يصنع البشر علي امتداد التاريخ أصناما من الأيديولوجية ويقيمون حولها سياجا حصينا من الفلسفات والأفكار والثوابت المقدسة ومع تبني سلطة اتخاذ القرار العالمي لها تتحول إلي عقيدة.
ويصبح المخالف لهذه العقيدة في حكم المرتد والمارق الذي يحرم من نعيم جنات النظام العالمي ويتعرض للملاحقة والتأديب والعقاب بجميع الصور والاشكال, ومع سطوة وترهيب وترغيب القوة النافذة المسيطرة علي ادارة شئون العالم تصبح تلك الايديولوجيات بمثابة الدين العالمي الجديد الذي يملك القدرة علي استعباد كل العالم والتحكم في مصيره وتوجهاته بغير حاجة كبيرة للجيوش والاساطيل وقاذفات القنابل المحرقة والمدمرة والنووية طالما أن النظام العالمي يملك من المنظمات والمؤسسات الدولية وايضا من المنتديات والمحافل المدنية والخاصة مايمكنه من فرض الروشتات المحددة لاستراتيجيات التنمية وسياساتها وأولوياتها وصولا لفرض التفصيلات الدقيقة والفرعية التي تضمن اختراق العقل والضمير وتشكيل القيم والمعتقدات والثقافة حتي تكتمل منظومة الاختراق والسطوة والسيطرة اعتمادا علي قوي الداخل التي تنساق بعقلية القطيع إلي كل مايضرها ولاينفعها وتبتعد يوما بعد يوم عن كل مايفيدها وينفعها ويصنع طموحها وكيانها وذاتيتها.
وميزة الأزمات العالمية الكبري عندما تكون قاسية ومريرة وعندما تجرف في طريقها الأخضر واليابس أنها تتيح للعالم لحظة إفاقة يخرج خلالها من حالة الموت السريري التي تدفعه إليه الايديولوجيات القابضة علي السلطة والسلطان والمتحكمة في مصائر ومقادير الأوطان والعباد ومع تصاعد حدة الأزمات يفرض علي الجميع التحرر من كثير من الثوابت والخروج عليها بشكل سافر وعلني وتقدم كلمات الرئيس الفنزويلي شافيز في ذروة الأزمة العالمية مع نهاية عام2008 الكثير من الشرح والايضاح لمزايا الأزمات الصادمة والملتهبة حيث تضمنت كلمته الاشادة والترحيب بالرفيق جورج بوش الابن رئيس أمريكا في ذلك الوقت والتاريخ عندما أعلن سيطرة الحكومة علي البنوك والمؤسسات المالية العملاقة والديناصورية فيما يشبه التأميم للقطاع المصرفي الأمريكي وكأن الرئيس الأمريكي الذي يعد واجهة رئيسية من واجهات اليمين المحافظ والأيديولوجية المسماة بالأصولية المسيحية الصهيونية قد تحول تحت ضغط الواقع المريرة إلي تبني النقيض المرتبط بالايديولوجية الماركسية الشيوعية وأصبح رفيقا لشافيز في عضوية الحزب الشيوعي بقراراته وسياساته الجديدة التي اندفع إليها لايقاف أهوال الكارثة المالية والاقتصادية المدمرة للحلم والقوة الأمريكية وكان تهكم وسخرية شافيز من بوش لايرتبط فقط بقرارات التأميم والمصادرة وفرض الادارة الحكومية بديلا عن الإدارة الخاصة ولكنه ارتبط في الأساس بالسخرية من التدخل لمكافأة الفشل وتحمل تكاليف وخسائر الانحراف والفساد وهي أمور لايقبلها ألف باء, والرأسمالية فما بالنا بالأصولية الرأسمالية التي تجرم وتحرم مجرد التفكير في تدخل الدولة لتصحيح وتصويب الاختلالات صغيرها وكبيرها بحكم ايمانها المطلق بقدرة قوي السوق الخفية علي التصحيح والتصويب بعيدا عن أي شكل من أشكال التدخل الحكومي.
