فى هذا الجزء نلقى بعض الضوء على الاقتصاد المصرى فى نهايات القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرون
 

عندما انفرد محمد علي بالسلطة ، وفرض نفسه كمالكٍ فعلي وحيد للبلاد ، وكسيد لمصائرها الحيوية ، وبعد مضي ثلاثة أعوام فقط من حكمه ، اى فى عام 1808 ، أصبح مالكاً لجميع أراضي القطر المصري ، كما احتكرت الدولة في عصره تجارة المحاصيل الزراعية والسلع الصناعية

وليس بمستغربٍ أن تكون رؤية محمد علي لمصر على أنها من أملاكه ، حتى أنه أصدر مرسوماً لأحد حكام الأقاليم جاء فيه ( البلاد الحاصل فيها تأخير في دفع ما عليها من البقايا أو الأموال يضبط مشايخها ويرسلون للومان (السجن) والتنبيه على النظار بذلك ، وليكن معلوماً لكم ولهم أن مالي لا يضيع منه شيء بل آخذه من عيونهم ) .

وليس بمستغربٍ أن تكون رؤية محمد علي لمصر على أنها من أملاكه ، حتى أنه أصدر مرسوماً لأحد حكام الأقاليم جاء فيه ( البلاد الحاصل فيها تأخير في دفع ما عليها من البقايا أو الأموال يضبط مشايخها ويرسلون للومان (السجن) والتنبيه على النظار بذلك ، وليكن معلوماً لكم ولهم أن مالي لا يضيع منه شيء بل آخذه من عيونهم ) .

( مالي) ، هي مفتاح فهم شخصية وسياسات محمد علي ، ولفرط ضخامة ثروة محمد علي وقع خلافٌ بين أفراد أسرته بعد وفاته بشأن تقسيم الميراث ، مع أنه منح أفراد أسرته وقواده والمقربين منه مساحاتٍ شاسعة من الأراضي ، صحيحٌ أنه تزوج في شبابه من أمينة هانم وهي مطلقة ذات ثروة واسعة ، وتفرغ لتجارة الدخان فربح منها ، قبل أن يعود إلى الحياة العسكرية عندما أغار نابليون على مصر ، غير أن الثروة الطائلة التي تركها بعد حكم مصر كانت في غالبيتها ثمرة سياسة الاحتكار وفرض الضرائب وإرهاق المصريين بالسخرة .

لقد قام اقتصاد مصر أيام محمد علي أساسا على احتكار الزراعة ، وتحجير الصناعة ، وتوجيههما نحو تلبية احتياجات الجيش الذي تجاوز عدد أفراده ربع المليون ، لتحقيق مغامرات خارجية مكلفة للغاية ، ففي الزراعة ، ألغى محمد علي عام 1808 نظام الالتزام حيث كان بعض الوجهاء وشيوخ القبائل يلتزمون بدفع الخراج والجزية للمماليك ، مقابل قيامهم بتقسيم الأرض على جماعاتهم وأبناء قبائلهم لزراعتها ، وصادر محمد علي الأراضي الزراعية ، ثم أقتطعها لأفراد أسرته وخاصته وكبار موظفيه من أكراد وشركس وأقباط وشوام ، فوضع بذلك أساس الإقطاع الزراعي الذي ساد مصر بعد ذلك .

وفي عام 1812 ، بدأ الاحتكار الحكومي لتجارة المحاصيل الزراعية ومصادرة اية كميات منها تباع خارج الأقنية الحكومية ، وصارت الدولة تشتريها من المزارعين بأسعار احتكارية ، ثم تبيعهم حاجتهم منها بأسعار أعلى  .

وقد أدى ذلك كله إلى سلسلة من الأزمات في المواد الغذائية ، وعجز عن تلبية الاستهلاك المحلي ، واستياء عام لدى الفلاحين ، الذين كانوا سجناء قراهم لا يغادرونها أو يسافرون إلا بإذن كتابي من الحكومة .

وكان الفلاحون يهربون من السخرة في مشروعات محمد علي أو من الضرائب المجحفة ، وعلى سبيل الاحتجاج أحرق فلاحو الصعيد محاصيلهم عام 1830 كي لا تقع في أيدي رجال محمد علي .

وفي الصناعة ، عندما احتاج محمد علي الموارد لتمويل الجيش ، امتد احتكاره ليشمل الصناعات الوطنية القديمة ، وخاصة منها صناعة الشموع من الشحوم ، وصناعة الخشب والقصب ، وتقطير ماء الورد ، وصناعة السكر ، ومعاصر الزيوت ، وحياكة الأنسجة بالأنوال ، وكان يطلق على الاحتكار الحكومي للصناعات لفظ ( تحجِير ) ، ويشمل التحجير عدة عناصر رئيسة أبرزها :‏ اختيار سلعة شائعة الاستعمال ، واحتكار البيع بسعر يحدده المندوبون الحكوميون ، وجمع منتجي تلك السلعة والمتجرين بها في كل مدينة على صعيد واحد ، حتى يمكن إحكام المراقبة واجتناب الهرب ، وإرغام مشايخ القرى والبلدان على شراء حصة من الإنتاج بالثمن المحدد  .

وقد لاقى تحجير الصناعة ، كما هي الحال في احتكار الزراعة ، استياءً عاماً من المواطنين ، إلى درجة أن عمال مصانع النسيج في الصعيد مثلاً قاموا في عام 1824 بأشعال النار في‏ المصنع ، وكان الفلاحون يعملون عنوة وبالسخرة في مصانع  ( الباشا ) ، فكانوا يفرون حتى إذا القت الشرطة القبض عليهم أعادتهم إلى المصانع ثانية ، وكان الفلاحون يحتجزون في سجون داخل المصانع حتي لا يفروا ، وكانت اجورهم متدنية للغاية وتُخصَمُ منها الضرائب ، وفي مجال الضرائب ، كانت الضريبة الشخصية أو ( فرضة الرؤوس ) أهم الضرائب ، وكان ما يحصل منها عادة يشكل سدس إيراد الخزينة المصرية ، فقد كان الذكور المراهقون كافة ملزمين بدفع هذه الفرضة متى بلغوا الثانية عشرة من عمرهم ، وهي تختلف تبعاً لتفاوت الناس في الثروة ، وتعادل أجور عمل نصف شهر على الأقل ، وكانت الضريبة الشخصية تحصل في المدن عن النفوس ، وفي القرى عن المنازل ، وكانت تتزايد بمعدل يكاد يكون دورياً لتغطية نفقات الحروب وإرضاء السلطان العثماني ، وبحيث أنها ازدادت خلال 24 عاماً فقط (1820-1844) نحو 300%  .

وقد شكل ذلك عبئاً كبيراً على الفلاحين خاصة ، لأنهم كانوا مسؤولين عن الضرائب بصورة جماعية ، وبحيث أن القرية كلها كانت مسؤولة عن الضرائب المتأخرة ، ومتضامنة مع غيرها من القرى المجاورة في   المتأخرات من الأموال ، بل إن هذا التضامن كان يمتد أحياناً ليشمل وادي النيل كله ، ولعل ما زاد الطين بله ، تطبيق نظام السخرة ، فقد كان الفلاحون يُستخدَمون إجباريا ً، لحفر الترع وتطهيرها ، وتقوية الجسور ، وحراسة شواطئ النيل أثناء الفيضان ، وكان يحق للدولة نقل عمال السخرة إلى أي مكان في مصر ، وكانت السخرة تتم خلال تسعة شهور في السنة ، وبلغ متوسط ماكان يساهم به كل فلاح من العمل بالسخرة شهرين من السنة .

وفي كتاب ( ثروة الأمم وفقرها )  للمؤرخ وعالم الاقتصاد ديفيد لاندس نقرأ أن محمد علي قد واجه مشكلة الطاقة البشرية والعمال المؤهلين ،  استخدم في البداية العمال العبيد من دارفور وكردفان ، وكان هؤلاء يموتون بالجملة بسبب الظروف السيئة ، ثم لجأ محمد علي إلى عمال السخرة ينتزعهم من بين أسرهم ، وهو ما كان يدفع بعض هؤلاء العمال إلى تشويه نفسه لتجنب الخدمة ، أو إلى تخريب الآلة التي يعمل عليها .

 

 

الخديوى اسماعيل

 

الاقتصاد المصرى فى عصر الخديوى اسماعيل

يعد الخديو إسماعيل الحاكم الأخير في أسرة محمد علي باشا الذي يضع اسمه في قائمة أغنياء مصر خلال القرن التاسع عشر ، فقد بدأ الخديو إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا ، حياته كأحد كبار الأغنياء في مصر ، حتى أنه اشترى أملاك أخيه الأمير مصطفى بمبلغ مليوني جنيه ، في وقتٍ كان فيه سعر الفدان لا يتجاوز 20 جنيهاً ، غير أن مايحسب للخديو إسماعيل أنه كان من فاعلي الخير البارزين في عصره ، ولعل من أشهر الأوقاف التي خصصت للمساجد وقف الخديو إسماعيل الذي بلغت مساحته 10 آلاف فدان ، ونصت وقفيته على أن يصرف ريع ذلك في بناء وعمارة ومرمّات ومصالح مهمات ، وإقامة الشعائر الإسلامية بالمساجد والمكاتب الكائنة بمصر المحروسة التي لا ريع لها ، أو لها ريع لا يفي بالعمارات وإقامة الشعائر واللوازم لذلك من المساجد والمكاتب المرموقين ، وتعد وقفيات الخديو إسماعيل هي أكبر الوقفيات التي أنشئت في تاريخ مصر الحديث ، فقد كانت ثروة إسماعيل ضخمة للغاية ، لكن أحلامه وتطلعاته كانت أكبر من ذلك بكثير .

ويتحدث المؤرخ إلياس الأيوبي فى كتابه ( تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا ) الصادر فى سنة 1922 ،  كيف راودت إسماعيل أحلامٌ بأن تكون مصر ( قطعة من أوروبا ) ، وسعى إلى بناء إمبراطورية مصرية في إفريقيا ، وفي سبيل تحقيق ذلك ، قرر الرجل الذي حكم مصر بدءاً من 18 يناير كانون ثان عام 1863 ألا يصطدم بالدولة العثمانية ، وأدرك أن المال أمضى من السيف في قضاء المصالح في الآستانة ، وهكذا نجح في عام 1867 في الحصول من السلطان العثماني على لقب ( خديو ) ، مقابل زيادة في الجزية ، إضافة إلى فرمان آخر يقضي بتغيير نظام وراثة ولاية مصر من أكبر أبناء أسرة محمد علي إلى أكبر أبناء إسماعيل ، ثم استصدر فرماناً آخر من السلطان يعترف بأن السودان وما يفتحه الخديو فيه من أملاك الخديوية المصرية .

كما حصل عام 1873 على فرمان يتيح له استقلالاً أكثر عن الحكم العثماني ، وعُرِفَ بالفرمان الشامل وقضى بمنحه حق التصرف بحرية تامة في شؤون الدولة ما عدا عقد المعاهدات السياسية وعدم حق التمثيل الدبلوماسي وعدم صناعة المدرعات الحربية مع الالتزام بدفع الجزية السنوية التي بلغت قيمتها 750 ألف جنيه .  

غير أن خزانة مصر تكلّفت الكثير من الأموال بسبب مشروعات إسماعيل التنموية - مثل حفر قناة السويس وإنشاء دار الأوبرا والسكك الحديد وخطوط البريد وحديقة حيوان الجيزة وإقامة الكباري وشق الترع - وبذخه الزائد ، ومن ذلك فاتورة الاحتفالات الأسطورية بافتتاح قناة السويس ، وأدى ذلك إلى تراكم الديون على مصر ، خاصة بعد انخفاض أسعار القطن انخفاضاً كبيراً بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية .

