في الثلاثينيات من القرن الماضي قرر أستاذ الأدب الإنجليزي البروفيسور ملفن تولسن الذي
يعمل بجامعة ويلي الصغيرة للسود بولاية تكساس الأمريكية أن يغير الصورة التقليدية عن السود
في أمريكا، وأن يطالب بحقوقهم، ولكن بصورة جديدة وغير تقليدية، وذلك عن طريق قيامه
بتكوين فريق للمناظرة من طلابه الصغار، ومن ثم بدأ في تعليمهم قيم الحوار والمناظرة وال أ ري
وال أ ري الآخر، وبعدها بدأ في الدخول في منافسات مع الجامعات الأخرى، إلى أن وصل الى
مناظرة جامعة هارفارد العريقة والتغلب عليها، ليثبت أن السود ليسوا فئةً أقل من البشر، وأن من
حقهم المساواة مع البيض في حقوق التعليم والصحة والرعاية وغيرها من الحقوق، ومن الحوا ا رت
والكلمات ال ا رئعة التي أوردتها الطالبة "سامانثا" أحد طالبات فريق المناظرة، في دفاعها عن حقوق
السود في أمريكا، "الدولة تنفق حاليا على تعليم الطفل الأبيض خمسة أضعاف ما تنفقه على
تعليم الطفل الملون، وهذا يعني أن طفلا ما يحصل على كتب أفضل من طفل آخر بسبب لون
بشرته ، أقول لكم: إن هذا عار، كما ان خصمي يقول: أن اليوم ليس الوقت الملائم كي يرتاد
البيض والسود ذات الكليات، ويتشاركوا نفس الحرم الجامعي، ويجلسوا جنبا إلى جنب في
الفصول الد ا رسية، وأنا بدوري أسأله ، حسنا.. هل تتكرم بإخباري متى سيأتي ذلك اليوم؟ هل
سيأتي في الغد؟ في الأسبوع القادم؟ بعد مائة عام؟ ألن يأتي أبدا؟ وأقول له: لا! فالوقت من
أجل العدالة، ومن أجل الحرية، ومن أجل المساواة هو دائما وأبدا الآن. في هذه اللحظة
ال ا رهنة”.
إن القصة الحقيقة التي تم عرضها من خلال الفيلم الأمريكي "المحاورين العظماء" ، جعلتني
أتوقف كثي ا رً مع هذه القصة لاستخلاص الكثير من الدروس والعبر، أولها أهمية ما قام به
البروفيسور تولسن، من زرع الثقة في نفوس طلابه، وايمانهم بقضيتهم ورسالتهم، وتدعيمهم
وتعليمهم قيم الحوار والحجة والبرهان، ثانياً أن الحوار من الطرق ال ا رقية للحصول على الحقوق
بدلاً من العنف والقتل والتدمير، ثالثاً أن هناك نوعان من الحوار، حوار للهدم وهو الذي يهدف
فيه كل طرف للفوز والانتصار على الطرف الآخر، لكن عاقبته تكون الخسارة للطرفين، والنوع
الآخر هو حوار البناء، ويكون هدفه النهائي هو الوصول الى الحقيقة، وهذا الحوار هو الذي
يُبنى عليه السلام الداخلي للفرد، وعبر قنواته يعم السلام على المجتمع.
أما النقطة المحورية التي أقصدها من خلال عرضي لهذه القصة هو ضرورة الاستفادة من هذه
التجربة التي توضح أن الحوار هو الطريق الآمن للتواصل والحصول على الحقوق، وأن دوامات
الجدل والص ا رع والحروب تؤدي الى خسارة جميع الأط ا رف، والأهم هو أن ندرك أن المسا ا رت
الصحيحة للحوار هي التي تمكننا من الوصول الى الحقيقة وتحقيق النتائج الطيبة، لكن حين
يحل الجدل والخلاف مكان الحوار، تصبح الأركان والدعائم الأساسية للمجتمع عُرضة للخطر؛
وتتحول الكثير من النقاشات الى مفهوم "الإرهاب الفكري"، الذي يتسم بفرض ال أ ري، ويخلو من
أي أسلوب للحوار ال ا رقي والمتحضر، فمن ليس معي فهو ضدي، ومن لا يتبني وجهة نظري،
فهو يمثل الاتجاه المضاد والمعادي، والأخطر أن كثير من الحوا ا رت، قد تبدأ بكلمات بسيطة،
لكنها تنتهي بخلاف، ومشاعر من التخاصم والك ا رهية المتبادلة بين الطرفين، وللتعرف على
الواقع بصورة أوضح، يمكننا أن ن ا رجع نتائج الحوا ا رت التي تحدث في مجتمعنا، لنجد أن الكثير
من الحوا ا رت لا تنتج سوى الخلافات، والص ا رعات، والانقسام بين أط ا رف المجتمع، ولا نخرج
منها بجديد أو بنتائج مجدية يمكن أن نلمسها على أرض الواقع، بل قد تتسبب في غرق التماسك
الاجتماعي الذي يتميز به مجتمعنا العريق.
انتهت مناظرة طلاب البروفيسور تولسن، وقد استطاعوا أن يثبتوا حقوقهم بأرقى السبل وأعلاها،
لكن لكي نستفيد من هذه التجربة الحوارية ال ا رئعة، ونستطيع تطبيقها في مختلف دوائرنا
الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية وفي مختلف مجالات الحياة، يجب أن ندرك جميعاً ضرورة
أن يكون للحوار هدف، وأن نسعى جميعاً للوصول الى الحقيقة لا الى تحقيق الانتصا ا رت
المزيفة، وأن نؤمن جميعاً بقضايانا الأساسية، وضرورة أن نثق في قد ا رتنا وأنفسنا، وأن نلتزم
بضر و ة ر احت ا رم الطرف الآخر وعدم إقصائه، والتعبير عن حقوقنا بكل تحضر ورقي ودون
تعصب أو تطرف أو إرهاب، فما أرقى وما أفضل أن نحصل على حقوقنا بالطرق السلمية
والمشروعة، ومن المهم أن نبحث جميعاً عن النقاط المشتركة بيننا والتي تجعلنا أكثر قوة ووحدة،
والتي تفوق بكثير ما بيننا من نقاط للخلاف، والأهم من كل هذا هو قدرتنا ورغبتنا الحقيقة في
تطبيق هذه المبادئ ال ا رقية للحوار والتي تتفق مع مفاهيمنا وتعاليمنا الدينية.
بقلم الكاتبة/ غنيمة حبيب
g.h.karam@hotmail.com