ليس كل ما هو صغير الحجم صغير القيمة، هذا ما أثبته شباب  الكويت من خلال أفكار «خارج الصندوق»، تزامنت معها إرادة ومجهودات حولت الفكرة الى واقع ملموس من مشروعات تكنولوجية لفتت أنظار العالم، الذي انتبه لوجود قيمة اقتصادية غير النفط في الكويت.

ولم يقتصر الأمر على إعجابهم فقط، بل ضخوا ملايين الدولارات في الاقتصاد الكويتي ليصبح 2017 عام المشاريع الصغيرة بامتياز، فعلى مدار العام طالع الكويتيون بكل وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي أخبارا عن انطلاق مشروعات صغيرة، تقضي حاجة ملحة للمستهلكين في إطار عصري يجعل الحياة أسهل.

ولكن هذا الأمر لم يكن بالسهل، فالشباب الكويتي نجح في أن يغرد خارج السرب ويصنع ما لم تستطع أن تحققه حكومات كويتية متعاقبة، حيث اخترق حاجز «الذهب الأسود» الذي يحيط بالاقتصاد الكويتي وتغلب على معوقات البيروقراطية، لينجح في الحضور بقوة على خارطة الاقتصاد والفرص الاستثمارية محليا وعالميا.

وليبعث برسالة لكل الأطراف مفادها أن الاقتصاد الكويتي يحمل في طياته القدرة على التنوع، ليس فقط من خلال  الصندوق الوطني  للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وإنما من خلال دعم أفكار تأتي من «خارج الصندوق».

في الكويت، ثمة ناقوس خطر بدأ يدق لم يعهده الكويتيون من قبل، فالإحصائيات الرسمية تظهر ان هناك ما يزيد على 17 ألف كويتي متعطلين عن العمل، يضاف اليهم سنويا نحو 30 ألف خريج جديد، يقفون في طابور انتظار الوظيفة ليصطدم الشباب الكويتي من الخريجين الجدد بتحديات سوق العمل والفرص الاستثمارية المتاحة، التي تكاد تكون محدودة، في سوق لا يعترف فيه القطاع الخاص الا بالخبرات، أو يقصر نفسه على العمالة الوافدة الأقل تكلفة.

وهكذا تفرض الحاجة للعمل وجود الفرص البديلة، بعدما أيقن الشباب الكويتي أن الحكومة لم تعد تفتح أبوابها للتوظيف كما في السابق، حيث تواجه الحكومات الخليجية ومنها الكويت ضغوطا بموازناتها في ظل تراجع أسعار النفط، ما أدى لاعتمادها سياسات التقشف وترشيد النفقات وبالتالي تراجع توظيف المواطنين.

التفكير خارج الصندوق

أصبح لزاما على الشباب الكويتي البحث عن فرص بديلة أمام سوق عمل محدود وتراجع حكومي عن التوظيف، حيث بدأوا في التفكير «خارج الصندوق» ليبدعوا ويكسروا القالب التقليدي، المتمثل في انتظار الراتب الشهري والاتكاء على الوظيفة الحكومية التي غالبا ما تقتل الإبداع فيهم، فصنع هؤلاء الشباب مسارا جديدا لحصد الثروة من خلال الفضاء الالكتروني، الذي بدأ يغير مفهوم الاستثمار، لتصبح قيمة تطبيق صغير يقدم خدمات للمستهلكين عبر الانترنت ملايين الدولارات.

وبالفعل شهدت السنوات القليلة الماضية تحول الافكار إلى واقع، انعكس من خلال العديد من التطبيقات والمواقع الالكترونية، التي تخدم الحياة اليومية للمستهلكين وتوفر عليهم الوقت والمجهود، فسرعان ما لقي بعضها الرواج وحقق نجاحات وأرباحا جذبت انتباه شركات عالمية من خارج الكويت للاستحواذ على هذه المشاريع الإلكترونية الصغيرة الناجحة.

«طلبات».. شرارة الانطلاق

ظهرت قبل عامين قصة نجاح ربما تكون الأكثر إلهاما، عندما أصبح موقع طلبات ملء السمع في الكويت، فلم يكن يتوقع مالكه الشاب الكويتي  محمد جعفر أن الموقع الذي استثمر فيه نحو مليون دينار في عام 2010، سيكون مصدرا لثروه كبيرة بعد 5 سنوات من استثماره، وذلك عندما استحوذت عليه شركة «روكيت انترنت» الألمانية في عام 2015 بمبلغ 170 مليون دولار (قرابة 50 مليون دينار) أي بزيادة 50 ضعفا.