حاول إسماعيل أن يسد العجز في الميزانية عن طريق الضرائب المختلفة ، إلا أنه لم يفلح في ذلك ، فلجأ إلى الاستدانة من الخارج ، وتدافعت البنوك والمؤسسات المالية على إقراضه ، لكن سماسرة الديون وقناصل الدول أخذوا ما يقرب من 40 مليون جنيه إسترليني من قروض مصر البالغة 90 مليوناً ، فتعثرت مصر عن السداد ، واضطرت إلى بيع أسهمها في قناة السويس بمبلغ هزيل للإنجليز ، وهو ما جعلها على حافة الإفلاس والخراب المالي ، وفي ذلك يقول تقرير خبير الاقتصاد الإنجليزي ستيفن كيف الذي رأس لجنة لفحص مالية مصر في نهاية عام 1875 : ( إن المبالغ الحاصلة من ميزانية مصر عن المدة الواقعة بين سنة 1864 وسنة 1875 بلغت 94,21,400 جنيه ، خصص منها لحملة الأسهم نحو ستة ملايين من الجنيهات ، أي أن مخصصات الديون ابتلعت معظم الميزانية ، وظهر في ميزانية تلك السنة عجز مقداره 1,382,200 جنيه ، نشأ عن فداحة مخصصات الديون ) .

وما زاد الطين بِلة ، أن الخديو إسماعيل لم يضع حداً بين أمواله وأموال الدولة ، وكانت أملاك الدولة رهن إرادته ، الأمر الذي زاد من سوء الأوضاع في ظل غياب حسن الإدارة ، ويكفي أن نشير إلى أنه في عام 1873 بدأ الخديو إسماعيل في تشييد قصره الكبير بالزمالك ( فندق ماريوت الآن ) ، واستلزم البناء تحويل مجرى نهر النيل لعزل جزيرة ( الزمالك ) وإحاطتها بالماء من كل جانب ، حتى يمر نهر النيل في قلب القاهرة على غرار مرور نهر السين بقلب باريس ، لتصير حياة الخديو لها خصوصية مميزة ، ويقول كثيرٌ من المؤرخين إن الضرائب ارتفعت في الفترة منذ نهاية حكم محمد على حتى عهد إسماعيل بدرجة كبيرة ، فعلى سبيل المثال ، بمقتضى القرار الأول الصادر في عهد سعيد ، ارتفعت الضرائب على الأراضي المتوسطة والضعيفة إلى ما يوازى ثلث محصولها ، وواصلت الضرائب ارتفاعها في عهد إسماعيل ، فإلى جانب الضرائب المقررة استحدثت ضرائب إضافية جديدة مثل ضريبة الإعانة وضريبة السُدس وضريبة الري ، وفق دراسة أعدها مركز الدراسات الاشتراكية بمصر ، وقد كتب القاضي الهولندي ( فان بملن ) الذي عاش في عهد إسماعيل يقول : ( إن الخديو إسماعيل هو أول من مهد السبيل لسيطرة أوروبا الاقتصادية على مصر ، فإن أوروبا وبخاصة باريس ، قد أفسدت على هذا الأمير دينه وأخلاقه وماله ، وفتنته فتنة شاملة ، فلم يعد يعنى إلا بكل ما هو أوروبي ، وبكل ما يراه الأوروبيين واعتزم من يوم أن تولى عرش مصر أن يعيش كملك إفرنجي في قصوره وأثاثه ، ومأكله ومظهره وملبسه ، ومن الأسف أن كل ما أنفقه في هذا السبيل لم يعد بالفائدة إلا على أوروبا ، إذ كان يستورد من مصنوعاتها تلك الأشياء الهالكة ، العديمة الجدوى ، وكان يدفع أثمانها أضعافاً مضاعفة ، ولأجل أن يستوفى مطالبه الخارقة في هذا الصدد ، لم تكفه الأموال التي يجبيها من شعبه على فداحتها فأمده أصدقاؤه الأوروبيون بالقروض الجسيمة ذات الشروط المخربة ) .

ولم يكن أمام الخديو إسماعيل بعدما فقد جميع وسائله لتدبير المال الكافي لسداد أقساط الديون إلا أن يعلن توقفه عن الدفع ، فأصدر مرسوماً في 6 إبريل نيسان 1876 تم الإعلان عنه في بورصة الإسكندرية ، يقرر فيه أن حكومته سوف ( تؤجل ) سداد أقساط ديونها لثلاثة شهور ، بالطبع لم يكن تحديد هذه الأشهر الثلاثة إلا لكي تحافظ الحكومة على شكلها العام ، إذ كانت الحكومة قد قررت أن تتوقف نهائياً عن السداد ، وبدا توقف الحكومة المصرية عن الدفع بمنزلة إعلان إفلاسها رسميا ، ومع تصاعد الأزمة المالية ، أنشأت الدول الدائنة ( صندوق الدَين ) في مايو 1876 ، ثم نظام ( المراقبة الثنائية ) في نوفمبر 1876 ، ثم ( لجنة التحقيق الأوروبية ) في يناير 1878 ، التي طالبت بضرورة تنازل الخديو عن أطيانه وأطيان عائلته كرهن لسداد الديون .

 ويخبرنا المؤرخ عبد الرحمن الرافعي ( عصر إسماعيل ، دار المعارف ، القاهرة ، الطبعة الرابعة ،1987 ) أنه مع اشتداد الأزمة المالية في مصر في عام 1874 ، خاف الخديو إسماعيل أن يحجز الدائنون الغربيون على أملاكه ، فوزعها على زوجاته وأولاده .

تم إذاً تعيين مراقبَين ماليين ، أحدهما إنجليزي ، والآخر فرنسي ، لمراقبة إيرادات ومصروفات البلاد ، بل إن وزارة نوبار باشا دخلها وزيران أوروبيان لأول مرة في تاريخ مصر ، وانتهى الأمر إلى طلب الدائنين فرض الوصاية المالية الكاملة على مصر ، وأن يكون لسداد الديون الأولوية المطلقة ، وأدى هذا التعنت الأوروبي إلى انتفاضة وطنية تلقائية في ( ربيع آخر 1296 هـ - إبريل 1879م ) جمعت قادة وطوائف الشعب المصري المختلفة ، دعوا خلالها إلى اكتتاب عام لسداد قسط الدين الذي تعثرت الدولة في سداده ، ويبلغ 1.5 مليون جنيه إسترليني ، وتم تحصيله على الفور وسداده .

ادت سياسة الخديوى اسماعيل المالية ، الى تحالفت الدول الأوروبية مع السلطان العثماني على ضرورة عزله عن حكم مصر ، وأصدر السلطان فرمانه في 26 يونيو حزيران 1879 بعزل إسماعيل عن الحكم ، وتنصيب ابنه الأكبر محمد توفيق باشا على مصر ، وبالفعل تم عزل الخديوى اسماعيل نتيجة سياساته الماليه وديونه التى تراكمت عليه .

وبعدما قضى نحو 16 عاماً في منفاه ، لم يعد إسماعيل إلى مصر إلا ميتاً ، حيث دُفِنَ في مسجد الرفاعي ، وإذا كان إجمالي ديون عهد إسماعيل باشا بلغ 91 مليون جنيه ، فإن ( أفندينا ) ظل حتى وفاته ينعم بلقب أغنى رجال مصر .

رافائيل  ساويرس

 

 

من رحم عصر الخديو إسماعيل ، وُلِدَ أشهر رجال المال والأعمال في ذلك الزمان ، ففي أواخر عهده برزت أسماء تجار ورجال بنوك أجانب ويهود امتلكوا مشروعات خاصة ووضعوا أيديهم على جزء كبير من ثروة البلاد ، والشاهد أن اليهود الذين زادت هجرتهم إلى مصر في عهد الخديو إسماعيل تمتعوا بكل الامتيازات الأجنبية ، ومن تسعة آلاف يهودي يقيمون في مصر في عهد محمد علي باشا ، ارتفع الرقم حسب تعداد السكان لعام 1898 إلى 25200 نسمة ، ثم زاد في تعداد 1927 إلى 55063 إلى أن أصبح 65639 ، وفق تعداد عام 1947 ، ويبدو أن التطور الاقتصادي في مصر كان عامل الجذب الأساسي لقدومهم واستقرارهم بها .

وهكذا تردد اسم عائلة سوارس التي امتدت أذرعها براً وبحراً ، وسوارس عائلة سفاردية وفدت من ليفورنو في إيطاليا ثم استقرت في مصر النصف الأول من القرن التاسع عشر ، وحصلت على الجنسية الفرنسية ، وقد أسَّس الإخوة الثلاثة ، رافائيل ( 1846 – 1902 ) ويوسف ( 1837 – 1900 ) وفيلكس ( 1844 – 1906 ) ، مؤسسة سوارس عام 1875 ، وفي عام 1880 قام رافائيل سوارس بالتعاون مع رأس المال الفرنسي ومع شركات رولو وقطاوي ، بتأسيس البنك العقاري المصري ، كما قام بالتعاون مع رأس المال البريطاني الذي مثَّله المالي البريطاني اليهودي سير إرنست كاسل بتأسيس البنك الأهلي المصري عام 1898 وتمويل بناء خزان أسوان .

كما اشترك سوارس مع كاسل وعائلة قطاوي في شراء 300 ألف فدان من أراضي الدائرة السنية وإعادة بيعها إلى كبار الملاك والشركات العقارية ، كذلك اشترك سوارس مع رأس المال الفرنسي في تأسيس شركة عموم مصانع السكر والتكرير المصرية عام 1897 والتي ضمتها عام 1905 شركة وادي كوم أمبو المساهمة ، وكانت من أكبر المشروعات المشتركة بين شركات قطاوي وسوارس ورولو ومنَسَّى ، كما كانت واحدة من أكبر الشركات الزراعية في مصر ، شارك سوارس في تأسيس شركة مياه طنطا ، وفي مجال النقل البري ، أسست العائلة شركة ( سوارس لعربات نقل الركاب ) ، حتى أن وسيلة النقل هذه سميت على اسم العائلة : السوارس .

وتعاونت سوارس مع عائلة قطاوي في إقامة السكك الحديدية ، كما امتلكت العائلة مساحات واسعة من الأراضي الزراعية وأراضي البناء في وسط القاهرة حيث سُمِّي أحد الميادين باسم ( ميدان سوارس ) نسبة إلى فليكس سوارس ، لكن اسم الميدان تغير إلى مصطفى كامل اعتباراً من عام 1939 ، كما امتلكت عائلة سوارس حصصاً وأسهماً في العديد من الشركات ، واحتل كثيرٌ من أفرادها مواقع رئاسية وإدارية في كثير منها ، فتولى ليون سوارس ( ابن فليكس سوارس )  إدارة شركة أراضي الشيخ فضل وإدارة شركة وادي كوم أمبو ، وعند وفاة أبيه ترك ليون مؤسسة سوارس ليخلف أباه في إدارة البنك الأهلي والبنك العقاري المصري .

وبمبادرة من إدغار سوارس - الذي تولَّى رئاسة الجماعة في الإسكندرية في الفترة من 1914 - 1917 اشترت شركة مساهمة كان من مؤسسيها آلاف الأفدنة ، وبعد استصلاحها تم بيعها بمساحاتٍ صغيرة للمزارعين وبقروض طويلة الأجل .  

يعقوب قطاوى

وتقفز إلى الذاكرة عائلة قطاوي ، وهي عائلة مصرية يهودية برز عددٌ من أفرادها في النشاط السياسي والاقتصادي في مصر في أواخر القرن التاسع عشر وحتى النصف الأول من القرن العشرين ، وترجع أصولها إلى قرية قطا شمالي القاهرة  .

بدأ دور هذه العائلة مع نزوح أليشع حيدر قطاوي إلى القاهرة في أواخر القرن الثامن عشر ، حيث حصل ابنه يعقوب ( 1801 - 1883 ) على امتيازات من الحكومة للقيام بأنشطة تجارية ومالية ، وكان أول يهودي مصري يمنح لقب _ بك ) ، كما حصل على لقب  ( بارون ) من الإمبراطورية النمساوية المجرية التي حملت العائلة جنسيتها ، وقد أوكلت إليه نظارة الخزانة في فترة حكم الخديو عباس الأول ( 1849 - 1854 ) ، واحتفظ بهذا المنصب خلال حكم الوالي سعيد والخديو إسماعيل .

 

 

وتولَّى في أواخر أيامه رئاسة الجماعة اليهودية في القاهرة التي كانت تُسمَّى ( الطائفة الإسرائيلية ) ، وبعد وفاته في قصره بشبرا في 13 إبريل نيسان 1883 ، خلفه ابنه موسى قطاوي ( 1850-1924 ) في رئاسة الطائفة ، واختير عضواً في البرلمان المصري ، كما مُنح لقب الباشوية .