تدقيق الأنشطة المالية.. ومراقبة المؤسسات المالية
وبعيدا عن الجدل الساخن المحتدم حول الأصولية الاقتصادية ومفاسدها وفسادها وبعيدا عن مظاهرات اليمين المحافظ الأمريكي ومسيراته التي تتهم الرئيس باراك أوباما بالشيوعية وبعيدا عن تهديدات اليمين المتطرف باغتياله لأنهم لايرضون لأمريكا برئيس أسود اللون, وبعيدا عن كل هذا المستنقع الأمريكي شديد العنصرية والتعصب فإن هول صدمة الأزمة العالمية قد فرض علي أمريكا كما فرض علي بريطانيا وفرنسا والمانيا وغيرها من الدول الصناعية الكبري أن تقوم بمراجعة شاملة ليس فقط للسياسات الاقتصادية والمالية والنقدية ولكن ايضا لدور الدولة ومسئولية الحكومات عن النشاط والأعمال والمعاملات وتدقيق الرقابة عليها وضبطها وعدم السماح بتجاوزها للقوانين واللوائح وصولا إلي مراجعة التشريعات المالية والاقتصادية والنقدية بشكل جذري وتشديد القيود علي الأنشطة والمعاملات المالية والمصرفية بما لايقتصر فقط علي مستوي الدول ونطاق سيادتها الوطنية بل يتعدي ذلك وصولا إلي نطاق السيطرة والاشراف علي الأعمال والمعاملات علي امتداد خريطة العالم حتي لو وصل لمرحلة التدخل السافر في قوانين الدول الأخري وسيادتها ومثال ذلك تدخل القضاء الأمريكي لكشف الحسابات السرية لمواطنين أمريكان في البنوك السويسرية كسرا لقاعدة سرية الحسابات التي يحيطها القانون السويسري بالرعاية والحماية ووصول الأمر إلي سداد البنوك المخالفة تعويضات للحكومة الأمريكية بحكم أن هذه الحسابات والتحويلات المالية المصرفية أدت لتهرب كبار الأغنياء والأثرياء في أمريكا من الخضوع للضرائب ومكنتهم من الاحتيال والغش عند تقديم الاقرار الضريبي وكذلك الحال بما يتم علي نطاق واسع حاليا لملاحقة ومطاردة جنات التهرب الضريبي في جذر الكايمان والبهامز وموناكو ودبي وغيرها من المراكز المالية والمصرفية العالمية لغسيل الأموال وتبييضها وتوضوح مؤشرات بنك يو بي إس أكبر المصارف السويسرية انه خسر من ودائعه90 مليار فرنك تساوي61,3 مليار يورو مع العام الماضي في ظل هذه الاوضاع المستجدة.
ويعني ذلك أول مايعني أن قداسة المال الخاص والشخصي وقيام الحكومات حتي في الدول الصناعية بغض النظر عن مخالفات وتجاوزات الأثرياء والأغنياء ـ وفيهم من فيهم ـ من النافذين والمؤثرين في حكومة العالم الخفية أو الموازية للحكومات الفعلية والقائمة قد أصبحت مطروحة للنقاش والحوار العلني الذي قد لايؤدي للقضاء علي الظاهرة ولكنه علي الأقل في الوقت الحاضر سيؤدي لتوجيه بعض الضربات الموجعة للأموال والثروات والأرباح السوداء والرمادية التي تتحكم من وراء الستار في توجيه الكثير من مقدرات الاقتصاد العالمي ومقاديره وتتحكم بالضرورة في الكثير من توجهاته السياسية والحضارية وترسم بالحتم الكثير من مساراته وأزماته ومشاكله ولكن كل ذلك لابد وأن يصب في خانة جديدة تؤكد ضرورة المزيد من الضبط والسيطرة والتحكم في حركة الأموال داخل الحدود وخارجها لمواجهة درجة الانفلات غير المحدود التي وصلت إليها في ظل تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات المعاصرة وماترتب عليها من ضخامة شديدة في حركة الأموال عبر العالم وعبر بنوكه الفضائية والبالغ تقديرها نحو تريليوني دولار يوميا وكل ذلك للوصول إلي آلية انذار مبكرة للأزمات والكوارث المالية علي امتداد خريطة العالم تتيح الفرصة المعقولة والملائمة للمواجهة وتخفيض الخسائر إلي الحد الأدني الممكن والمتاح.
