بالرغم من أن الناس الذين جربوا النظام العالي بالدهون والمنخفض بالكربوهيدرات "وأنا واحدة منهم!" يعلمون تماما أن الكوليسترول والدهون المشبعة ليست أبدا الخطر الذي يسد الشرايين ويهدد الحياة وصحة القلوب! إلا أن هذه الأفكار ما زالت تسيطر وبشكل كبير على عقول الغالبية العظمى من الناس سواء في القطاع الطبي أو بين الناس بشكل عام. 
ولعل من المفيد أن نعود لقصة البداية لنعلم كيف ولماذا بدأت هذه الأفكار وتم تبنيها من قبل النظام الطبي الأمريكي ثم العالمي... لنرى كيف أن السياسة والمصالح الاقتصادية الأمريكية تتحكم فيما نأكله في زمننا هذا أكثر بكثير من العلم والتجربة والمنطق، ولنعلم كيف وصلنا إلى هذا الحال اليوم! 
  ​فلنبدأ مع الأرانب، وتجربة إطعامها الكوليسترول...    
ولنعد بالزمن إلى روسيا سنة 1910، حيث كان العديد من الباحثين مهتمين بدراسة تأثير الكوليسترول في الدم على تصلب الشرايين، حيث وجدوا ترسبات دهنية من ضمنها مادة الكوليسترول على جدران الشرايين كانت تتسبب في جلطات قلبية عندما تصبح كبيرة بما يكفي لتسد الشريان، وكان يعتقد أن التصلب هو جزء طبيعي من التقدم بالسن وأن معرفة أسبابه وتأخيره كفيل بإيجاد حلول لإبطاء الشيخوخة! ولذلك قاموا بإعطاء الأرانب كميات كبيرة من الكوليسترول ولاحظوا زيادة نسب التصلب والجلطات القلبية في الأرانب، ولم يلاحظوا هذا التأثير عندما أعطوهم زيت خالي من الكوليسترول مثل زيت عباد الشمس. "من المهم أن نعلم أن همهم الوحيد في هذه التجارب كان معرفة ما إذا كان كوليسترول الدم يسبب التصلب بغض النظر أن مصدر الكوليسترول هو الغذاء أو لا".
 ماذا تعتقدون المشكلة في هذه التجربة؟ حاولوا أن تفكروا قبل أن تنظروا إلى الإجابة... المشكلة أننا لسنا أرانب فالأرانب هي حيوانات نباتية... جذابة ولطيفة بالتأكيد! ولكن غذاءها الطبيعي "الجزر مثلا" لا يشتمل على الكوليسترول نهائيا، فهي إذن ليست الحيونات المثالية كي ندرسها وتكون هي النموذج الذي نستقرأ منه نتائج ونحملها إلى الإنسان.
أعتقد أن الإستنتاج الطبيعي هنا أنك عندما لا تأكل الطعام الذي أنت مجهز جينيا له فأنت تستدعي المشاكل بكل تأكيد!!! ولكن هل تتخيل أنهم وضعوا فرضية نتيجة هذه التجارب على الأرانب وأسموها فرضية الدهون أو lipid hypothesis والتي تقول بأن زيادة الكوليسترول في الدم تزيد أمراض القلب " نعم ولكن نسوا أن يقولوا في الأرانب "، أنا متأكدة أنهم لو استخدموا الكلاب أو القردة لاختلفت النتائج نهائيا، وفي الحقيقة كان هناك جدل كبير بين الباحثين بشأن هذه التجارب!
 ننتقل الآن إلى عام 1953 وإلى شخص اسمه Ancel Key:
 الدكتور Ancel Key،الذي ترونه في الصورة أعلاه "ليس الأرنب بالتأكيد"، هو عالم أمريكي نشر دراسة كبيرة عن تأثير زيادة إستهلاك الدهون المشبعة على وفيات القلب في سبع دول وهذا هو الرسم البياني من دراسته:
 