وكان موسى قطاوي من كبار رجال المال والبنوك ، وتولَّى إدارة عدد من الشركات وساهم في تمويل مشروعات السكك الحديد في صعيد مصر وشرق الدلتا ومشروعات النقل العام في القاهرة بالتعاون مع عائلات سوارس ورولو ومنَسَّى .

لعبت هذه العائلة  دورا كبيرا في تشييد معبد اليهود في شارع عدلي أحد أشهر أحياء القاهرة التجارية عام 1899 والذي تم تجديده عام 1988 بتبرع من المليونير اليهودي نسيم جاعون ، وافتتح رسمياً بحضور شمعون بيريس -  الرئيس الإسرائيلي لاحقاً - عام  1990 .

ويتعين عدم إغفال عائلة رولو ، وهي عائلة يهودية سفاردية جاءت إلى مصر خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر واحتفظت بالجنسية البريطانية ، وقد امتلك روبين رولو مؤسسة تجارية تخصَّصت أساساً في استيراد النيلة ( صبغة ) ، وفي عام 1870 ، أسس ولداه جياكومو ( يعقوب ) ( 1847 – 1917 ) وسيمون ، مع بعض الشركاء مؤسسة مالية وتجارية باسم ( روبين رولو وأولاده وشركاهم ) ، وتعاونت عائلة رولو من خلال هذه المؤسسة مع عائلتي قطاوي وسوارس في العديد من المشروعات التي أقاموها بالتعاون مع المالي البريطاني سير إرنست كاسل - خصوصاً مشروعات الدائرة السنية وإقامة سكك حديد حلوان وتأسيس البنك العقاري المصري والبنك الأهلي المصري
وأثناء الأزمة الاقتصادية التي حدثت عام 1907 ، صفَّى جياكومو المؤسسة ثم أقام مع أبنائه الثلاثة مؤسسة رولو وشركاه والتي جمعت بين الأنشطة المصرفية والمالية وتجارة الجملة في القطن والسكر والأرز والفحم والبن ، كما امتلكت حصصاً كبيرة في بعض الشركات العقارية الكبرى مثل : شركة وادي كوم أمبو وشركة أراضي الشيخ فضل وشركة مصانع السكر ، وعند وفاته ترك جياكومو رولو ثروة من العقارات تُقدَّر بنحو 70 ألف جنيه ، أما ابنه الأكبر روبير جياكومو رولو ( 1876 - ؟ ) ، فقد انتُخب رئيساً للطائفة اليهودية في الإسكندرية في الفترة 1934 – 1948 ، وكان روبير جياكومو مناهضاً للصهيونية ، واستقال من رئاسة الطائفة عام 1948 قبل اندلاع حرب فلسطين مباشرة بسبب خلافه مع حاخام الإسكندرية المؤيد للصهيونية .

أما روبير رولو ( 1869 - ؟ ) ، فحقق مكانة مهمة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مصر ، إذ تولَّى رئاسة عدد من مجالس إدارة الشركات التي ساعد أباه في تأسيسها ، وكان مستشاراً قانونياً للملك فؤاد الأول ومقرباً له فقام بدور الوسيط بين القصر ودار المندوب السامي البريطاني ، وحصل على لقب ( سير ) عام 1938 .

وهناك أيضاً عائلة ( منَسَّى ) أو ( دي منَسَّى أو منَسَّه ) ، لكن النطق الشائع في مصر هو ( منشه ) ، ويُوجَد شارع في الإسكندرية يُسمَّى ( شارع منشَّه ) ، ومنَسَّه عائلة يهودية سفاردية جاءت إلى مصر من إسبانيا ، ويعود أول ذكر لوجودها في مصر إلى القرن الثامن عشر ، حيث بدأ يعقوب دي منَسَّى ( 1807 – 1887 ) حياته صرَّافاً في حارة اليهود ، وتدرَّج في عمله حتى أصبح صراف باشا للخديو إسماعيل ، ثم أسس بالتعاون مع يعقوب قطاوي مؤسسة مالية وتجارية ( بيت منَسَّى وأولاده ) أصبح لها أفرع في مانشستر وليفربول ولندن وباريس ومارسيليا وإسطنبول ، كما اشترك بالتعاون مع الخديو إسماعيل في تأسيس البنك التركي المصري ، وارتبط نشاطه بكثير من شركات ومشروعات عائلتي قطاوي وسوارس .

ومابين عامى 1872 و 1873  مُنح يعقوب دي منَسَّى الحماية النمساوية ، وفي عام 1875 مُنح لقب البارونية والجنسية النمساوية المجرية تقديراً للخدمات التي قدمها للتجارة النمساوية المجرية – المصرية ، وترأَّس يعقوب دي منَسَّى الطائفة اليهودية في القاهرة عام 1869 ، ثم انتقل عام 1871 إلى الإسكندرية حيث أسَّس معبد منَسَّى ومقابر منَسَّى ومدارس منَسَّى ، ورأس ابنه بيهور ( ديفيد ) ليفي دي منَسَّى ( 1830- 1885 ) الطائفة في الإسكندرية وخلفه في رئاستها ابنه جاك ( 1850 – 1916 ) الذي احتفظ بها حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى حينما اعتبرته السلطات البريطانية عدواً لأنه كان يحمل الجنسية النمساوية المجرية .

وقد نقل جاك أعمال الأسرة من الأعمال المالية والمصرفية إلى تجارة القطن والسكر المربحة ، واشترى مساحات واسعة من الأراضي في دلتا وصعيد مصر ، ووصلت ثروته عند وفاته إلى ما بين 300 و500 ألف جنيه مصري
أما الشقيق الأصغر فليكس يهودا ( 1865 - 1943 ) ، فدرس في فيينا وأسَّس فرع بيت منَسَّى في لندن ورأس الطائفة اليهودية في الإسكندرية في الفترة ما بين عامي 1926 و1933 .

  • دور اليهود فى مصر فى انشاء البنوك :

ولا يجاوز أحدٌ الحقيقة حين يقول إن اليهود كانوا يقفون وراء إنشاء العديد من البنوك في ذلك الوقت ، ومن أهم البنوك التي لعبوا دوراً في إنشائها البنك العقاري المصري الذي تأسس عام 1880 فقد اشترك في تأسيسه سوارس ورولو وقطاوي ، وقد كان رأسمال البنك عند تأسيسه 40 مليون فرنك فرنسي ، وصل إلى 8 ملايين جنيه عام 1942 ، وقد لعب هذا البنك دوراً مؤثراً في الاقتصاد الزراعي المصري ، إذ إنه نتيجة القروض التي منحها للملاك الزراعيين أصبح يتحكم في أكثر من مليون فدان مصري ، كما تأسس البنك الأهلي المصري عام 1898 بقيادة ميشيل سلفاجو وإرنست كاسيل ورافائيل سوارس ، وكان رأسماله 3 ملايين جنيه إسترليني ، وأسس جاك سوارس البنك التجاري المصري والذي عُرِفَ وقت تأسيسه عام 1905 باسم ( بنك التسليف الفرنسي ) ، ثم تحول إلى شركة مساهمة مصرية باسم البنك التجاري المصري عام 1920 وكان رأسماله مليوناً و200 ألف جنيه إسترليني ، كما تأسس بنك سوارس عام 1936 .

  • انشاء بورصة القاهرة :

 

وساهم اليهود في ميلاد بورصة القاهرة ، ففي يوم الخميس الموافق 21 مايو أيار 1903 قامت اللجنة الخاصة برئاسة موريس قطاوي بك ( توفي عام 1924 ) باختيار المبنى القديم للبنك العثماني ( وهو الآن مبنى جروبي - فرع عدلي ) الكائن بشارع المغربي كمقر رسمي - ولكن بصفة مؤقتة للشركة المصرية للأعمال المصرفية والبورصة - المؤسسة حديثاً- شركة ذات مسؤولية محدودة .

وكان الأعضاء المؤسسون لبورصة القاهرة في عام 1903 هم : موريس قطاوي بك - الرئيس أربيب - كوكسن - جناروبولو أوزيول - ماكليفري - أدولف قطاوي  ) هذا بالإضافة إلى ممثل عن كل من بنك كريدي ليونيه ، بنك مصر ، البنك الإمبراطوري العثماني ، البنك المصري البريطاني والبنك الأهلي المصري ، وكان السكرتير العام للبورصة في عام 1903 يدعى بوتيني ، ويكفي أن نشير إلى أن قائمة رؤساء بورصة القاهرة تضم كلاً من جوزيف حاييم بيريز ( 1925-1929 ) ، وإيلي نجار ( 1948 – 1947 ) وصامويل إميل ليفي ( 1948 – 1958 ) .  

غير أن قوائم الأغنياء في مطلع القرن العشرين شهدت أسماء مصرية مثل أحمد المنشاوي باشا ، وهو من أعيان الغربية ، والذي قُدِرَت ثروته بنحو مليوني جنيه ، وخُصِصَ جزءٌ منها لأعمال الخير ، ويعد المنشاوي باشا والأمير عمر طوسون من أكثر المصريين في العصر الحديث إنفاقاً في المشروعات الخيرية ، وحسبنا أن نعلم أن المنشاوى باشا أوقف نحو ألف فدان على أعمال الخير والإصلاح ، ولا تزال آثار يديه شاهدة على ذلك .

كان المنشاوي باشا من أشهر كبار الملاك الذين اهتموا بإنشاء التكايا والوقف عليها في مطلع القرن العشرين الماضي ، ومن ذلك تكيته بمدينة طنطا ، التي جعلها كما ورد في نص حجة وقفه ، ( للعواجز واليتامى ) لتكون منازل ومساكن لهم وللسيارة والمارة ، وأبناء السبيل من المسلمين ، ولاسيما الذين يحضرون إلى مدينة طنطا من بلاد الترك والمغرب وغيرها وهم في طريقهم لأداء فريضة الحج ) .

وقد بلغ نصيب هذه التكية من ريع الوقف 1500 جنيه مصري قبيل تسليم أطيان الوقف عام 1962 لهيئة الإصلاح الزراعي
وكان النَفَس الوطني واضحاً في أعمال الخير لديه ، من ذلك مثلاً أن المنشاوي باشا ، نص في وقفيته المحررة في عام 1903 على أنه ( لا حق لأحد من الموقوف عليهم في الوقف ، لا بنظر ولا استحقاق إذا تزوجت إحدى بناتهم بأحد من أهل الحمايات الأجنبية خلاف الدولة العلية ) (العثمانية) .

ولابد ان نشير هنا إلى إسهام الأوقاف في شراء أراضي الدولة التي بيعت أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ، وفاء لبعض أقساط الديون الأجنبية ، ذلك أن الحكومة اضطرت لبيع مساحات شاسعة من أراضي الأملاك الأميرية الحرة لمواجهة تلك الديون ، وكان المتنافسون الرئيسيون على شراء تلك الأراضي هم الأجانب من ناحية ، وكبار الملاك المصريين من ناحية ، وديوان عموم الأوقاف من ناحية ثالثة ، وهكذا اشترى ( احمد باشا المنشاوي ) في سنتي 1898 و 1900 نحو 4000 فدان ، ووقفها كلها سنة 1903 ، و ( علي باشا عبدالله مهنا ) اشترى في 1898 مساحة 689 فداناً ووقفها سنة 1900 و  ( احمد مظلوم باشا ) اشترى في سنة 1904 مساحة 3130 فداناً ووقفها في سنة 1908 .

ومن أثرياء مطلع القرن العشرين ، ( فخري بك عبد النور ) الذي استغل موقع مدينة جرجا التجاري فنّمى ثروته ، و ( عمر سلطان ) الذي ورث عن أبيه ( محمد سلطان باشا ) مساحاتٍ شاسعة من الأراضي والأموال ، إلى جانب ( إدريس بك راغب ) الذي تخلى له الخديو محمد توفيق باشا عن رئاسة المحفل الأكبر الوطني المصري ( الماسوني ) في جلسة عُقِدَت في يناير كانون ثانٍ عام 1891.

وبالمناسبة فإن ( إدريس بك راغب ) شارك في الجلسة التأسيسية للنادي الأهلي المصري في 24 إبريل نيسان 1907 وكان عضو أول مجلس إدارة للنادي .  