هذه الصفقة الكبيرة أحدثت صدمة للكثير من المستثمرين بالسوق الكويتي، حيث لم يتوقع احد أن موقعا الكترونيا قد يباع بهذا المبلغ الضخم، فيما توقع البعض ان هذه الصفقة ما هي إلا مجرد «شرارة الانطلاق» لصفقات واستحواذات أخرى كبيرة على هذه الشاكلة.

ويعتبر موقع طلبات مولا تجاريا للمطاعم والمستخدمين على شبكة الانترنت، وقد تأسس في 2004 من قبل مجموعة من الشباب الكويتي المبادر، بهدف تطوير طلب الطعام «أون لاين» في السوق الكويتي.

«كاريدج».. قصة ملهمة

عاد العام 2017 لينتج قصة ملهمة جديدة، كتب مجموعة من الشباب الكويتي المبدع كل تفاصيلها، والتي ألهمت فيما بعد كثيرين لكيفية انطلاق مشاريعهم الخاصة، وهي قصة منصة «كاريدج» التي أسسها الشاب الكويتي عبدالله المطوع، حيث عمل على مشروعه الصغير من مكتب متواضع أمام جهاز كمبيوتر لإنهاء أعماله، وبجانبه مكاتب صغيرة لفريق من 4 شباب كويتيين لم يتجاوزوا الثلاثين من عمرهم يقومون بالتسويق وإدارة العمليات لمنصة «كاريدج».

ويتواصلون لحظة بلحظة مع موظفين شباب وفتيات، كويتيين وعرب، الذين يجلسون في مكاتب صغيرة أيضا في صالة للأعمال، وكل عدتهم أجهزة كمبيوتر يراقبون من خلالها سير طلبات الطعام من المطاعم الى العميل.

ولم يخطر على بال هذا الشاب المبادر انه على موعد مع صفقة مليونية ستغير حياته، وتمنحه ثروة كبيرة من هذا المشروع الصغير، حيث جذب مشروعه، لتوصيل الطعام، اهتمام شركة «ديليفري هيرو» الألمانية للاستحواذ عليه بمبلغ 200 مليون دولار.

وتعد شركة «كاريدج» إحدى منصات توصيل الأغذية عبر الإنترنت، وتعمل في الكويت ودول الخليج، حيث توفر منصتها معلومات المطاعم، وتحصل رسوم وساطة عند طلب الطعام، بالإضافة إلى خدمة توصيل الطلبات عبر سياراتها الخاصة.

استحواذات محلية

بعد صفقته المليونية، ربما أصبح محمد جعفر مثالا يحتذى للشاب الكويتي، حيث لم يتوقف عند مجرد نجاحه باستثمار وتحقيق ثروة كبيرة منه.

لكنه أسس لمرحلة جديدة ليقدم خلالها نموذجا جديدا للاستثمار في عالم الإنترنت واسع الفرص والمليء بالتحديات والمخاطرة.

فقد أسس جعفر شركته «فيث كابيتال القابضة» في الكويت والسعودية، ليبحث عن قصص نوعية غير مكتشفة في السوق ويحولها الى قصص نجاح تقفز للإقليمية وربما العالمية.

وبالفعل، كانت أولى خطواته بعد تأسيس الشركة، بأن استحوذ على تطبيق «مصبغتي»، الذي يقدم خدمات المصابغ «أون لاين»، وبذلك تدخل المشروعات الكويتية الصغيرة مرحلة جديدة، فلم تعد محط أنظار المستثمرين العالميين، بل أصبح هناك مستثمرون محليون يهتمون بهذا النوع من المشاريع للاستحواذ عليها وتطويرها وضمان استمرارها.

صفقات أشعلت الحماس

أحدثت هذه الصفقات دويا قويا في الكويت، حيث لم يكن يتوقع احد أن يكون هناك شباب كويتي يحمل مثل هذه الأفكار البراقة التي أصبحت قيمتها ملايين الدنانير، فيما اعتبرها البعض مبالغا فيها، خصوصا من فئة رجال الأعمال التقليديين غير المؤمنين بالثورة التقنية كمكان لصناعة الثروة.