ضرورة خطط الإنقاذ العامة لإصلاح الأخفاق الخاص
ويعيش العالم المتقدم حاليا مع يقين راسخ بأن خطط الانقاذ الحكومية الضخمة والتي تبلغ بعض تقديراتها أرقاما فلكية تصل إلي12 تريليون دولار كانت هي الحل الوحيد الممكن والمتاح لانقاذ الاقتصاد العالمي من الوقوع فريسة للكساد العظيم طويل الأجل وأن إسراع هذه الحكومات بضخ أموال بالغة الضخامة لانقاذ المؤسسات المالية والبنوك وشركات التأمين الكبري هو الذي اعطي املا حقيقيا للخروج من نفق الازمة المظلم في المدي القصير او بالاصح امتلاك القدرة علي التعافي المخطط والمنظم بالرغم من كافة الظواهر السلبية والمقلقة المرتبطة بخطط الانقاذ الضخمة وفي مقدمتها ارتفاع العجز بموازنات الدول الكبري الي معدلات فلكية حيث يصل في حالة امريكا الي12% من الناتج المحلي الاجمالي مع ارتفاع المديونيات العامة بما يتجاوز كثيرا معدلات الامان المتعارف عليها دوليا يضاف لذلك ان برامج الانقاذ فشلت في تحقيق نجاحات ضرورية في مقدمتها العجز عن خفض معدلات البطالة المرتفعة ووصولها الي10% في امريكا مع عجزها عن الحفاظ علي معدلات النمو الايجابية ومثال ذلك تحقيق الاقتصاد الالماني نموا سلبيا بنسبة5% في عام2009 وتراجع صادراته بنسبة تصل لنحو17% مما انعكس علي تغيير خريطة القوة الاقتصادية العالمية وتراجع المانيا من المركز الثاني الي المركز الثالث وتقدم الصين الي المركز الثاني بمعايير القدرة الاقتصادية وبمعايير القدرة التصديرية.
وقد اوضحت الازمة الكارثية ان برامج الإنقاذ والتحفيز لاتقتصر فقط علي دعم ومساندة المؤسسات المالية والبنوك العملاقة والديناصورية ولكنها يجب ان تمتد للشركات الصناعية الكبري مثل شركات السيارات في امريكا وفي اوروبا وهي شركات تعد عمودا فقريا اساسيا لاقتصادات هذه الدول وتعتمد عليها حلقة واسعة وضخمة من الصناعات الصغيرة والمتوسطة والتوكيلات التجارية وشركات الصيانة وقطع الغيار ولم يتم الانقاذ لكافة الشركات وتعرض البعض منها للاندماج وتعرض الاخر للبيع لمستثمرين اجانب كما حدث لشركة ساب السويدية احدي الاذرع الاوروبية لشركة جنرال موتورز الامريكية ومازال مصير البعض مثل اوبل الالمانية والذراع الاخري للشركة الامريكية قيد البحث والتفاوض المعقد متعدد الاطراف الذي يكشف عن تشابك وتداخل الحلول مع المصالح الاقتصادية لعدد من الدول الاوروبية وهي تلك الدول التي يوجد بها مصانع تابعة لشركة اوبل فوكسهول حيث تعرض شركة جنرال موتورز خطة للانقاذ تكلفتها11 مليار يورو لتعويم الذراع الاوروبية واغلاق مصنع بلجيكا وتسريح8300 عامل وموظف وتخفيض النفقات الاجمالية وتقليل الانتاج بمعدل20% حتي يمكن انقاذ الشركة عام2012 ومطالبة الحكومة الالمانية بالمساهمة بدعم قيمته1.5 مليار يورو وبحكم تركز الجانب الاكبر من الاعمال بها ومطالبة