كان هناك ايضا  (  إميل عدس  ) الذى اسس الشركة المصرية للبترول برأسمال 75000 جنيه في بداية عشرينيات القرن العشرين ، في الوقت الذي احتكر فيه اليهودي إيزاك ناكامولي تجارة الورق في مصر  ، كما اشتهر اليهود في تجارة الأقمشة والملابس والأثاث حتى أن شارع الحمزاوي والذي كان مركزاً لتجارة الجملة كان به عدد كبير من التجار اليهود ، كذلك جاءت شركات مثل شركة شملا ، وهي محال شهيرة أسسها كليمان شملا كفرع لمحال شملا باريس ، وقد تحولت إلى شركة مساهمة عام 1946 برأسمال 400.000 جنيه مصري  .

مورينو شيكوريل

 

أما  ( شيكوريل )  فقد أسستها عائلة شيكوريل الإيطالية الأصل عام 1887 ورئيس مجلس إدارتها مورينو شيكوريل عميد العائلة ، وكان رأسمال الشركة 500.000 جنيه ، وعمل بها 485 موظفاً أجنبياً و142 موظفاً مصرياً .

وفي عام 1909 ، افتتح محلاًّ جديداً في ميدان الأوبرا والذي حوَّله أبناؤه سولومون ويوسف وسالفاتور إلى واحد من أكبر المحال التجارية في مصر ، وفي عام 1936 ، انضمت إليهم عائلة يهودية أخرى ، فأصبحوا يمتلكون معاً مجموعة محلات أوريكو .

كان يوسف ( بك) شيكوريل من مؤسسي بنك مصر ( عام 1920 ) ، كما كان أخوه ( سالفاتور بك ) شيكوريل عضواً في مجالس إدارة العديد من الشركات وعضواً في مجلس إدارة الغرفة التجارية المصرية ثم رئيساً لها ، وكان ضمن البعثة الاقتصادية المصرية التي سافرت إلى السودان بهدف تعميق العلاقات التجارية بين البلدين وفتح مجالات جديدة أمام رؤوس الأموال المصرية في السودان .

وقد كان شيكوريل متجراً للارستقراطية المصرية بما في ذلك العائلة الملكية ، لكنه احترق بكرات لهبٍ ألقيت عليه أثناء حرب فلسطين الأولى عام 1948 ، ثم دَُِمر مرة أخرى في حريق القاهرة مطلع عام 1952 ، وفي المرتين أعيد بناؤه بمساعدة الحكومة ، وبقي على حاله حتى وَُِضعَ تحت الحراسة بعد نشوب حرب السويس 1956 ،  وسرعان ما تخلى أصحابه عنه ببيع أسهمه لرجال أعمال .

يوسف بك شيكوريل

وبالرغم من أنه في أعقاب ثورة يوليو 1952 حرص سالفاتور على مد جسور علاقات طيبة مع الضباط الأحرار ، خصوصاً أنه كان معروفاً كرياضي سابق وكابتن منتخب مصر للمبارزة الذي شارك في دورة أمستردام الأوليمبية عام 1928 ، فإنه لحق بباقي أفراد أسرته في أوروبا عام 1957 بعد أن نقل أرصدته إلى الخارج وباع أهم  شركاته Les Grands Magasins Cicurel & Oreco S.A.E  ذات رأس المال البالغ 600 ألف جنيه والتي كانت تعد جوهرة التاج في شارع فؤاد الذي أصبح الآن شارع 26 يوليو ، وسط القاهرة .

وتبرز أيضاً شركة ( بونتبوريمولي ) أشهر شركات الديكور والأثاث ، وأسسها هارون وفيكتور كوهين ، و( غاتينيو ) وهي سلسلة محال أسسها موريس غاتينيو الذي احتكر تجارة الفحم ومستلزمات السكك الحديد ، وكانت عائلة عدس من العائلات اليهودية الشهيرة في عالم الاقتصاد وأسست مجموعة شركات مثل بنزايون ، عدس ، ريفولي، هانو ، عمر أفندي .

ورئس فيكتور هراري ( 1857-1945 ) الذي جاء والده إلى مصر في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر قادماً من بيروت عدداً من الشركات التي أُقيمت بالتعاون بين كاسل ومجموعة قطاوي ( سوارس – منَسَّى – رولو ) وانتخب عام 1929 عضواً بمجلس إدارة البنك الأهلي المصري ، وحصل على لقب سير عام 1928 تقديراً للخدمات التي قدَّمها للحكومة البريطانية .

كما احتكر اليهود صناعات أخرى مثل صناعة السكر ومضارب الأرز التي أسس ( سلفاتور سلامة ) شركة تحمل اسمها عام 1947 برأسمال 128.000 جنيه مصري ، وكانت تنتج 250 طناً من الأرز يومياً ، وشركة الملح والصودا التي أسستها عائلة قطاوي عام  1906 .

كذلك استثمر اليهود في قطاع الفنادق ، إذ ساهمت عائلة موصيري في تأسيس شركة فنادق مصر الكبرى برأسمال 145.000 جنيه وضمت فنادق كونتيننتال ، مينا هاوس ، سافوي ، سان ستيفانو ، و( موصيري ) هي عائلة يهودية سفاردية من أصل إيطالي استقرت في مصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ، وقد احتفظت العائلة بالجنسية الإيطالية ، وحقَّق يوسف نسيم موصيري ثروته من التجارة ، وبعد وفاته عام 1876 ، أسَّس أبناؤه الأربعة مؤسسة يوسف نسيم موصيري وأولاده .

وتزوج الابن الأكبر ( نسيم  بك ) موصيري ( 1848 ـ 1897 ) من ابنة يعقوب قطاوي ، وأصبح نائب رئيس الطائفة الإسرائيلية في القاهرة وهو منصب توارثته العائلة من بعده ، ولم تحقِّق عائلة موصيري انطلاقتها الحقيقية إلا في أوائل القرن العشرين  ( 1904 ) عندما أسَّس إيلي موصيري ( 1879- 1940 ) ابن ( نسيم  بك ) ، بالتعاون مع إخوته الثلاثة يوسف ( 1869 - 1934 ) وجاك ( 1884 - 1934 ) وموريس ، بنك موصيري .

حقَّق إيلي موصيري مكانة مرموقة في عالم المال والأعمال في مصر ، وكان قد درس الاقتصاد في إنجلترا وتزوج من ابنة فليكس سوارس ، وكانت تربطه علاقات وثيقة بإسماعيل صدقي ، كما كانت له مصالح عديدة في فرنسا وعلاقات وثيقة ببيوت المال الأوربية اليهودية مثل بيوت روتشيلد ولازار وسليجمان ، كما كان يمثل المصالح الإيطالية في مصر ، وأسس جوزيف موصيري شركة ( جوزي فيلم ) للسينما عام 1915 والتي أقامت وأدارت دور السينما واستوديو للإنتاج السينمائي وتحوَّلت إلى واحدة من أكبر الشركات العاملة في صناعة السينما المصرية ، أما فيكتور موصيري ( 1873 – 1928 ) ، فكان مهندساً زراعياً مرموقاً وكانت له إسهامات مهمة في مجال زراعة القطن وصناعة السكر .

واشتركت عائلات يهودية أيضاً في تأسيس الشركات العقارية العديدة التي أقيمت في إطار مبيعات أراضي الدائرة السنية ثم في إطار الحجوزات العقارية بعد تَراكُم الديون على كبار وصغار الملاك المصريين نتيجة انخفاض الطلب على القطن المصري ، وقد تأسَّس أكثر هذه الشركات في الفترة ما بين عامي 1880 و1905 ، وقامت بامتلاك الأراضي واستغلالها وبإقامة المشروعات العقارية والصناعية عليها وكذلك المضاربة فيها لتحقيق تَراكُم سريع لرأس المال .

ومن أهم هذه الشركات شركة أراضي الشيخ فضل ، وشركة وادي كوم أمبو التي تأسست في 24 مارس آذار 1904 بامتياز مدته 99 عاماً ، ورأسمال 300.000 جنيه أسترليني ، وكان كبار المساهمين السير إرنست كاسل والسير إلوين بالمر والخواجات سوارس إخوان وشركاهم وفليكس سوارس ورافائيل سوارس ويوسف أصلان قطاوي بك وروبيرس رولو ، امتلكت هذه الشركة 30.000 فدان في كوم أمبو ، بخلاف 21.000 فدان ، وشقت 91 كيلومتراً من المصارف والترع و48 كيلومتراً من السكك الحديد ، كذلك برزت شركة مساهمة البحيرة التي تأسست في يونيو حزيران 1881 برأسمال 750.000 جنيه مصري وامتلكت 120 ألف فدان .

ويمكن تقدير مدى مساهمة أعضاء الجماعات اليهودية في مصر في الشركات والقطاعات الاقتصادية المختلفة من خلال عضويتهم في مجالس إدارة الشركات المساهمة التي سيطرت على أهم قطاعات الأعمال في مصر منذ أواخر القرن التاسع عشر ، وتشير بعض الإحصاءات إلى أن اليهود احتلوا 15,4% من المناصب الرئاسية و16% من المناصب الإدارية عام 1943 ، وانخفضت هذه النسبة إلى 12,7% و12,6% عامي 1947 و1948 ، وإلى 8,9% و9,6% عام 1951 ، وتشير إحصاءات أخرى إلى أن نسبة اليهود في مجالس إدارة الشركات المساهمة كانت 18% عام 1951 ، والواقع أن هذه نسب مرتفعة إذا ما قورنت بنسبتهم لإجمالي السكان والتي بلغت عام 1950 نحو 0,4% فقط .  

ويمكن القول إن اليهود في مصر استطاعوا تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة بلغت أقصاها في الفترة من 1940 وحتى 1946 في الوقت الذي كان الاقتصاد العالمي يعاني فيه ركوداً نتيجة ظروف الحرب العالمية الثانية ، واستطاع يهود مصر أن يصبحوا أغنى طائفة يهودية في الشرق الأوسط ، ولم يتأثروا بإلغاء الامتيازات الأجنبية عام 1937 أو انخفاض معدلات الهجرة إلى مصر ، أو حتى صدور قانون الشركات رقم 138 والذي صدر في يوليو تموز 1947 لتنظيم الشركات المساهمة ، لكن كان قيام إسرائيل عام 1948 أثره في تحديد دور طائفة اليهود في مصر .

وبعد قيام ثورة يوليو 1952 ، ازداد الموقف اضطراباً ، بعد أن تغيرت موازين القوى بين العائلات اليهودية والسلطة الحاكمة في مصر ، في البداية شهدت الثورة مؤشرات إيجابية على العلاقة بين الجانبين ، إذ زار الرئيس محمد نجيب معبد ( اليهود القرائين ) في 25 أكتوبر تشرين ثانٍ 1952 لتهنئة المصريين اليهود بعيد كيبور ( الغفران ) .

 

 

الاقتصاد المصرى فى عصر الخديوى عباس حلمى الثانى

 

منحت السلطات في مصر ابتداءً من عهد الخديو إسماعيل العديد من الأجانب تصريحاً بإنشاء شركات لإدخال المياه وتوصيل الكهرباء والغاز في القاهرة والإسكندرية ومدن أخرى ، الأمر الذي در على هؤلاء الأشخاص مبالغ ضخمة وأرباحاً طائلة انتعشت بها ثرواتهم .

وبالرغم من محاولة الخديو عباس حلمي الثاني ( 14 يوليو 1874- 19 ديسمبر 1944 ) حاكم مصر من عام 1892 إلى عام 1914 تنمية ثروته الشخصية ، فإن اسمه لم يتردد باعتباره أغنى رجل في مصر ، على غرار ما وُصِفَ جده الخديو إسماعيل وجد جده محمد علي باشا .

الخديوى عباس حلمى الثانى

 

البارون امبان

 

ويضاف إلى من تقدم ، البارون البلجيكي إدوارد لويس جوزيف إمبان (1852-1929) الذي وصل إلى مصر في يناير كانون ثانٍ 1904 بغرض إنقاذ أحد مشروعات شركته وهو إنشاء خط سكة حديدية يربط بين المنصورة والمطرية ( مدينة على بحيرة المنزلة - بورسعيد) .