بينما رأى فريق آخر ان هذه المبالغ منطقية لأن الشركات المستحوذة على هذه المواقع والمنصات، اشترتها على أساس النمو المستقبلي لها، باعتبارها الرائدة بالكويت والمنطقة من حيث أفكارها.

وهو ما أشعل حماس الشباب الكويتي، حيث امتلأت مواقع التواصل بالحديث وطرح الأفكار الواعدة لمشروعات تكنولوجية صغيرة، واصطف الشباب أمام «الصندوق الوطني لرعاية المشاريع الصغيرة» للحصول على تمويل لهذه الأفكار، وتحويلها الى مشاريع ربما تنجح ويصبحون احد أعضاء نادي الأثرياء.

ملايين في الطريق

في ضوء هذه الصفقات المليونية، العالمية والمحلية، تعيش المشاريع الشبابية في مجال التكنولوجيا طفرة كبيرة بالسوق الكويتي، حيث ظهرت العديد من المواقع والتطبيقات التكنولوجية الطموحة بأيد كويتية شابة، لتعمل على تسهيل الحياة اليومية للمستهلكين.

وعلى شاكلة «طلبات» و«كاريدج»، هناك تطبيقات واعدة تعمل على نفس النهج، وهو خدمة المستهلكين بشكل يومي، وأبرزها: تطبيق «غسيل»، و«جاست كلين»، و«انستا سلة»، و«بليمز»، و«اوردر»، و«بوتيكات»، وذلك على سبيل المثال لا الحصر للتطبيقات الكويتية الواعدة.

وتتشارك معظم هذه التطبيقات، بعيدا عن نموذج عملها، في كونها تعتمد على تمويل ذاتي من مؤسسيها، فليس هناك دعم من الصندوق الوطني او من مستثمرين محليين، وهو ما قد يجعل تطورها واستمرارها مرتبطا بوجود مصدر تمويل كبير ودائم.

لذلك، من الممكن ان يكون احد هذه التطبيقات الصفقة القادمة بالسوق الكويتي، سواء بالاستحواذ عليها من مستثمرين محليين أو مستثمرين أجانب.

الصندوق الوطني.. خيار للتمويل

وصف الصورة

لم يغب عن الحكومة الكويتية حتى في ظل فورة النفط أن تخطط للمستقبل، حيث قامت بتأسيس الصندوق الوطني لرعاية وتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة في ابريل 2013 برأسمال 2 مليار دينار، وذلك في الوقت الذي وصل فيه سعر برميل النفط الى 120 دولاراً. ليكون الصندوق بمنزلة قاطرة تقود الاقتصاد الكويتي الى التنوع القطاعي انطلاقا من مشروعات لمبادرين من الشباب الكويتي، ولكن البعض مازال يرى ان القاطرة لم تطلق صافرة الانطلاق بعد. فيما يرى فريق آخر ان التجربة تحتاج إلى وقت أكثر شريطة ان يتم إبعادها عن التعقيدات البيروقراطية، وان تستقي أفكارا نجحت في تجارب اقتصادية دولية من قبل.

وتقوم فلسفة إنشاء الصندوق على رغبة حكومية لمساعدة الشباب الكويتي المبادر ودعمه، حيث يعمل الصندوق على تمويل حتى 80% من رأسمال المشروعات الصغيرة والمتوسطة بشروط ان توظف من 1 إلى 50 كويتيا ولا تزيد تكلفتها على 500 ألف دينار.

لكنة لم ينجح في تحقيق الأهداف المرجوة منه، وواجه صعوبات البداية التي يتعرض لها انطلاق أي عمل جديد، إضافة الى التعقيدات البيروقراطية ما عرقل تحقيق تقدم ملموس يرقى لبناء تجربة كويتية مستقلة.

وهو ما أدى إلى تغيير مجلس ادارة الصندوق مؤخرا، في محاولة لتطوير اداء الصندوق من حيث قدرته على تقديم نموذج لتنمية المشروعات، وعدم الاقتصار على التمويل وتقديم البرامج التدريبية فقط، أملا في ان يعمل الصندوق بأفكار ليست تقليدية.

4 تجارب ملهمة..كيف نستفيد منها ؟

بدأ الدعم الحكومي بالكويت لرعاية وتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة مبكرا في عام 1997، أي قبل عامين من إنشاء الهيئة اليابانية للمشاريع الصغيرة والمتوسطة في 1999.

