هكذا “معك”تكلمت سوزان طه حسين
قبل عالم الرسائل الإلكترونية والمواقع الإجتماعية كان للرسالة الورقية تأثيراً يعادل الحرارة المرتفعة يتوق لها الأحبة، وتظل بين الأدراج حبيسة تعيد إلى الأذهان كلما قرأها صاحبها فترة حب بريئة مفمعة بالمشاعر .. هكذا كان الحب حتى قبل أن يتم تحديد يوم 14 فبراير ليكون عيداً للحب فى البلاد الناطقة باللغة الإنجليزية، فهو احتفال بالقديس فالنتين الذى ساعد الكثيرين من الأحبة على الزواج فتخليداً لذكراه حُدد يوم رحيله ليكون عيداً للحب ولينتقل الإحتفال إلى غالبية دول العالم. وعن رسائل الحب كتبت بعد أن أنطلق رفيق دربها وكانت هى النور لعينيه والنافذة التى يرى بها العالم سوزان زوجه الأديب طه حسين بعد أن نال منها الكبر وتفرغ كلا من الاولاد لمسئولياته وعمله :”ذراعى لن تمسك بذراعك أبدا، ويداى تبدوان لى بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق فى اليأس، أريد عبر عينى المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شىء، أريد أن أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة”. وذلك بعد أن وقعت عينيها على أحد رسائله وكان قد كتب فيها “بدونك أشعر أنى أعمى حقاً، أما وأنا معك فأننى أتوصل إلى الشعور بكل شىء، وإلى أن امتزج بكل الأشياء التى تحيط بى”، وكتبها طه حسين حين كانت سوزان فى زيارة إلى فرنسا. وبعد رحيل طه حسين، كتبت سوزان كتابا يحمل عنوان “معك” عن سيرة حياتهما سويا، منذ لقاءهما الأول، كان الهدف من الكتابة كما قالت “أكتب لأتقدم نحوك، واستمرّ في كتابة كل ما يعبر قلبي” والكتاب يحكى عن الذكريات التى جمعتهما ليصبح بحق شهادة حية حول الحياة الفكرية والفنية والسياسية في مصر من عشرينيات القرن الماضي حتى مرحلة الستينيات، هذا إلى جانب ارتباطهما رغم العديد من المعوقات إلا أنه كان بالنسبة لها الصديق الوحيد حسب ما ذكرته برسائلها التى كانت تظل تكتبها له حتى بعد رحيله. تعرفت سوزان على طه حسين في مدينة مونيليه الفرنسية عام 1915 وكانت تزوره لتقرأ له بعضا من الأدب الفرنسى وقال عنها حسين “صديقتي كانت معلّمتي. بفضلها تعلّمتُ اللغة الفرنسية وتعمّقت بالأدب الفرنسي. وبفضلها أيضا تعلّمتُ اللاتينية وحصّلتُ إجازتي في الآداب، وبفضلها أخيرًا تعلّمتُ اليونانية وتمكّنتُ من قراءة أفلاطون بلغته”، تقول سوزان فى مذكراتها «ومنذ زواجنا كنا نحتفظ لهذا اليوم بوضع خاص» لم يكن ثمة شىء فى ذلك اليوم ينبئنى بأن مصيرى كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمى التى كانت بصحبتى أن تتصور أمرا مماثلا، وكنت على شىء من الحيرة، إذ لم يسبق لى فى حياتى أن كلمت «أعمى»!! “لقد عدت إليه أزوره بين الحين والحين فى غرفته التى كانت غرفة طالب جامعى، كنا نتحدث وأقرأ له بعض الفصول من كتاب فرنسى، ولعل القدر كان قد أصدر قراره بالفعل، فقد كان هناك ضرير آخر هو الأستاذ الإيطالى الذى كان يدرسه اللغة اللاتينية، قد أدرك ذلك وقال له:سيدى هذه الفتاة ستكون زوجتك”!! وقرر طه حسين ان يعترف بحبه لها وانه شغف بحضورها وصوتها وذات يوم قال لها: اغفرى لى، لابد من أن أقول ذلك فأنا أحبك!! وصرخت هى وأذهلتها المفاجأة بفظاظة: “ولكنى لا أحبك!! فقال بحزن: “آه إننى أعرف ذلك جيدا وأعرف جيدا أنه مستحيل”!! حتى مضى بعضاً من الوقت لأقول لأهلى إننى أريد الزواج من هذا الشاب!! وكان ما كنت أنتظره من رد الفعل: كيف؟! وأعمى؟! وفوق ذلك كله مسلم؟! لا شك أنك جننت تماما!! وتعترف «سوزان» قائلة: ربما كان الأمر جنونا، لكنى كنت قد اخترت حياة رائعة، كان هناك هذا الشىء الرائع: الفخر واليقين من أنه ليس ثمة ما يدعو للخجل. ترددت سوزان وارتبكت كثيرا لاعتراف حسين بحبها، وهي الفرنسية الجميلة، كيف لها أن تقترن بفلاح مصري ضرير؟ ورد عليها عم سوزان “لا تخافى، بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يحلق بالحوار ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إنه سيتجاوزك باستمرار”، وبهذه النصيحة تزوجا يوم 9 أغسطس من عام 1917، وفى أكتوبر 1919 حملهما البحر إلى “مصر” حيث مستقرهما الأبدى. ذكرت سوزان في كتابها عن العوامل المشتركة بينها وبين “حسين” ورحلاتها التي قامت بها مع زوجها وحبهما الكبير للموسيقى الكلاسيكية وطبيعة علاقاتهما بشخصيات مهمة كثيرة، كأبرز أدباء وفناني ومفكري عصرهما في مصر والعالم العربي، وعمالقة بحجم لوي ماسينيون وهنري ميشو وأندريه جيد وجان كوكتو وأندريه لوت وليوبولد سنغور وطاغور، وتقول سوزان عن مصر: لقد غدت مصر بالنسبة لى ولأكثر من سبب وطنا ثانيا، أحبها كما أحب طه، ولست أحتمل أن يراد بها شرا أو أن يتجاهلها العالم. وقالت سوزان عن علاقتها الخاصة بطه حسين انه كان مهتما باناقته امام الضيوف وكان هذا الأمر يروق لها جدا، كما كتب العميد عن «سوزان» فى نهاية الجزء الثانى من رائعته الخالدة «الأيام» يصفها بأنها «الملك» الذى بدله من البؤس نعيما ومن اليأس أملا، ومن الفقر غنى، ومن الشقاء سعادة وصفوا. رحل طه حسين في 28 أكتوبر عام 1973، ولم تغادر سوزان مصر بعد رحيله، بل ظلت فى بيتهما تستعيد ذكرياتهما سوياً، ونشرت بعد وفاته بعامين كتابها “معك” والذى كتبته بالفرنسية عام 1975 وترجمه السورى “بدر الدين عرودكى” إلى العربية وراجعه “محمود أمين العالم” ونشر فى دار المعارف، ورحلت بعد ذلك عن الحياة فى 1989 عن عمر يناهز 94 عامًا.
وقالت سوزان أن اللحظات الأخيرة فى حياة طه حسين كانت الأصعب وبالأخص أنها كانت وحدها، فالابن فى “باريس” والابنة فى “نيويورك”، كان الأمر صعبا أكثر مما يحتمل إنسان، وهى تحدثه سراً وتقول له: “كنا معاً، وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف، ولم أكن أبكى ـ فقد جاءت الدموع بعد ذلك ـ ولم يكن أحد يعرف بعد الذى حدث، أخذت أحدثه وأقبل تلك الجبهة التى كثيراً ما أحببتها”