يشيع في اللغة الغربية وأدبياتها الثقافية عديد من الترجمات لكلمة أيديولوجي الانجليزية من بينها ترجمتها بمعناها ومدلولها الفكري وتسميتها دوجما.

 ووصف أنصار الأيديولوجية بأنهم أنصار القوالب الثابتة وأصحاب القوالب الجامدة ويصل الحال إلي اتهامهم بأنهم عبدة النصوص وكذلك بأنهم عبيد الثوابت لا يملكون القدرة ولا الجرأة حتي في مناقشتها والحوار حولها وبالتالي فإن موقفهم من الرأي الآخر يندرج فقط تحت بند تسفيهه وإهمال شأنه وكأنه من سقط المتاع ومن هنا جاءت حدة الصراع الايديولوجي العالمي حيث كان الغرب وأمريكا أصحاب الايديولوجية الرأسمالية يوصفون من قبل الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي بـ الشيطان الأكبر وكانت الشيوعية بالنسبة للرأسمالية هي العدو الأول وبحكم حاجة الامبراطوريات والدول الكبري إلي عدو دائم يمكنها من اثارة مشاعر الخطر والتهديد بين مواطنيها لحشدهم وتكتيلهم سياسيا وتحفيزهم اقتصاديا لمواجهة الخطر وصيانة الأمن القومي وكان الاختيار الأمريكي والغربي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أن يكون الإسلام هو العدو الأول‏,‏ وتحركت أعاصير الأحداث المخططة والمرسومة لتصب بعنف وقسوة في هذا الاتجاه ومع الأزمة العالمية المالية وخسائرها الكارثية وتهديدها العنيف للأمن القومي للقوي العظمي ظهر في الأفق ملامح للحديث المكثف عن الخطر الداخلي الذي تبلورت ملامحه في مخاطر ومفاسد المؤسسات المالية الديناصورية والبنوك العملاقة بحكم عجز الحكومات عن ترويضها ومنعها من الممارسات الضارة التي أصبحت لا تهدد فقط الاقتصاد بل تهدد كامل كيان الدولة واستقراره‏.‏

ومع سطوة الاقتصاد الورقي علي العالم وضخامة ما يديره من أموال واتساع نطاق أنشطته الخارجة بصورة شبه تامة عن سيطرة الدولة ورقابتها وما يترتب علي ذلك من الضخامة الفائقة لفاتورة تكاليف الأزمات الكبري وخسائرها العاصفة والمدمرة وتأكد ذلك بشكل قاطع مع الأزمة المالية الكارثية الأمريكية الأوروبية وما تسببت فيه من ركود عظيم وفاتورة المساندة والدعم والتحفيز الباهظة التي تحملتها الخزائن العامة للدول الكبري والبالغ تقديرها نحو‏12‏ تريليون دولار وجه الجانب الأعظم منها لمنع المؤسسات المالية الديناصورية والبنوك العملاقة وشركات التأمين العنكبوتية الممتدة عبر خريطة العالم من الافلاس والانهيار في ظل الثمن المالي والاقتصادي الفادح للسماح بإفلاسها وتصفيتها وكانت تكاليف المساندة والدعم في أمريكا‏1.5‏ تريليون دولار وكل ذلك بخلاف ما تم حشده وتجميعه من رؤوس الأموال الخاصة لمساندة عدم التعثر ورفع رأس المال وزيادة المخصصات لمواجهة الديون الرديئة يضاف لذلك الخسائر الضخمة والهائلة للمساهمين والأصول المسمومة بالغة الكبر التي مازالت حتي الآن غير طافية علي سطح الأحداث وتخضع لتسويات معقدة وشائكة تشارك فيها الكثير من الأطراف المالية والمؤثرة علي امتداد خريطة العالم ثم هناك قدر كبير من اتفاقيات تسوية مديونيات متعثرة لشركات ودول دخل تنفيذها في دوائر الشك والريبة وفي مقدمتها ما يحدث للمديونية العامة لليونان ومديونيات بنوك أيسلندا التي أفلست والمديونيات المستحقة علي دول وسط أوروبا ومنشآتها‏.‏