وعلى الرغم من خسارته حق إنجاز المشروع الذي أُسنِدَ إلى البريطانيين بدلاً من شركته ، فإنه ظل في مصر ولم يرحل عنها .

وفي عام 1906 أسس هذا المهندس والصناعي شركته Heliopolis    Oasis Company واشترت مساحة كبيرة من الصحراء من الحكومة الاستعمارية البريطانية في ذلك الوقت ، في منطقة مصر الجديدة الحالية  مساحتها 25 كيلومتراً مربعاً شمال غرب القاهرة ، وبدأ بين عامي 1906 و1907 في بناء ضاحية مصر الجديدة التي أرادها أن تكون قاهرة جديدة راقية ، واشتملت على جميع مرافق البنية التحتية اللازمة من كهرباء ومياه وصرف صحي وفنادق ، بالإضافة إلى ملاعب الجولف ومضامير سباق الخيول والمنتجعات الراقية ، وضمت مصر الجديدة مساكن راقية للإيجار مصممة على تصاميم معمارية مبتكرة في ذلك الوقت ، تشكل حتى الآن تراثاً معمارياً فريداً ، ولعل أشهر آثار البارون أمبان في مصر هو قصر البارون ( 1911 ) الذي استلهمه من معبد أنكور وات في كمبوديا ومعابد أوريسا الهندية .

 

 

  • افرزت الحرب العالمية الاولى ( 1914 - 1918 ) عددا من الاغنياء الجدد الذين وصف ثرواتهم ( عزيز بك الخانكى ) بقوله :

( لا يمكن للعقل أن يدرك حجم الأرباح التي ربحها التجار ، تجار الأقمشة والمنسوجات أصبح الواحد منهم يستنكف أن يقال عنه إنه صاحب 100 ألف جنيه أو 200 ألف جنيه ويؤكد أن ربحه ناهز المليون ، أعرف واحداً منهم اشترى ألف فدان من الأطيان ، ودفع ثمنها عداً ونقداً ، وتجار الأخشاب مثلهم أصبح الواحد منهم يعتبر نفسه قارون زمانه ، اشترى واحدٌ منهم البنك المصري بحذافيره ، وتاجران من تجار التصدير ربحا في سنةٍ واحدة 1.600.000 جنيه جلباها من عرق الفلاح المسكين ) .

 

  • البنوك المصرية وبداية الاقتصاد الوطنى الحر :

كانت الحرب العالمية الأولى فرصة لظهور رأس المال المصري بشكل مغاير ، حيث كان كثيرون يفضلون العمل الزراعي فقط تاركين قطاع البنوك وأعمال المرابين للأجانب واليهود ولا يرحبون بالعمل في مجال التصنيع. غير أن توقف عملية الاستيراد والتصدير أثناء الحرب دفعتهم إلى إخراج أموالهم ومدخراتهم والتعامل بها ، حتى شهدت مصر نهضةً صناعية مصغرة ، وصار هناك استعدادٌ جِدي لإنشاء بنك برأسمال مصري تتجمع فيه الأموال المصرية .

وهذا يفتح سيرة البنوك المصرية ، ففي عام 1907 ونتيجة لرفض البنوك الأجنبية العاملة في مصر منح قروض للفلاحين المصريين ، تعالت أصوات المفكرين والسياسيين المصريين تنادي بأهمية إنشاء بنوك وطنية لتحل محل البنوك الأجنبية في تقديم قروض للفلاحين ، ونتيجة لذلك ، عقدت سلسلة من اللقاءات العلمية لبحث هذا الموضوع من الناحية الشرعية ، وكان من أهمها الملتقى العلمي الذي عقد في عام 1913 ، حيث التقت آراء معظم المحاضرين على رفض المشروع من الوجهة الدينية ، غير أن فريقاً آخر أيد الفكرة معتمداً على نصٍ قرآني في دعوى أن الربا المحظور في الإسلام بالنص والإجماع إنما هو الربا الذي يصل إلى مثل رأس المال أو يزيد عليه .

وبعد مرور سنوات قليلة بدأت البنوك الوطنية في الظهور في مصر ، وكان أول بنك وطني مصري يتم إنشاؤه على غرار البنوك الأجنبية هو بنك مصر والذي أسسه محمد طلعت حرب عام 1920 ، وقد اختار طلعت حرب رئيس الطائفة اليهودية يوسف قطاوي ليكون نائباً لرئيس بنك مصر عام 1920 .

 

طلعت باشا حرب

اقتصادى مصر الاول

 

  • ازمة القطن العالمية :

ضرب الكساد الكبير الولايات المتحدة والعديد من دول العالم في أكتوبر عام 1929 نتيجة للانهيار المالي الضخم في بورصة الأوراق المالية في نيويورك ، والمعروف باسم  ( الثلاثاء الأسود ) ، وانتهى في أوقاتٍ متفاوتة بحسب كل بلدٍ ، ما بين ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي .

وقد اعتبر خبراء الاقتصاد تلك الأزمة أكبر كسادٍ اقتصادي يضرب العالم في القرن العشرين ، ونظروا إليه في القرن الحادي والعشرين كنموذج على المدى الذي يمكن أن ينهار به الاقتصاد العالمي  .

كان لهذه الكارثة الاقتصادية آثارها القوية على الاقتصاد المصري ، باعتبارها إحدى المستعمرات التي تدور فى فلك إنجلترا إحدى دول المركز ، وأيضاً لارتباط العملة المصرية بالجنيه الإسترليني .

وقد ظهرت أولى آثار الأزمة الاقتصادية في مصر على شكل انخفاضٍ رهيب في أسعار القطن وصعوبة بالغة في تسويقه ، وليس مثل القطن من محصولٍ زراعي لعب دوراً خطيراً في التأثير على تاريخ مصر الاقتصادي  .

ويتعين أن نشير إلى أن القطن شغل 22.4 % من المساحة المنزرعة عام 1913 ، مقابل 11.5 % عام 1879 ، وزاد محصول القطن من مليون و818 ألف قنطار إلى 6 ملايين و250 ألف قنطار بين عامي 1884 و1908 ، كما ارتفعت قيمة الصادرات القطنية من 6 ملايين و424 ألف جنيه إلى 17 مليوناً و91 ألف جنيه أثناء الفترة نفسها ، وهو ما يمثل 67 % من مجموع الصادرات عام 1884 ، و83 % عام 1906 .

والشاهد أن مصر بمدنها وريفها قد تأثرت بشدة بهذا الكساد العالمي ، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي ، ومن ذلك أحوال المعيشة والزواج والطلاق والتعليم والصحة والتبشير والبطالة والإجرام والبغاء والمخدرات والأكيد أن الأزمة الاقتصادية خنقت الأسواق  وأدت إلى إفلاس كثيرين نتيجة استمرارها بضعة أعوام ، الامر الذي حال دون صعود وجوه جديدة

  • الحرب العالمية الثانية وظهور اغنياء الحرب :

ضرب الكساد الكبير الولايات المتحدة والعديد من دول العالم في أكتوبر عام 1929 نتيجة للانهيار المالي الضخم في بورصة الأوراق المالية في نيويورك ، والمعروف باسم  ( الثلاثاء الأسود ) ، وانتهى في أوقاتٍ متفاوتة بحسب كل بلدٍ ، ما بين ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي .

وقد اعتبر خبراء الاقتصاد تلك الأزمة أكبر كسادٍ اقتصادي يضرب العالم في القرن العشرين ، ونظروا إليه في القرن الحادي والعشرين كنموذج على المدى الذي يمكن أن ينهار به الاقتصاد العالمي  .

كان لهذه الكارثة الاقتصادية آثارها القوية على الاقتصاد المصري ، باعتبارها إحدى المستعمرات التي تدور فى فلك إنجلترا إحدى دول المركز ، وأيضاً لارتباط العملة المصرية بالجنيه الإسترليني .

وقد ظهرت أولى آثار الأزمة الاقتصادية في مصر على شكل انخفاضٍ رهيب في أسعار القطن وصعوبة بالغة في تسويقه ، وليس مثل القطن من محصولٍ زراعي لعب دوراً خطيراً في التأثير على تاريخ مصر الاقتصادي  .

ويتعين أن نشير إلى أن القطن شغل 22.4 % من المساحة المنزرعة عام 1913 ، مقابل 11.5 % عام 1879 ، وزاد محصول القطن من مليون و818 ألف قنطار إلى 6 ملايين و250 ألف قنطار بين عامي 1884 و1908 ، كما ارتفعت قيمة الصادرات القطنية من 6 ملايين و424 ألف جنيه إلى 17 مليوناً و91 ألف جنيه أثناء الفترة نفسها ، وهو ما يمثل 67 % من مجموع الصادرات عام 1884 ، و83 % عام 1906 .

والشاهد أن مصر بمدنها وريفها قد تأثرت بشدة بهذا الكساد العالمي ، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي ، ومن ذلك أحوال المعيشة والزواج والطلاق والتعليم والصحة والتبشير والبطالة والإجرام والبغاء والمخدرات والأكيد أن الأزمة الاقتصادية خنقت الأسواق  وأدت إلى إفلاس كثيرين نتيجة استمرارها بضعة أعوام ، الامر الذي حال دون صعود وجوه جديدة من الأثرياء ورجال المال والأعمال .

 

 

في كتابه ( تطور الحركة الوطنية المصرية ) ، يقدم شهدي عطية الشافعي أحد أبرز قادة الحركة الشيوعية المصرية في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين رؤيةً مهمة ، يقول الكاتب تحت عنوان ( سيطرة كبار رجال المال ) :  

 

 ( وفي ظل الاستقلال الاسمي الذي فازت به مصر ، ظهرت نواةٌ بارزة من كبار الماليين المصريين ، المتصلين أوثق اتصال بالشركات الأجنبية ، برؤوس الأموال الاستعمارية ، إذ رأت هذه الشركات أنه من الخير لها أن تعين من بين أعضاء مجالس إدارتها بعض مستوزرين سابقين ، وبعض كبار الموظفين ليستخدموا جهاز الدولة في خدمة هذه الشركات ، كما أن بعض أثرياء التجار المصريين أمثال فرغلي ، وعلي أمين يحيى ، رأوا من صالحهم التعاون مع رؤوس الأموال الأجنبية لتحقيق مزيدٍ من الأرباح ، ومن ثم برزت فئةٌ جديدة شاركت كبار الملاك الحكم تحت سيطرة السراي والاستعمار ) .

  • ويضيف شهدى عطية قائلا :

( هذه الفئة وأمثالها من كبار الماليين المتصلين أوثق اتصال بالاحتكارات الأجنبية اجتهدت أول الأمر أن تنشيء لها أحزاباً مستقلة ، كحزب الاتحاد عام 1925 الذي كان يرأسه يحيى إبراهيم باشا ( وهو من كبار الماليين ) ونشأت باشا ، ثم حزب الشعب الذي كوّنه صدقي باشا 1931 ، ولكن هذه الأحزاب فشلت فشلاً ذريعاً ، لقد نشأت في أحضان السراي وبقوة البوليس ورجال الإدارة ، فلم تنجح في تضليل أحد ، وسرعان ما كانت تذبل وتموت بمجرد خروجها من الحكم ، ومن ثم اتبع كثيرٌ من كبار الماليين سياسة جديدة ، هي البقاء خارج الأحزاب تحت يافطة المستقلين وتحت طلب السراي والاستعمار ، كلما أراد انقلاباً جديداً ) .

غير أن نجمي المجتمع في تلك الفترة كانا رجلي مال وأعمال اتسم نشاطهما بالعمل المؤسسي وهما ( المهندس العصامي أحمد عبود باشا ، وسليل عائلة التجار محمد أحمد فرغلي باشا ) .

 

  • محمد احمد فرغلى باشا - ملك القطن

 

محمد احمد فرغلى باشا

 

ينتمي محمد أحمد فرغلي باشا ملك القطن ، إلى أسرةٍ من أصولٍ صعيدية ، فهي من مدينة أبو تيج ونزحت إلى الإسكندرية واستقرت بها ،  كانت أسرته محسوبة من الصفوة ، حيث الثراء المادي والاقتصادي ، بل إن الشارع الذي وُلِدَ فيه حمل اسم أسرته ( شارع فرغلي ) .