انجلترا بالمشاركة بمبلغ400 مليون يورو وكذلك مطالبة بولندا والنمسا بحكم وجود مصانع بها بالمشاركة في دعم خطة الاصلاح حتي لايتم اغلاق المصانع بها وقد قامت شركة فولكس واجن الالمانية بخطة اعادة هيكلة وكذلك شركات السيارات الفرنسية الكبري بيجو وستروين ورينو لمصانعها داخل فرنسا ومصانعها بباقي الدول الاوروبية وعلي امتداد خريطة العالم وبالرغم من كل ذلك فإن الخريطة العالمية لانتاج السيارات شهدت بالفعل تغيرات عاصفة وستشهد في القريب العاجل المزيد من المتغيرات القاسية ونتج عن هذه المتغيرات تدشين الانطلاقة الكبري لشركات السيارات الصينية وفروع الشركات العالمية الكبري العاملة بالصين مما ادي لان تحتل الصين لاول مرة المرتبة الاول عالميا من حيث الكم الانتاجي للسيارات بانواعها وموديلاتها المختلفة في العام الماضي الذي هو عام الازمة العالمية العاصفة والاكثر اهمية ان سوق تجارة السيارات الصيني قد احتل المرتبة الاول عالميا ايضا وسبق سوق السيارات الامريكية التي كانت دائما في المقدمة مما يعكس متغيرات القدرة الشرائية والمالية ومؤشرات الاستهلاك والمستهلكين عالميا وسرعة متغيراتها العاصفة في ظل الازمة العالمية الاخيرة لتغيير الكثير من الثوابت المستقرة لعقود طويلة سابقة وما يلحق بالمؤشرات الاقتصادية العالمية من تعديل وتبديل في الكثير من الثوابت والاساسيات.
مساندة تعثر المواطن العادي وتصويب الرهن العقاري
ويجب الاخذ في الاعتبار ايضا ان خطط الانقاذ امتدت الي نظم لضمان الودائع بالمؤسسات المالية والبنوك تم بناء عليها زيادة قيمة الودائع المضمونة كما تم ايضا مساندة نظم الرهن العقاري ومساندة المتعثرين في ظل اتساع نطاق التعثر مع انفجار الفقاعة العقارية في امريكا واوروبا تحديدا لتقليل دائرة اصحاب المنازل المعرضين لفقدان ملكيتهم العقارية مع عجزهم عن سداد المستحق عليهم من اقساط وفوائد وبروز ظاهرة المواطنين بلا مأوي كظاهرة مقلقة في امريكا ووصول عدد ممن فقدوا مساكنهم في امريكا لنحو خمسة ملايين عائلة وكانت التوقعات تشير الي مضاعفة هذه الاعداد في حال عدم التدخل للمساندة والدعم بحكم ما ارتبط بعمليات الاقراض والرهن العقاري من عمليات غش وتدليس وفساد واسعة النطاق قادتها المؤسسات المالية والبنوك وساندتها فيها شركات التأمين الكبري رضوخا لشعار انتخابي رفعه جورج بوش الابن في حملته الانتخابية للرئاسة الثانية يقول بحق كل امريكي في امتلاك مسكن خاص مما يشير الي حقيقة الضغط والارادة السياسية للادارة الحاكمة في تهيئة المناخ الملائم لانطلاق قاطرة الفساد الكبري ويفسر حالة الصمت المريب التي كانت عليها اجهزة المتابعة والرقابة الحكومية الفيدرالية وفي الولايات وقاد ذلك الي فساد لانهائي شاركت فيه كافة الاطراف الفاعلة في السوق والمعاملات والنشاط بهمة ونشاط.