وقد مر هذا الدعم الحكومي بالعديد من المراحل على مدى 20 عاما من انطلاقه، منذ إنشاء الشركة الكويتية لتقوية المنشآت الصغيرة عام 1997، مرورا بإصدار قانون عام 1998 بإنشاء محفظة مالية لدى بنك الكويت الصناعي، بقيمة 50 مليون دينار ولمدة 20 عاما، الى أن وصلنا لتأسيس الصندوق الوطني لرعاية وتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة في 2013، برأسمال ملياري دينار، وخلال 20 عاما من هذا الدعم الحكومي تزامن معه وجود تجارب عالمية لدول كبيرة عملت على دعم وتشجيع هذا النوع من المشاريع، وعلى الرغم من الريادة الكويتية في الاهتمام بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة، إلا أن تلك الريادة لم تنعكس على الواقع الاقتصادي الذي مازال يعتمد على النفط في توليد أكثر من 80% من إيراداته السنوية.

وصف الصورة

اليابان.. التكامل مع المشاريع الكبرى

تعتبر التجربة اليابانية في مجال إقامة وتنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة، واحدة من أغنى التجارب العالمية وهي بمنزلة نموذج يمكن ان يحتذى من قبل كل الدول الراغبة في تنمية اقتصاداتها من جهة، والتغلب على مشاكل البطالة والفقر من جهة اخرى.

وقد عملت الحكومة اليابانية على تشجيع المشاريع الكبيرة على التكامل مع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتحديث ما لديها من آلات ومعدات وتنظيم العلاقة بين أصحاب المشاريع والعمال، كما ألزمت الشركات التي تحصل على مناقصات حكومية بأن يكون نصيب الشركات الصغيرة والمتوسطة ليس بأقل من 30% من قيمة المناقصة.

وصف الصورة

كوريا.. الحل بالصناعات المغذية

دعمت تجربة كوريا الجنوبية المشروعات الصغيرة لهدف رئيسي وهو بناء شبكة ضخمة من الصناعات المغذية للصناعات الثقيلة والكيماوية الكبرى بالاقتصاد الكوري، بما يساهم في تحسين الميزان التجاري الكوري وزيادة الصادرات لمنتجات تلك الصناعات الثقيلة، التي تمثل وزنا نسبيا كبيرا في صادرات كوريا الجنوبية وبما يعطي تلك المنتجات ميزة تنافسية مع باقي المنتجات في السوق العالمية.

وصف الصورة

الهند.. كل ما هو صغير .. جميل

ارتبطت تجربة الهند بتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة برؤية المهاتما غاندي في مواجهة الاحتلال البريطاني، بتشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة بما يحقق الاستقلالية للاقتصاد الهندي معتمدا على مقولة الاقتصادي الألماني الشهير «شوماخر»، أي ان كل ما هو صغير جميل.

واستهدفت الحكومات الهندية المتعاقبة الاعتماد على المشروعات الصغيرة والمتوسطة كسلاح فعال، في مواجهة البطالة المتفاقمة في البلد الثاني عالميا من حيث التعداد بعد الصين والتي يتخطى سكانها المليار نسمة.

وارتكزت التجربة الهندية على مجموعة من القرارات والسياسات، التي بدأت تعريف المشاريع الصغيرة التي لا تتجاوز تكاليفها الاستثمارية 65 ألف دولار، والمشاريع المتوسطة التي لا تتجاوز تكاليفها الاستثمارية 750 ألف دولار.

وصف الصورة

أميركا.. إعفاءات ضريبية

انتهجت الولايات المتحدة الأميركية سياسة واضحة بعد الحرب العالمية الثانية لدعم وتشجيع المنشآت الصغيرة، حيث وضعت تعريفا لهذه المنشآت مختلفا باختلاف النشاط الذي تعمل فيه المنشأة، واتخذت العديد من الخطط والبرامج الاستراتيجية لتحقيق التطور في قطاع المنشآت الصغيرة.

وبدأت بإنشاء هيئة لتنفيذ السياسة الفيدرالية لتنمية المشروعات الصغيرة، والتنسيق بين كل الوزارات والهيئات المحلية وضمان أي قرض تمويلي تحصل عليه تلك المشروعات من البنوك وتنظيم الإعفاءات الضريبية.