 
الذي ينظر إلى هذا الرسم يجد بكل تأكيد أنه ربما فعلا هناك علاقة بين زيادة استهلاك الدهون المشبعة أفقيا وزيادة الوفيات من أمراض القلب عموديا، فمن الواضح أنه كلما زاد استهلاك الشعوب للدهون كلما زادت وفيات أمراض القلب، فاليابان في أدنى الرسم هي أقلها استهلاكا للدهون المشبعة وأقلها بالوفيات والولايات المتحدة في أعلى الرسم هي أكثرها استهلاكا وأكثرها بنسبة الوفيات بأمراض القلب. على أن هناك مشكلتين كبيرتين في دراسته، الأولى:
Correlation is not causation: "أي أن حدوث أمرين في نفس الوقت لا يعني بالضرورة أن أحدهما سبب للآخر"، ففي الدراسات الوبائية الرصدية يتم ملاحظة وتسجيل الأمور ولكن لا يمكن الجزم بالأسباب. فمثلا في هذه الدراسة، في الدول التي يرتفع فيها استهلاك الدهون المشبعة والوفيات، ربما هناك عوامل أخرى مؤثرة لم تؤخذ بالحسبان مثل التدخين، أسلوب الحياة، النشاط والرياضة، نوعية ومصدر الدهون، تلوث الماء والبيئة وغيرها. هذا النوع من الدراسات يعتمد على الملاحظة، وفي أحسن أحواله، يمكنه وضع فرضية تحتاج إلى دراسات أخرى مصممة بأكثر جودة للتأكد من صحتها.
Cherry picking data: وهي الفعل "غير الأمين" بأن يختار الباحث النتائج التي تؤيد نظريته من الدراسة ويهمل باقي النتائج، وهذه النقطة أهم في رأيي هنا، وهذا هو للأسف ما فعله هذا العالم إن كنت أستطيع أن ألقبه عالم،فقد شملت دراسة Ancel Key في الأصل 22 بلدا حول العالم، ولكنه لم يختر منها إلا هذه 7 دول فقط لتدعم نظريته بأن المزيد من تناول الدهون المشبعة يؤدي إلى المزيد من وفيات أمراض القلب. وأستبعد بقية الدول 16 التي لا تتناسب مع النظرية. فعندما بحثوا لاحقا عن الرسم البياني الأصلي في الدراسة كان هذا التالي:
 
 
انظروا الآن إلى هذا الرسم الذي يحتوي جميع الدول التي شملتها الدراسة: هل بإمكانه أن يرسم خطا جميلا كالذي رسمه مع 7 دول عبر كل هذه النقاط المتناثرة هنا وهناك؟ فمثلا كان هناك في الدراسة دول مثل فرنسا وهولندا تستهلك نسبة عالية من الدهون المشبعة ومع ذلك فنسبة أمراض القلب عندهم منخفضة، ودول أخرى مثل أستراليا وفنلندا تستهلك كميات أقل من الدهون المشبعة ومع ذلك تعاني من نسب مرتفعة من وفيات القلب، وأنا أستطيع أن اختار مجموعة أخرى من الدول وأرسم خطا آخر خلالها يعطيني عكس نتيجته تماما، فأقل ما أستطيع أن أصف فرضيته هذه بالواهية!والحقيقة أن الباحثين الذين أخذوا كل نتائج الدول المشتركة في دراسة "Key" في عين الإعتبار تبين لهم أنه بشكل عام مع زيادة استهلاك الدهون المشبعة تقل وفيات أمراض القلب وهي عكس ما قال به "Key" تماما!
فرضية الغذاء ومرض القلب " Diet-heart hypothesis ":
تابع Key سعيه المحموم اللا-أخلاقي ليخبت أي انتقادات عن فرضيته، فقام بنشر ورقة أخرى فيها الرسم البياني بالأسفل عن العلاقة بين الدهون المشبعة في الغذاء وارتفاع كوليسترول الدم. وقد استخدم هو في رسمه البياني فقط الخط المستقيم من دون النقاط المتناثرة لأنها تخالف استنتاجاته.
 
 
 
بالرغم من أن الدراسات في روسيا لم تبحث في الكوليسترول من الغذاء "تذكروا أنهم كانوا يعطون الأرانب كميات كبيرة من الكوليسترول مباشرة في الدم" إلا أن Key افترض أن الكوليسترول في الغذاء يزيد الكوليسترول في الدم ووضع هذه الفرضية" فرضية الغذاء ومرض القلب" التي تقول بأن:
زيادة الدهون المشبعة في الغذاء تؤدي إلى زيادة الكوليسترول في الدم
وزيادة الكوليسترول في الدم تسبب أمراض القلب
هذه الفرضية لم تتلقى الكثير من الدعم والتأييد في ذلك الوقت حتى من جمعية القلب الأمريكية نفسها التي قالت بأنه لا بد من إجراء دراسات أفضل في النوعية لإثبات أن الزيادة في استهلاك الدهون المشبعة تسبب أمراض القلب وأن استهلاك الزيوت النباتية "الحديثة" هو ما سيحل المشكلة ويقلل من أمراض القلب.
فجأة، وفي سنة 1961 بالتحديد، تبدل رأي جمعية القلب الأمريكية وبدأت تنصح بتقليل الدهون المشبعة من الزبدة، اللحوم الدهنية، صفار البيض، والحليب كامل الدسم. ما الذي حدث بين عامي 1957 وعام 1961 حتى تتغير آراء جمعية القلب الأمريكية بهذا الشكل؟ هل يا ترى كان هناك دراسات جديدة تدعم هذا الرأي؟ في الواقع بدأت دراسة كبيرة جدا حول هذا الموضوع ولكن تم إيقافها بسبب قلة الدعم المادي لها!!! ما حدث هو أن عدة أشخاص تم إبعادهم عن مجلس الجمعية واستبدالهم بأشخاص آخرين منهم Ancel Key نفسه!!! 
 من هنا بدأ عصر جديد...
بدأ الترويج لنوع جديد من الغذاء سموه prudent diet أي الغذاء الحكيم: قليل في الدهون خصوصا المشبعة، مرتفع في الكربوهيدرات والحبوب والزيوت النباتية الصناعية! وبدأت قصة تغويل الدهون المشبعة والكوليسترول إن كان بإمكاني استخدام هذا المصطلح لعدة سنوات بعدها.
لكن مقالا نشر في Time magazine الذائعة الصيت بعد عدة سنوات كان هو القشة التي قصمت ظهر البعير وشكل بعدها الغذاء الحكيم أساس النصائح الغذائية الطبية لعامة الشعب، وكان هذا هو الغلاف: وجها حزينا من البيض واللحم!
 