توارثت الأسرة العمل التجاري ، فالجد والابن من بعده يعدان من كبار تجار الحبوب ، وكانا يتاجران في القطن على الجانب المحلي وحده ، ولا يخوضان تجربة التصدير إلى الخارج .

تلقى محمد أحمد فرغلي تعليمه في مدرسة الجيزويت الفرنسية ، ثم التحق بكلية فيكتوريا ذائعة الصيت ، وكان من أبرز أصدقائه فيها أمين عثمان الذي اغتيل عام 1946، ثم سافر فرغلي بعد ذلك إلى إنجلترا لاستكمال دراسته في مدرسة لندن للدراسات الاقتصادية ، لكن مرض الأب اضطره إلى العودة إلى الإسكندرية ، لتحمل أعباء العمل التجاري للعائلة .

كان رأسمال الأب في تلك الفترة يقترب من 30 ألف جنيه ، وهو رقمٌ كبير آنذاك ، لكن طموح الابن تجاوز ذلك بكثير ، بعد فترة حاول العمل مستقلاً لمدة عامين ، إذ أنشأ مزرعة لتربية الخنازير فوق أرض مستصلحة تبلغ مساحتها 900 فدان كانت تملكها العائلة في منطقة أبو الشقوق بالقرب من المنصورة ، ثم استدعاه أبوه ، قرر تصفية مشروعه الذي حقق من ورائه ربحاً صافياً يقترب من ثلاثة آلاف جنيه ، وهو رقمٌ ضخم بمقاييس ذلك الزمن ، وتحت إلحاح الابن محمد ، سرعان ما بارك الأب تحول جزء من نشاط الأسرة التجاري إلى مجال تصدير الأقطان ، الذي كان حكراً على الأجانب .

وتكبدت الصفقة الأولى في مجال تصدير القطن خسارة فادحة ، تزيد على أربعة آلاف جنيه ، غير أن محمد تعلم من التجربة جيداً .  

 

بورصة الاسكندرية

بدأت رحلة ( ملك القطن ) الذي توفي والده عام 1927 مع التصدير بحصةٍ لا تتجاوز 0,25 % من إجمالي المحصول المصري من القطن ،  وبعد مايزيد قليلاً عن عشر سنوات ، كان محمد أحمد فرغلي يصدر 15 % من جملة المحصول ، وبهذه النسبة كان يحتل المركز الأول في قائمة المصدرين ، فضلاً عن أن نجاحه مَثَل دافعاً لأن يقتحم مصريون آخرون مجالاً كان مغلقاً دونهم .

في عام 1935 انتُخِبَ محمد أحمد فرغلي وكيلاً لبورصة مينا البصل ، وكان أول مصري ينهي سيطرة الأجانب الطويلة على المناصب القيادية ، وفي مقابلة مع الملك فؤاد بعد انتخابه ، ودعه الملك مخاطباً بكلمة ( بك ) ، ولما كان نطق الملك سامياً لا عودة فيه ، فقد حاز محمد أفندي فرغلي رتبة البكوية ، وفي عام 1941 ، في ظل وزارة حسين سري ، حصل فرغلي على رتبة الباشاوية
غير أن محمد أحمد فرغلي باشا عاش كثيراً من الأزمات والمحن ، ففي عام 1934 أدى ارتفاع أسعار القطن في بورصة نيويورك إلى توريده كميات كبيرة كان متعاقداً عليها بأسعار كلفته خسارة قدرها 600 ألف جنيه ، غير أن حصوله على قرض من البنك الإيطالي بقيمة 100 ألف جنيه دون ضمان ، أنقذه من ضائقةٍ مالية شديدة .

وعاد الخط البياني إلى الصعود السريع حتى جاءت الأزمة الثانية عام 1949 ، وخلال السنوات الفاصلة بين الأزمتين ، كان فرغلي قد أصبح من كبار المساهمين في عدد كبير من الشركات وعضواً في مجالس إدارات عدد من البنوك والمؤسسات الاقتصادية ، وتوسعت شركة فرغلي للأقطان في أعمالها حتى وصلت أرباحها السنوية إلى ما يزيد عن مليون جنيه .

 

 

بورصة القاهرة

 وفي الأزمة الثانية ، عجز صغار ومتوسطو التجار عن توريد الكميات المطلوبة في التوقيتات المحددة لمجموعة شرائية عملاقة تم الاتفاق بشأنها بين محمد أحمد فرغلي وعلي يحيى وآخرين ، للإفلات من الحصار الذي يهددهم ، لجأ هؤلاء التجار إلى تصعيد الأمر بالشكوى إلى الحكومة ، وكانت المفاجأة في فتوى وزارة المالية بإمكان تسليم التجار لأقطان لا تطابق المواصفات .

ويروي ملك القطن في مذكراته ( محمد أحمد فرغلي - عشت حياتي بين هؤلاء ، الإسكندرية 1984 ) كيف اتفق كبار المصدرين على تحرك مضاد ، وفوضوا علي يحيى بالسعي إلى استمالة الملك والحصول على دعمه ، وكان إلياس أندراوس باشا هو الوسيط ، وطالب بأن يحصل الملك على ربع مليون جنيه ، أما الحاشية أو ما كان يطلق عليها الأوركسترا، فحصة أفرادها من الرشوة 25 ألفاً .

يؤكد فرغلي أن الملك فاروق مارس ضغوطاً على الحكومة الوفدية حتى تراجع وزير المالية زكي باشا عبد المتعال عن موقفه ، وبفضل الحيلة والتلاعب ، التف كبار مصدري القطن على مجلس الدولة ورئيسها آنذاك عبد الرزاق السنهوري باشا ، مع أن فتوى مجلس الدولة جاءت لمصلحة صغار التجار ، ولكن بعد فوات الأوان ، انتقلت القضية بعد ذلك إلى ساحة المحاكم وظلت مستمرة نحو 20 عاما ً، ليكسبها في النهاية فرغلي باشا ومن معه .

يقول محمد أحمد فرغلي باشا بوضوح رجل أعمال لا ينكر اللجوء إلى سلاح الرشوة : ( انتهت هذه الأزمة عام 1950 بعد ضجةٍ إعلامية كبيرة على صفحات الصحف ، وفي المنتديات العامة ، ولقد كسبت بعض الصحف نتيجة مساندتها لنا آلاف الجنيهات ، كما كسب المحامون مبالغ طائلة وسميت هذه العملية أيامها بعملية ( الكورنر ) .

ولم تكن تلك واقعة الرشوة الوحيدة التي كان تاجر القطن الشهير طرفاً فيها ، فقد حدث في دائرة مينا البصل بمحافظة الإسكندرية أن رشح أحمد فرغلي نفسه ، يومها دفع فرغلي باشا أكبر رشوة انتخابية وهي جنيه مصري كامل لكل من يمنحه صوته ، وكان مندوب الباشا يعطي الناخب نصف ورقة الجنيه فإذا خرج من اللجنة الانتخابية وأعلن أنه انتخب الباشا حصل على نصف الورقة الآخر ، وكان مندوب الباشا داخل اللجنة يعطي الناخب ورقة تؤكد أنه نفذ المطلوب ، وانتخب تاجر القطن ، ولم ينجح الباشا بل سقط أمام مرشح الوفد رغم الجنيهات الكثيرة التي دفعها ، لأن الوفد في ذلك الزمان كان يكسب في كل انتخابات لم تمتد إليها يد التزوير في النتائج .

 

 

وفي عام 1951 تعرض فرغلي باشا لأزمة ثالثة ، دفعته إلى البكاء أمام زوجته ، فقد تعاقد على بيع ربع مليون قنطار من القطن بسعر ثمانية جنيهات للقنطار ، لتصل قيمة الصفقة إلى مليوني جنيه ، بعد أن تم التعاقد ، رفض خبراء البورصة القطن الذي قدمه فرغلي لأنه ليس مطابقاً للمواصفات ، وعندما احتج المُصدِر الكبير على القرار ، تشكلت لجنة ثانية أيدت ما وصلت إليه اللجنة الأولى ، ويعترف محمد أحمد فرغلي بأنه دفع خمسة آلاف جنيه لأحد كبار الصحفيين ممن يملكون داراً صحفية ، ليكتب مقالاً موقعاً باسم فرغلي باشا ، حمل عنوان ( إني أتهم ) ، يتهم فيه مندوب الحكومة في البورصة بالتحيز
ولم ينقذ فرغلي باشا من المحنة الثالثة سوى حريق القاهرة
ففي أعقاب حريق القاهرة الذي شب في 26 يناير كانون ثانٍ 1952 ، سقطت الحكومة الوفدية ، وتشكلت وزارة جديدة قبلت القطن الذي سبق رفضه ، وبدلاً من خسارة المليونين ، حقق فرغلي ربحاً جديداً ، ثم وقعت ثورة يوليو 1952 التي أعادت رسم ملامح مصر سياسياً واقتصادياً .

في لقائهما الأول ، قال محمد أحمد فرغلي للرئيس جمال عبد الناصر : ( يا رفعة الرئيس كيف لا أؤيد تغييراً يسعى إلى تحقيق الأفضل ، لقد كنت أتوقع مثل هذا التغيير ، بدءاً من عام 1949 ، وكان كل خوفي أن تقع السلطة في أيدي الإخوان المسلمين ، فيعودوا بالمجتمع إلى الوراء ) ، غير أن الثورة حملت معها رياح التأميم الذي يرى الباشا أنه تم بطريقة عشوائية ، أما فرض الحراسة على أموال ممتلكات الأغنياء فهي في تصوره أقرب إلى الأعمال الانتقامية التي تنتهك كرامة الإنسان .

 

  • احمد عبود باشا - صانع الملوك

 

احمد عبود باشا

 ينتمي أحمد عبود باشا إلى جيل فرغلي باشا ذي الوردة الدائمة في عنق الجاكيت ( ملك القطن ) ، وسيد ياسين ( ملك الزجاج ) ، وإلياس أندراوس ( ملك البورصة )  وغيرهم ، غير أن أحمد عبود باشا ، يختلف عن أقرانه بأنه مليونير عصامي بدأ من القاع ، أو تحته قليلاً
ومن مجرد فتى يملك أبوه حماماً شعبياً في حي باب الشعرية ، أصبح رجل أعمال يملك إمبراطورية ضخمة من صناعة السكر والصناعات الكيميائية والورق والشحن والقطن ، تبلغ قيمته 100 مليون دولار .

يا لها من رحلة جمعت بين الاستثمار والسياسة والفساد ، ظل أحمد عبود يساعد والده في إدارة الحمام الشعبي حتى تخرج في المهندسخانة ، وعمل بعد تخرجه بأجر شهري لا يتجاوز خمسة جنيهات في وابورات تفتيش الفيكونت الفرنسي هنري غابرييل الشهير بالكونت دي فونتارس بأرمنت ، وفُصِلَ منه بعد فترة ليعمل مع أحد مقاولي الطرق والكباري بفلسطين ، وكان ينفذ بعض العمليات للجيش الإنجليزي ، وفي تلك الفترة تعرف إلى مدير الأشغال العسكرية للجيش الإنجليزي ونشأت بين عبود وبين ابنة هذا الضابط الإنجليزي المهم قصة حب انتهت بالزواج ، وهنا جاء التحول الكبير في حياة هذا المهندس الشاب ، حيث ترك العمل لدى المقاول واشتغل بالمقاولات ، وبمساعدة حميه أسندت إليه معظم أشغال الجيش الإنجليزي في فلسطين ومدن القناة حتى تكون لديه رأسمال استطاع به أن يشتري معظم أسهم شركة ثورنيكروفت Thornycroft للنقل بالسيارات بالقاهرة ، ثم شركة بواخر البوستة الخديوية ، حتى ظهر اسمه في عام 1935 في ذيل قائمة أغنياء مصر أيامها .

