدثون بحقد عن الاستعمار البريطاني لكنهم يذكرونه «بالخير» وتنفرج أساريرهم عندما يتذكرون أن 25 ألف حمار كانت في حظائر القوات الانكليزية وحدها قبل نحو 70 عاماً في مقابل بضع مئات اليوم في عموم قبرص.

يتباهون هنا بقوة حميرهم وارتفاع معدلات ذكائها مقارنة بأقرانها في اليونان أو تركيا. يقول ماريوس القبرصي العتيق ومدير موظفي الاستقبال في فندق «غراند ريزورت» في ليماسول، إن الحمار القبرصي كان جزءاً من الثروة القومية لأن طبقة المزارعين قبل عقود شكلت الغالبية العظمى من السكان وكانت تعتمد عليه في الفلاحة والحرث والتنقل والنقل، «بل والحراسة أحياناً لأن حمارنا أنبه من غيره ويمتلك حدساً يطلق نهيقاً خاصاً إن اقترب غرباء من الحقل أو الحظيرة».

إضافة الى ذلك، يكشف ماريوس ان الإنكليز «كانوا يأتون بأحصنتهم للتزاوج من حميرنا لاستيلاد البغال، فالبغل القبرصي هو الأقوى والأذكى والأقدر على التحمل في كل بقاع الدنيا، وما من قوة عسكرية غازية أو حليفة دخلت قبرص تاريخياً إلا وكانت الاستعانة ببغالنا في أولويات خططها واستراتيجياتها، وإذا تسنى لك متابعة الرسوم التاريخية فسترى البغل في كل المواجهات داعماً وحاملاً على ظهره أسلحة ومؤناً».

وما الفارق يا ماريوس بين الحمار القبرصي والبغل القبرصي؟ يرد: «طبعاً الفارق موجود ولكل حيوان خصائص ومميزات، فالحمار هو الأساس ولولاه لما رأينا بغلاً، ومثله في التحمل لكن صبر الحمار أكبر وعناد البغل أقوى. كما أن الحمار لا يملك كبرياء البغل، فقد تناقل آباؤنا وأجدادنا قصصاً يبدو أنها موثقة كيف أن البغال تحمل وتتحمل وتسير بين الجبال مرة ومرتين وخمسة يومياً لكنها ترفض الإهانة والضرب والتعنيف إن أخطأت أو تعبت، ولذلك تعمد إلى الصعود بحمولتها حتى قمم الجبال ثم ترمي بنفسها وما تحمله منتحرة مفضلة الرحيل على الضرب والتعنيف».

من كبرياء البغل إلى صبر الحمار إلى السياسة، في دولة منقسمة بين جزء معترف به دولياً وعضو في الاتحاد الأوروبي وجزء أصغر أعلن نفسه دولة لا تعترف بها غير تركيا، تجد كبرياء كبيراً لدى القبارصة اليونانيين عند الحديث عن التقسيم و«الدولة المحتلة» كما يطلقون عليها، وصبراً كبيراً عند الأتراك أملاً في العودة والمشاركة بنسبة توازي تمثيلهم في السلطة. ويلفت المراقب حجم التعصب، لا التدين، الظاهر في التحليل السياسي لكلا الفريقين. وهذا التعصب لعب دوراً تاريخياً في منع اندماج المكونين الاجتماعين لقبرص وتحول تطرفاً مسلحاً بين أرثوذكس تدعمهم اليونان ومسلمين تدعمهم تركيا. تعصب لا تدين، ففي قبرص اليونانية محجبات أكثر من قبرص التركية، وفِي «التركية» عشرة كازينوهات قمار كبيرة لا توجد في اليونانية (حتى الآن)، وفِي «القبرصتين» إسرائيليون وروس وعرب وخليط أممي من السياح... باختصار، موضوع قبرص هو نفسه موضوع الدول الصغيرة المحاطة بجيران كبار، أي وجود خلل داخلي يُبنى عليه بسهولة تدخل خارجي، أو تعميق الجيران لمشاكل داخلية يسهل تفاقمها دخولهم وسيطرتهم وبالتالي استخدام الملف ورقة مع «الكبار».

في العام 2004 جرت محاولة أممية لإعادة توحيد قبرص، وافق المكون التركي ورفض اليوناني. القصة أعقد من استفتاء وتحتاج إلى نخب سياسية بثقافة مدنية لا دينية. وهنا يعود الحمار إلى الواجهة كونه كان النموذج الوحيد الفعلي الذي أوجد إجماعاً بين الأتراك واليونانيين العام 2008، حين قُتل عشرات الحمير برصاص مزارعين في حظيرة في محمية كارباس في الشمال بحجة أنها تتلف الزرع، وثارت ثائرة ناشطي المجتمع المدني من الطرفين ضد ما أسموه «المجزرة» وأنشأوا حركة طالبت بحماية الحمير وتأمين مستقبل آمن لها... لكن الحراك بقي يتيماً ورفض السياسيون أن ينجح الحمار حيث فشلوا.

يحبون الحمار في قبرص، ويتمنون أن يعود زمنه ولو من باب الفلكلور، فهو لا يعترف بالتقسيمات الطائفية ولا بالحدود المصطنعة في نيقوسيا ويجتاز المعابر بلا أوراق ثبوتية، ويتطلعون إلى استعادة نهيقه بدل أصوات بشرية كثيرة ساهمت في التقاتل والمجازر والتقسيم.