 
 
 
كان هذا في عام 1984، ادعت المجلة أنه أخيرا تم الفراغ من دراسة تثبت نظرية الغذاء وأمراض القلب، وأن الدهون المشبعة والكوليسترول هما المسؤولين عن أمراض القلب، وأن كلام جمعية القلب صحيح وأن شكل الغذاء الصحي قد تغير إلى غير رجعة! شكل هذا المقال صدمة على مستوى العالم وكان البداية للصورة السيئة عن الكوليسترول والدهون استمرت إلى هذا اليوم!
 ما فشلت المجلة في ذكره هو أنه كان هناك دراسة أخرى في نفس العام بينت أن الكوليسترول المؤكسد هو الضار فقط وهو الذي يسد الشرايين وأن مستويات عالية من الكوليسترول الغير مؤكسد غير ضار أبدا بل ونافع أيضا. مع نتائج دراسة كهذه كانت الحكمة هي تركيز الجهود على أسباب أكسدة الكوليسترول في الجسم بدلا من مهاجمة الكوليسترول نفسه! فكما تبين لاحقا فإن الدهون النباتية الصناعية كزيت الذرة وعباد الشمس والدهون المتحولة كالتي في المارجرين وأغلب المنتجات المصنعة وسكر الفركتوز الذي طالبت الجمعية بزيادتهم في الطعام على حساب الدهون المشبعة كانوا هم السبب في أكسدة الكوليسترول في الجسم ويا لها من مفارقات عجيبة!! 
وللأسف، فقد كنا نحن البشر ولطالما كنا، فئران التجارب في هذه التجربة الكبيرة الفاشلة. الكثير من المصالح الاقتصادية لشركات عظمى كانت السبب في إخفاء الكثير من الدراسات العلمية والآراء المضادة. لو كان عندي نصيحة لكم، فهي أن تتفكروا جيدا في هذه النصائح التي تلقى علينا طوال الوقت وأن تعتمدوا على النصائح المنطقية التي يدعمها العلم الصحيح والتجربة الإنسانية التاريخية الطويلة وكذلك التجربة الذاتية ومنطق الأمور!
على فكرة، هذه النظرة بدأت تتغير منذ عدة سنوات في الغرب بالرغم من محاولات التعتيم لصالح كبرى شركات الغذاء في العالم، وانظروا الصورة في الأسفل إلى غلاف مجلة Time magazine الجديد في سنة 2014 فهو يعكس تبدلا كاملا في الموقف.
لكن لا تتوقعوا أن تسمعوا هذا الكلام قريبا من جمعية القلب الأمريكية أو غيرها من الجهات الدولية فليس من السهل عليهم أن يعترفوا بهذا الكلام بعد كل هذه السنوات من التضليل وهناك صناعة مهددة بالإنقراض تدخل عليهم مئات البلايين من الدولارات سنويا عن طريق شركات الأدوية الأمريكية هي أدوية تخفيض الكوليسترول "statins". ولكن أخشى ما أخشاه هو أن تكب علينا الولايات المتحدة بضائعها وأدويتها التي لم تعد رائجة هناك بسبب الوعي الصحي الآخذ في التزايد عندهم باعتبارنا شعوبا متخلفة لا نقرأ.
آمل حقا بالوعي الصحي أن نتجنب أن نكون مصبا لنفاياتهم الصناعية البائرة في بلدانهم، فليشعل كل منا شمعة في محيطه قبل أن يسود الظلام! وصحتكم بالدنيا