 

 

كان عبود أحد أولئك الذين استفادوا من ظروف الحرب العالمية الثانية ليحقق ثروة طائلة من أرباح أسطول السفن الذي كان يملكه ، في ظل ارتفاع أجور النقل ارتفاعاً خيالياً ، وهكذا اشترى معظم أسهم شركة السكر والتكرير المصرية التي كان يملكها رجل أعمال بلجيكي يدعى هنري نوس ، وعندما مات هنري نوس أسندت إدارة الشركة إلى ابنه هوغ ، لكن عبود العضو البارز في مجلس إدارة الشركة استغل هذه الفرصة وأوعز لأصدقائه الإنجليز ليقوموا بتجنيد الابن رغم أنفه ، وتم ذلك فعلاً ويذهب هوغ نوس ليشارك في الحرب ولا يعود منها ، فقد قتل في إحدى المعارك ، وخلا الجو لعبود لينفرد بإدارة شركة السكر رئيساً والعضو المنتدب لها ، وظل رئيساً لمجلس إدارتها حتى تم تأميمها في عام 1961 .

وكانت لأرمنت عند عبود هوى خاص ، حتى إنه اشترى تفتيش الكونت الفرنسي دي فونتارس ( 6000 فدان ) الذي كان يعمل أجيراً فيه - بعد هجرة الكونت إلى البرازيل ، واشترى أيضاً قصره بأرمنت ( سراي عبود ) ، وكان أحد قصور الخديو إسماعيل إذ بناه لاستضافة أوجيني إمبراطورة فرنسا أثناء زيارتها لافتتاح مصنعه بأرمنت الذي واكب افتتاحه افتتاح قناة السويس في نوفمبر تشرين ثانٍ عام 1869 .

اشترى عبود المكان الذي بدأ فيه رحلته موظفاً صغيراً ، بكل ما فيه من منشآت ومنازل ومخازن وحظائر بمبلغ 60 ألف جنيه ، وسجل هذه الأملاك باسم ابنته الطفلة مونا .

كان عبود أثناء زياراته السنوية القصيرة لأرمنت يقيم في القصر المذكور مع شقيقه مصطفى الذي بنى مسجد أرمنت العتيق ، وللاستمتاع بالأيام القلائل التي يقضيها مع زوجته وابنته ، بنى المليونير حماماً للسباحة وملاعب للغولف والبولو والإسكواش والتنس .

وقد اشترت شركة السكر هذا القصر من الحراسة بعد التأميم ، وبعد إلغاء الحراسة اشترى القصر الاقتصادي المصري مصطفى الزناتي أحد أبناء قرية الضبعية إحدى قرى مركز أرمنت والتي ضُمت أخيراً إلى مركز الأقصر .

امتدت إمبراطورية عبود باشا الذي أصبح أغنى أغنياء مصر إلى دائرة السياسة والرياضة والسياحة ، وكان يملك معظم أسهم شركة الفنادق المصرية ، إضافة إلى شركات الأسمدة في عتاقة والكراكات المصرية ، وغيرها من شركات الصناعات الكيميائية ، والتقطير ، والغزل والنسيج التي أنشأها قرب نهاية أربعينيات القرن العشرين  .

 

 

وفي تلك الفترة الزمنية ، كتب مقالاً صحفياً تحت عنوان ( كيف تصبح مليونيراً )  قدم فيه نصائحه وخلاصة تجربته ، وافتتح المقال بقوله :  ( ليس النجاح من الأسرار ، ولكنه أولاً وقبل كل شيء توفيقٌ من الله ، فقد تجتمع في شخصٍ كل مؤهلات النجاح من شهاداتٍ وجاه وشخصية قوية ، لكن سوء الحظ يلازمه فلا ينجح في أي عملٍ يقوم به ، بينما ينجح من هو أقل منه في الكفاءة والجاه ، وأضعف منه شخصية ) .

 

 

وبلغ من نفوذ عبود أنه أجبر طلعت حرب مؤسس بنك مصر وأشهر أعلام النهضة المصرية على الاستقالة من بنك مصر في 14 سبتمبر أيلول 1939 الذي أسسه بعرقه وجهده ، فقد اشترك عبود وفرغلي باشا ملك القطن في تنفيذ سياسة قوامها سحب ودائعهما من البنك بمعدل نصف مليون جنيه يومياً حتى بلغ السحب ثلاثة ملايين جنيه ، كما هددت الحكومة التي يترأسها حسين سري - صديق عبود باشا - بسحب ودائع الحكومة فاضطر طلعت حرب للاستقالة حتى لا يهتز مركز البنك وترك إدارته لحافظ عفيفي طبيب الأطفال ، وهو صديق أثير للإنجليز ولعبود .

في 13 يناير كانون ثانٍ 1944 ، أقام النادي الأهلي بالجزيرة حفلة شاي تكريماً لكل من أحمد عبود باشا وعبد الحميد عبد الحق ، بمناسبة تبرع عبود باشا بثلاثة آلاف جنيه لإتمام إنشاء حمام السباحة بالنادي ، وتقديراً لما قدمه الثاني للنادي والهيئات الرياضية الآخرى ، ووقف رئيس النادي أحمد حسنين باشا - رئيس الديوان الملكي - وألقى كلمة استهلها بقوله : ( إني بعد أن حنيت رأسي للراحل الكريم جعفر ولي باشا ( رئيس النادي الأهلي سابقاً ) أرفع رأسي بالشكر للرجلين الكريمين الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير الشؤون الاجتماعية السابق وأحمد عبود باشا ) ،  ثم أشار إلى ما كان من اعتماد الوزير عبد الحق ثلاثة آلاف جنيه مساهمة في إنشاء حمام السباحة في النادي الأهلي ، وإلى تبرع عبود باشا بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه أخرى للغرض نفسه .

تولى أحمد عبود باشا رئاسة النادي الأهلي لمدة 15 عاماً ( 19 فبراير شباط 1946-19 ديسمبر كانون أول 1961 ) فاز فيها دائماً بالرئاسة بالتزكية ، وكانت تلك الفترة من أزهى عصور النادى الأهلي ، حيث حصل خلالها على تسع بطولات متتالية للدوري من 1947 حتى 1956 ، كان عبود باشا ينفق على النادي من جيبه الخاص رافضاً أية إعانة من الحكومة ، وهو الذي بنى حمام السباحة من جيبه الخاص ، وهدم مدرج الدرجة الثالثة القديم وبنى المدرج الحالي ، ثم بنقوده ونفوذه اقتطع الجزء الكبير من نادي الفروسية ليطل النادي على كورنيش النيل  .

وقد أنشأ عبود باشا عام 1939 أكبر وأعلى عمارة في مصر كلها في ذاك الوقت ، وكانت تتكون من 13 طابقاً ، وكان الناس يزورونها ليروا هذا البناء الشامخ في شارع المدابغ الذي أصبح فيما بعد اسمه شارع شريف في وسط القاهرة ، وهي تقع على ناصية شارعي شريف وقصر النيل ، وأطلق عليها اسم  عمارة الإيموبيليا .  

 

عمارة الايموبيليا

 تدريجياً ، بدأ عبود باشا يشعر بالقلق على الاستقرار السياسي في مصر ، وهو ما يمس بالضرورة مصالحه المالية والاقتصادية ، ويقول محمد حسنين هيكل فى كتابه (ثورة يوليو خمسون عاما ) السؤال الأول ملك تحت الحصار!، مجلة وجهات نظر، عدد يوليو 2002 :

( ولم يكن الملك فاروق وحده المصاب بالقلق لما آلت إليه الأحوال - بل كان هناك غيره أصيبوا بالأرق إلى جانب القلق ، لأنهم أصحاب مصالح حقيقية في مصر يخشون عليها ويحرصون على ضمانها ، ولذلك كان اقترابهم من السياسة منطقياً ، وفي الظروف الطارئة فإنه أصبح حيوياً ، وكان أول هؤلاء هو المالي الكبير أحمد عبود ( باشا ) .

كان عبود ( باشا ) رجلاً عالي الكفاءة في مجال الأعمال ، وكان يقول عن نفسه إنه ( يلمس التراب فيحيله ذهباً ) ، غير أنه كان يعرف أن تحويل التراب إلى ذهب يحتاج إلى حماية تسبق وتجاري وتلاحق حركة الذهب .

وهنا كانت في حاجة إلى القرب من السلطة إلى أي درجة يستطيع بلوغها
وقلت مرة لعبود ( باشا ) : ( إنه رجلٌ يستحيل عليه أن يكون ملكاً لأنه لا يحوز المواصفات اللازمة ) ، لكنه يحلم بمقدرة صنع الملوك لأنه يحوز المصالح المُلزمة ، وذلك وضعٌ شديد الخطر على البلد وعليه أيضا ، وقد سمعني الرجل مطرقاً برأسه متأملا ) .

قامت ثورة 23 يوليو 1952 لتتغير بعدها الخريطة السياسية والاقتصاية في مصر ، وفي 15 أغسطس آب 1955 ، وقعت أول مواجهة بين الثورة المصرية والرأسماليين ، إذ جرى فرض الحراسة على شركة السكر ، التي يمتلكها أحمد عبود باشا .

وبعد صدور قوانين يوليو الاشتراكية عام 1961 ، آثر عبود الهجرة إلى أوروبا لإدارة أعماله بجزء من أموال تمكن من تهريبها إلى هناك ، وكان قد علم أو أحس بأن الدولة مقبلة على التأميم ، وكانت بالصدفة المحضة كل بواخره في عرض البحر ما عدا باخرتين واحدة في ميناء السويس وأخرى بالإسكندرية ، فأصدر تعليماته بسفر باخرة إلى جدة وأخرى إلى بيروت في انتظار أوامر أخرى ، ثم اتصل لاسلكياً بباقي بواخره في عرض البحر بعدم العودة إلى الإسكندرية الآن ، ثم استطاع أن يحول أمواله السائلة بالبنوك إلى بنوك سويسرية بطريقة أو بأخرى ، ثم سافر إلى نابولي في إيطاليا ليستدعي بواخره واحدة بعد الأخرى ليبيعها هناك ، وأصبحت لديه أصولٌ سائلة تكفيه هو وابنته الوحيدة .

 

 

مارس عبود باشا نشاطه التجاري في أوروبا ، وحقق نجاحاً كبيراً كتاجر ومستشار اقتصادي ، إلى أن وافاه الأجل المحتوم في لندن في مطلع يناير كانون ثانٍ 1964 بعد أن هزمته أمراض القلب والكُلى .

اسم عبود باشا وثراؤه لم يشفعا لورثته ، أحمد عبود محمد علي ، ونادية محمد علي وأولاد ابنته الوحيدة مونا وابنة شقيقته زينب محمد شوقي ، الذين حصلوا على حكم نهائي في يناير كانون ثانٍ 2006 بعد رحلة تقاضٍ استمرت 30 عاماً باسترداد عقارهم المهجور بجليم بالإسكندرية البالغة مساحته 4400 م2 والذي يتجاوز ثمنه 50 مليون جنيه ، الا ان العقار والذى تسيطر عليه رئاسة الجمهوريه لم يتم تسليمه الى  الورثه حتى الان .

 

  • عبد اللطيف ابو رجيلة - امبراطور الاتوبيس

 

عبد اللطيف ابو رجيلة

ارتبط اسمه بالعصر الذهبي لحافلات النقل العام في مصر ، إنه عبد اللطيف أبو  رجيلة ، ابن مدينة إسنا الصعيدية ، المولود في أم درمان في السودان ، والذي تعلم وعمل في البداية في القاهرة ، واكتسب الخبرة العلمية والعملية في لندن وروما ، فكانت الصفقة الأولى في إيطاليا ، ثم حقق الشهرة والنجاح في القاهرة من جديد ، قبل أن يتوزع نشاطه بعد التأميم بين إيطاليا والسودان ، لتنتهي الرحلة في مصر وسط الحسرة على الحلم الضائع ، رحلةٌ زاخرة بالتفاصيل المثيرة .

بعد التعليم الأولي في السودان ، جاء أبو رجيلة إلى القاهرة ، والتحق بالمدرسة السعيدية الثانوية ، وفي الجامعة التحق بكلية التجارة ، وكان يعول نفسه بممارسة عمل تجاري على نطاق ضيق مع بعض أقاربه ، عمل عبد اللطيف أبو رجيلة بعد تخرجه في بنك مصر ، وأخذ يتعلم ويستفيد من تجربة أستاذه طلعت حرب .