وقد تركزت أحاديث وتعليقات قادة الدول الصناعية الكبري حول ضرورة ضبط النظام المالي العالمي وحتمية الرقابة اللصيقة علي شركاته ومؤسساته المالية ومصارفه وشركات التحوط الاستثماري وشركات الأوراق المالية بما يضمن عودته مرة أخري إلي المسار المنضبط ويتلافي الانفلات الذي رسمته ودفعت إليه الايديولوجية الأصولية الرأسمالية‏,‏ وتم الحديث علي امتداد سنوات حتي ما قبل الأزمة الأخيرة عن بناء آلية للإنذار المبكر لمواجهة المشكلات المالية العالمية قبل أن تتصاعد وتتفاقم ووصل الأمر مع الأزمة وخلال الأيام الماضية إلي مطالبة جورج براون رئيس وزراء بريطانيا بإصدار دستور عالمي يحكم نشاط وممارسات النظام المالي وتلتزم بقواعده وقيوده الحاكمة كل دول العالم ووفقا لاجتماعات قمة الثماني المتوالية واجتماعات قمة العشرين فإن النظام المالي العالمي يجب أن يخضع لدرجة عالية من الشفافية ولدرجة عالية من الإفصاح والإبانة عن معاملاته وألا تكون قاعدة سرية الحسابات المصرفية غطاء للتهرب الضريبي وغطاء لتسهيل غسل الأموال الناتجة عن الجريمة المنظمة والناتجة عن النهب والسلب لثروات الدول والشعوب خاصة في الدول النامية والأهم من كل ذلك أن تلتزم معاملات المال بقواعد السلامة والأمان المصرفي وبالقيود المصرفية الراسخة لتقديم القروض ليس فقط للأشخاص وللشركات ولكن أيضا للدول وما يتبعها من أنشطة تملكها وتدور في فلكها‏.‏

ومع تصدر أمريكا للأزمة المالية العالمية ومسئولية نظامها المالي الواضحة عن صناعة الأزمة بكل مفرداتها وعناصرها فإن سعي الرئيس الأمريكي باراك أوباما لاصلاح تشريعي شامل يحقق الرقابة الفعالة علي أعمال المال وأنشطته ومؤسساته وشركاته وعلي أسواق المال بكل مشتملاتها ومكوناتها يشكل نقلة حقيقية في الفكر الرأسمالي العالمي يعيد ضبط بوصلة الأحداث ويعيد الهيبة والاحترام لدور الدولة في النظام المالي والأكثر أهمية أنه يعد ثورة جديدة في مواجهة كل سياسات التحرير المفرطة للقطاع المالي وتدني الرقابة والمتابعة الرسمية بكل صورها وأشكالها تحت وهم القوة الخفية للأسواق وقدرتها علي التصحيح والتصويب مع الزعم بتعطيل فعالية هذه القوة مع تدخل الدولة بأي صورة وبأي شكل من الأشكال وهو المنطق الكاذب الذي منح الأجهزة الرسمية المسئولة عن الرقابة والمتابعة الحجج اللازمة للتخلي عن مسئوليتها وواجباتها وصنع مناخا سياسيا عاما لدي أعلي سلطات اتخاذ القرار في الدولة لتبرير هذا التقاعس ومساندته ودعمه حتي وصل الأمر وفقا لما رصدته مجلة النيوزويك الأمريكية ومجلة الايكونوميست البريطانية إلي تعنيف كبار المسئولين التنفيذيين بالجهات المختصة في أمريكا للموظفين عند ملاحقتهم لأخطاء وممارسات مالية فاسدة ومنحرفة وصولا إلي إيقاف التحقيقات في تستر فج علي تجاوزات فاضحة وخطيرة‏.‏

وما يطرحه أوباما من إصلاح تشريعي يكشف عن حاجة ضرورية لاصلاحات تشريعية مماثلة في كل دول العالم خاصة في الدول النامية التي لا تحتمل اقتصاداتها الهشة الوقوع فريسة لأزمة مالية عاتية ومدمرة ويستوجب تكثيف رقابة البنوك المركزية علي أعمال المؤسسات المالية والبنوك وعدم التهاون مع الأخطاء والممارسات الفاسدة الصغيرة والكبيرة واتخاذ الاجراءات الحازمة في مواجهتها اضافة للتدقيق في تجاوزات كبار المسئولين بالبنوك وفي تجاوزات شركات الأوراق المالية وذلك بالاشتراك مع الهيئات الرقابية المالية المتخصصة والاهتمام المكثف بأي صورة من صور الانحراف في معاملات البورصة والتدقيق الشديد في معاملات المشتقات المالية بحكم ما أحاط بمعاملاتها من شبهات صادمة وفادحة كسبب رئيسي من أسباب الأزمة العالمية وكذلك حتمية التدقيق في القروض العقارية وعمليات توريقها بكل صورها وأشكالها‏.‏