ويبقي من خطط الانقاذ العاجلة الفشل والتراخي الشديد من مساندة ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تعد ركيزة رئيسية من ركائز اقتصادات الدول المتقدمة وتشارك بمعدلات عالية من الناتج المحلي الاجمالي حيث تقاعست هذه الخطط عن تقديم الدعم اللازم والكافي مما نتج عنه تصاعد ظاهرة الافلاس في نطاق هذه المشروعات ووصل عدد الافلاسات إلي نحو2.4 مليون افلاس في أمريكا وحدها مما انعكس بصورة سلبية حادة في ارتفاع معدلات البطالة. وعدم القدرة علي توفير وظائف جديدة تلبي احتياجات قوة العمل خاصة وأن الشركات الكبري والمنشآت بجميع صورها واشكالها اعتمدت بشكل رئيسي في خطط اعادة الهيكلة علي تخفيض العمالة وتسريح جانب من العمالة القائمة والاستغناء عن خدماته ويظهر في أمريكا بوضوح الرؤية القائمة علي مساندة المؤسسات والمنشآت الكبري من خلال نموذج السماح بإفلاس140 بنكا من البنوك الصغيرة والمتوسطة خلال العام الماضي بالرغم من انفاق مئات المليارات من الدولارات لانقاذ ومساندة المؤسسات المالية والبنوك العملاقة والكبري والذي ساهم في رفع العجز بالموازنة الأمريكية الفيدرالية من400 مليار دولار إلي تريليون و400 مليار دولار.
إنقاذ مالية الدول المعضلة الكبري المستعصية علي الحل
وفي نموذج خطط الانقاذ بدول الاتحاد الأوروبي فإن الانقاذ علي مستوي الدول الاعضاء في الاتحاد الأوروبي والبالغ عددها الاجمالي27 دولة تضم مجموعة دول المعسكر الاشتراكي السابق في وسط أوروبا والعديد منها عاني من الأزمة ومشكلات حادة في السيولة وقدرة الاقتراض من الخارج ووصل إلي مرحلة التعثر في سداد التزامات المديونية العامة والكثير من المديونيات الخاصة ومع انفجار الأوضاع المالية والاقتصادية الأخيرة في اليونان ومؤشرات التعثر الواضحة في اسبانيا والبرتغال والاحتياج الواضح لضخ المزيد من الأموال الضخمة من جانب الدول الرئيسية في الاتحاد الأوروبي لمساندة الحلقات الضعيفة من دول الاتحاد التي وصلت الاحوال فيها إلي درجة عالية من التوتر السياسي والاجتماعي في ظل الخطوات الاصلاحية الاضافية التي تمس الغالبية العظمي من المواطنين الأقل دخلا والأقل ثروة ومع ذلك تصاعدت المخاوف من تهديد الاستقرار السياسي وهو ما يؤدي لمزيد من الضغوط علي الدول الأقوي لتفتح خزائنها بما يفوق قدرتها وإمكاناتها بحكم دخولها ايضا في دوامة الأزمة وخسائرها وتكاليفها.