كان أبو رجيلة يعتبر نفسه تلميذاً في مدرسة طلعت حرب ، الذى لم يصل يوماً إلى قائمة أغنى أغنياء مصر بالرغم من دوره الاقتصادي الكبير ، وكان يؤمن بأن النجاح ، كهدف ينبغي أن يسبق جمع الثروة لدى أي رجل أعمال ، وأن المال يجب أن يجري في مشروعات طول الوقت ، ولا يتكدس في البنوك لحظة واحدة .

بدأ رحلة الاستيراد والتصدير برأسمال متواضع: 34 جنيهاً ، اشترى أبو رجيلة آلة كاتبة ومكتباً وطوابع بريد ، وعيّن موظفاً ليعاونه بمرتبٍ لا يزيد عن خمسة جنيهات في الشهر ، وانطلق في مشروعه الجديد .

يقول في حديثٍ له مع سكينة السادات نشر فى مجلة المصور ، مارس آذار 1959 : ( كانت السنة الأولى في هذا العمل سنة كفاح بل سنة حرب ،  واجتزت معارك السنة الأولى ، وبدأت معارك السنة الثانية ، وبعد ثلاث سنوات أخرى ،  سارت سفينة العمل في الطريق الصحيح ، وبدأت تتجه إلى بر الأمان
"
ومضيت في طريقي هذا حتى غمرتني الملايين كما يقولون ، وما زلت ،  وأنا في غمرة ملاييني أذكر رأسمالي العظيم الذي تدفقت منه هذه الملايين ،  لقد كانت أربعة وثلاثين جنيهاً عظيمة حقاً ، لأنها أنبتت أضعاف أضعافها ، كأنها الحبة المباركة التي وصفها القرآن الكريم بأنها أنبتت سبع سنابل ، في كل سنبلة مئة حبة ) .

عملٌ شاقٌ ونجاح وصعود ، ثم إفلاس وهبوط ، كانت ثروة أبو رجيلة كلها في موانيء إيطاليا ممثلة في كميات كبيرة من البضائع ، وضاع كل شيء في غارات الحرب العالمية الثانية التي طالت بالدمار الأغلب الأعم من الأراضي الإيطالية .

أصبح وفق تعبيره الساخر ( على الحديدة ) ، لكنه لم يعرف اليأس ، وعاود الصعود إلى القمة .

عاش أبو رجيلة في إيطاليا سنواتٍ طويلة قبل ثورة يوليو 1952 ، وتزوج من إيطالية تدعى لندا ، كانت صديقة دراسة لابنة أسرةٍ مصرية تعيش هناك ، ويشير أبو رجيلة إلى أن لندا صعيدية إيطالية مثلما هو صعيدي مصري ، فهي من منطقة كالابريا جنوب إيطاليا  ، ظل أبو رجيلة من العازفين عن الزواج إلى أن التقى المرأة التي تعلق بها قلبه فتزوجها ، ولكن لم يرزقهما الله بأطفال  .

عاد إلى مصر للمرة الأولى عام 1949 قبيل نهاية عام 1949 ، بعد انقطاع تجاوز 12 عاماً ، اشترى قطعة أرضٍ في وسط القاهرة ، تبلغ مساحتها ستة آلاف متر تحيط بها شوارع سليمان ومعروف وشمبليون وعبد الحميد سعيد ، كما اشترى مزرعةً تبلغ مساحتها 400 فدان حدائق في منطقة عين شمس ، لكنه عاد إلى إيطاليا من جديد في نهاية عام 1952 ، بعد شهورٍ قليلة من ثورة يوليو .

استدعاه عبد اللطيف البغدادي، وزير الشؤون البلدية عام 1954، وطلب منه أن يتولى أتوبيس القاهرة ، فوصل المرفق على يديه إلى مستوى غير مسبوق من النمو ، والنظام ، والنظافة ، والكفاءة في الأداء ، وبلغ حداً لم يكن يتخيله أحد ، وكان ينقل 13 مليون راكب شهرياً ، من خلال شركة كانت تضم 4 آلاف موظف .

ولا بد أن الذين عاشوا تلك الأيام ، يذكرون جيداً  كيف كان مرفق النقل الداخلي في العاصمة وقتها ، على يد الرجل ثم كيف أصبح بعد ذلك .

بعد عامين من بدء العمل ، كان لدى خطوط القاهرة أكثر من 400 سيارة أتوبيس تقدم خدمات راقية وبكفاءة ، وفق مواعيد منضبطة ، ولم يكن الزمن الفاصل بين كل سيارتين في الخطوط المزدحمة يتجاوز ثلاث دقائق ، ينفذها سائقون ومحصلون ومُدرَبون ، وكان هناك تفتيشٌ صارم يحول دون الاستهانة بالراكب والإساءة إليه وإهدار وقته ، وجراجات حديثة لإيواء السيارات وصيانتها في ورشات متطورة .

بنى أبو رجيلة أكبر جراجين في مدينة القاهرة ، أولهما عند مدخل القبة على مساحة 13 فداناً ، وثانيهما بالقرب من نفق الجيزة ، فضلاً عن جراج ثالثٍ كان مِلكاً لشركة أمنيبوس العمومية بشارع إسطبلات الطرق في حي بولاق ، اشتراه أبو رجيلة لينضم إلى شركته العملاقة .

وكان أبو رجيلة يتخفى ويركب الأتوبيس مرة كل شهر ، ليرى كيف يتعامل موظفو شركته مع الركاب ، واحتد ذات مرةٍ على سائق تجاوز محطة من المحطات المقرر له أن يقف فيها  .

وحين تولى عبد اللطيف أبو رجيلة رئاسة نادي الزمالك عام 1956 ، حصل النادي على بطولة الدوري لأول مرة في تاريخه ، منذ نشأ عام 1911 ،  وفي تلك الفترة ارتفعت ميزانية النادي من 6000 جنيه إلى 18000 جنيه ، ودخل الزمالك مرحلة جديدة انتعش فيها وتوسعت المنشآت بشكلٍ ملحوظ .

تبرع أبو رجيلة بمبلغ كبير لبناء مقر نادي الزمالك في ميت عقبة عام 1958 ، بعد أن كان الزمالك مجرد ثلاث غرف ومدرج خشبي مكان مسرح البالون وإلي جواره نادي الترسانة مكان السيرك القومي على فرع النيل الصغير بالعجوزة ، وعندما بدأ الإعداد لبناء الاستاد حدث عجز في الميزانية المقررة للبناء ، فلجأ أبو رجيلة إلى طريقة ذكية ، فقد كانت هناك شركتان تتنافسان على توريد البنزين والسولار إلى أسطول شركة أتوبيسات القاهرة التي يمتلكها عبد اللطيف أبو رجيلة ، فبادر إلى الاتصال بقيادات هاتين الشركتين في محاولة لتخفيض سعر البنزين ونجح في تخفيض المبلغ بمقدار 50 مليماً في سعر اللتر ، ليتوفر من خلال الملاليم مبلغ وصل إلى أكثر من عشرة آلاف جنيه ، ليتم بناء مدرجات الدرجة الثالثة في النادي ، ويفتتح ملعب الزمالك بلقاء مع فريق دوكلا براغ التشيكي في مباراةٍ امتلأت فيها مدرجات الزمالك عن آخرها ، وانتهت بفوز الزمالك بثلاثة أهداف نظيفة .

جعل أبو رجيلة من مقر النادي قطعة من الجنة ، وسط حقول ميت عقبة ومنازلها العشوائية آنذاك ، وعندما أدخل المياه إلى نادي الزمالك لم ينسَ أن يمد المياه لسكان ميت عقبة الفقراء مجاناً على نفقته .

بعد حرب فلسطين عام 1948، لم يتردد في تقديم الدعم للجيش المصري ، وكتب في مذكرةٍ رفعها للوزيرين عبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم ، رداً على اتهاماتٍ باطلة وُجِهَت إليه : ( لا شك أنه يعز على أي مواطن صالح أن يجد نفسه موضع التشكيك والاتهام ، وخصوصاً إذا كان هذا المواطن من رجال الأعمال الذين يعتمدون على الثقة باسمهم ) ، وعندما طلبت منه وزارة الحربية تمويل صفقات الأسلحة التي كان الحظر مفروضاً عليها بعد الحرب ، بادر بالاستجابة ، وعندما تعرضت مصر للعدوان الثلاثي عام 1956 ، بادر إلى وضع حافلات شركته تحت تصرف القوات المسلحة وتكفل بمسؤولية تموينها ودفع أجور سائقيها .

وفي 26 أغسطس آب 1957، كتب إقراراً قدمه إلى الحكومة المصرية ، جاء فيه :

"بما أنني سبق أن تقدمت إلى السلطات المختصة في إيطاليا بطلب تحويل إيراداتي إلى مصر ولكن هذه السلطات رفضت هذا الطلب بحجة أنني لم أقم باستيراد باقي المبالغ المطلوبة لي من وزارة الحربية والناشئة عن العقود التي أبرمتها معها بشأن استيراد أسلحة من إيطاليا والتي كنت مُموِلاً فيها ، "وبما أنني قد أعدت السعي للموافقة على إجراء هذا التحويل في صورة بضائع أقوم بتصديرها إلى مصر وقد قمت فعلاً باستيراد ماكينات لأعمال الطرق في حدود مبلغ خمسة وثلاثين ألف جنيه في عام 1955 ، وما زلت أسعى لإتمام هذا التحويل في صورة بضائع على نطاق أوسع وقدمت بذلك طلباً إلى السلطات الإيطالية والمصرية لاستيراد بضائع في حدود مئة ألف جنيه بدون مقابل
"
وبما أنني سبق أن أثبتُ في إقرارات الضريبة على الإيراد العام إيراداتي في الخارج ، "وإظهاراً لتعاوني الكامل فإني أقرر بموجب هذا أنني على استعداد لتحويل جميع إيراداتي في إيطاليا إلى مصر ، وإذا لم ينجح مسعاي في ذلك فإني سأطلب من السلطات المصرية معاونتي لدى السلطات الإيطالية للحصول على هذا التحويل ) ، والإقرار واضحٌ في دلالته على موقف رجل أعمال يملك حساً وطنياً عالياً ، ويضع المصلحة العامة فوق مصالحه الشخصية ، غير أن كل ذلك لم يشفع له في شيء ، حين عصفت به قرارات التأميم ، في مطلع الستينيات ، فانتقل للإقامة في روما وهو يقترب من سن الخمسين ، وأثناء سنوات غربته ، قدم أبو رجيلة تجربة ناجحة في الخرطوم ، واستدعى بيت خبرة بلجيكي الجنسية ليضع حلولاً عملية لمشكلة المرور التي تعاني منها العاصمة السودانية .

عاد ابو رجيلة إلى مصر في منتصف السبعينيات ، وعاش بقية عمره حزيناً على إهدار تجربته ، كفرد ، وإهدار تجربة بلد بكامله ، وهي تجربة كانت في مطلع الخمسينيات لا تزال تتلمس الطريق ، وقد كانت هناك بدايات قطاع خاص ينمو ، وبدايات أحزاب تتحرك ، فجاء مَن وأدها في مهدها .

المراجع :

  • (  موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ) ( د. عبد الوهاب المسيري ) .

  • ( جوانب غير معروفة من تجربة محمد علي باشا ) (مجلة الوحدة ) ( د. ذوقان قرقوط ) .

  • ( النخبة البرلمانية في الصعيد ) (مجلة منبر الشرق ) ( أحمد عبد الرازق ) .

  • ( سنوات الهوان من محمد علي إلى فاروق ) ( جريدة السياسي المصري ) ( عبد القادر السعدني ) .

  • ( الطغاة يجهلون الجغرافيا ) ( مجلة العربي ) ( شوقي رافع ) .

  • ( الأوقاف والسياسة في مصر ) ( د. إبراهيم البيومي غانم ) .

  • ( مجلة المنار ) ( محمد رشيد ) .

  • ( قصة الثروة في مصر خلال 200 عام ) ( احمد كمالي ) .  

  • (  أزمة الكساد العالمي الكبير وانعكاسها على الريف المصري ) ( على شلبى ) .

  • ( محمد أحمد فرغلي "ملك القطن" ) سلسلة رواد الاستثمار - مركز إعداد القادة لإدارة الأعمال ( مصطفى بيومي ) .

  • ( مجلة تايم الأمريكية ) .

  • ( عبد اللطيف أبو رجيلة "إمبراطور الأتوبيس" ) ( مصطفى بيومي ) .