وبحجة الخوف من تغلغل الدولة في النشاط الاقتصادي الناتج عن الأزمة العالمية فإن هناك اصوات رسمية وأصوات من القطاع الخاص ومنتدياته دعت إلي توقف خطط الانقاذ الحكومي وترك السوق تستكمل مشوار الاصلاح والتصحيح في أوروبا ومع تصاعد هذه النغمة وسريان شائعات عنها علي المستوي الرسمي للدول تصاعدت وتيرة الأزمة في اليونان واسبانيا والبرتغال وغيرها من دول وسط اوروبا المنتمية سابقا للمعسكر الاشتراكي ودفعت هذه الأزمات إلي اعادة تأكيد الحكومات علي استمرار مخططات الانقاذ المالية واعلنت امريكا عن المزيد من البرامج وأعلنت اليابان عن برنامج ضخم للانقاذ مع العام الحالي تكلفته تصل إلي120 مليار دولار مما يعني أن عقارب الساعة قد عادت مرة أخري للتعلق الشديد بدور الدولة كمنقذ رئيسي من الازمة خاصة أن الصين صاحبة نموذج اقتصاد السوق الاشتراكي كانت الاقتصاد العالمي الرابح من الأزمة وكانت الاقتصاد الأقل تأثرا بنتائجها السلبية علي مستوي معدلات النمو التي تجاوزت8% في العام الماضي وهو الاقتصاد القائم علي تدخل الدولة الكثيف في النشاط مع اعترافه بأهمية السوق وبأهمية المبادرة الفردية والخاصة وتشير التوقعات إلي عودته لتحقيق معدل نمو10% مع العام الحالي يضاف الي ذلك أن الدول صاحبة نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي المرتكزة علي مفهوم واسع لتدخل الدول لتحقيق الرفاهية للمواطنين وفي مقدمتها السويد والنرويج والدانمارك وكذلك نموذج فنلندا كانت هي الدول الأقل تأثرا بالازمة العالمية في حين ان نموذج ايسلندا الأكثر تحررا من القيود والأكثر انفلاتا من الضوابط تعرضت لاعلان افلاسها كدولة مع الازمة مع انهيار وتعثر نظامها المالي والمصرفي والنقدي بشكل حاد ومروع.
***
مع الازمة العالمية الكارثية خرج العالم مضطرا من شرنقة وقوقعة الاصولية الرأسمالية واعلن ثورته وتمرده علي الرأسمالية المتوحشة وتطبيقاتها وثوابتها في ظل ادراك واسع النطاق لدي دوائر اتخاذ القرار العالمي بجميع صورها واشكالها ومستوياتها بأن استمرار النموذج الاقتصادي الاصولي لابد وان يقود العالم كله إلي كساد عظيم طويل الأجل وان الحل السحري يكمن في الاعتراف بدور مهم ورئيسي للدولة في توجيه التنمية وتصويب النمو بسياسات تحقق صالح الانسان وتمنحه حقه المشروع والعادل من ثمار التنمية ونتائجها وهو ما يتطلب درجة عالية من الضبط والرقابة علي جميع الاسواق في مقدمتها سوق المال ومؤسساته المالية وبنوكه وبورصاته وحركة الاموال داخل الدولة وعلي امتداد خريطة العالم بعيدا عن الشعارات الجوفاء الفارغة لقوي السوق الخفية وقدرتها غير المحدودة علي التصويب والتصحيح لاعقد المشاكل واخطرها وتحول هذه المقولات إلي نكت سخيفة وبايخة يندرج من يروج لها تحت بند غير العقلاء والسفهاء غير القادرين علي ادراك ثوابت الواقع العملي والتطبيقي.
وفي ظل هذه المستجدات العاصفة فان حديث خبراء الامم المتحدة العالميين عن التنمية المتوازنة والشاملة والمستدامة وخليط التنمية الاقتصادي والاجتماعي والانساني الذي تحرس الدولة بواباته بالحرص علي معايير الكفاءة الاقتصادية ورفع القدرة التنافسية وتوسيع نطاق المنافسة ومواجهة اخطبوط الاحتكار القاتل والمميت يعد ركيزة رئيسية لاي نموذج تنموي ناجح ومستقر بشرط الالتزام الصارم بمواجهة جميع صور الفساد الاداري والبيروقراطي وجميع صور الفساد المرتبطة بالنفوذ السياسي والاقتصادي وهو ما يحتم درجة عالية من المشاركة السياسية الحقيقية ومن الالتزام بالمفهوم الديمقراطي الحقيقي الذي يتيح الفرصة لتداول السلطة عبر صناديق الانتخابات حتي يتحول صوت المواطن إلي وسيلة رئيسية من وسائل الرقابة والضبط والتصحيح في نطاق لا يسمح بالخروج عن الشرعية والتعدي علي القانون والخروج عليه لخدمة الاهواء الشخصية والمنافع المتوحشة والوقحة؟!