قبل أن يغيبه الموت في مثل هذا التاريخ تقريباً عام 2016، كان للدكتور جورج أبونا رحيل مسبق واضطراري، بحكم أصوله العراقية، من الكويت رغم مكانته العلمية الرائدة وما قدمه خلال 12 سنة في مجال نقل الأعضاء البشرية. أنشأ خلال هذه المدة قسم جراحة وزراعة الأعضاء الذي كان الأول من نوعه في المنطقة العربية. رحيله من الكويت كان إشارة مبكرة لتحول مهم في سياستنا الوطنية لإدارة واستقطاب الكوادر البشرية المتميزة. وبعد أن كانت الكويت قبل الغزو العراقي مركزاً لاستقرار المبدعين، شهدنا منعطفاً حاداً في هذا المجال.
منذ ذلك الحين تراجعت سياستنا لاستقطاب المبدعين أو انعدمت. وكان هذا التراجع لمصلحة دول الخليج، من حيث التنافسية، بينما كان أي تواجد للمبدعين لدينا مضطرب وقصير، من حيث ظروف التعاقد والإقامة وتضييق واضح يبدأ في المطار ولا ينتهي في معاملاتهم في الدوائر الحكومية، ومؤخرا في خطابين، سياسي وإعلامي، تشوبهما الحدة ويشكلان قلقا للوافدين وغيرهم.
وهذا التراجع الحاد لم يكن بسبب الهاجس الأمني لأن الكويت أصبحت أكثر، لا أقل، أمناً بعد التحرير، بحكم تأكيد سيادتها الدولية بعد هذا الغزو والتحرير الذي تلاه. كما صاحب ذلك انفجارا كبيرا في العمالة الهامشية التي لم تضف في معظمها للاقتصاد شيئا يذكر، وإنما سحبت البساط من اصحاب الكفاءات من حيث العدد. يقول الاستاذ عامر التميمي (القبس – 15 / 9 / 2011) أن هناك 129653 أمياً في البلاد، عدد الوافدين منهم 106153، أي نحو %82 من إجمالي الأميين في البلاد. هذه العمالة الهامشية الهائمة في شوارعنا، ينتظر معالجتها بشكل جدّي عبر حل حاسم لمشكلة تجارة الإقامات، وتطوير اجراءات التعاقدات للتركيز على تقنيات في المقاولات تعطي أفضلية للتقنيات التي تستلزم أدنى مستويات العمالة.
إزاحة مهني منتج لتوظيف مواطن قد لا يملك المؤهلات قد لا تخدم التنمية على الأمد الطويل لسببين: أولا، إن التنمية الحقيقية هي خلق الوظائف، ولا تتحقق إلا في مناخ حُر، معرفي، ديموقراطي، يحقق الفرص بين الناس بعيداً عن كل فئوية. وثانيا، لأن العصر الحالي هو العصر المعرفي بامتياز يتطلب سياسة واضحة لإدارة المواهب لرفع درجة تنافسية الاقتصاد. أعرف أعدادا متزايدة من الوافدين المتميزين غادرت أو تهم بالمغادرة إلى دول الخليج أو إلى إرسال عوائلها لموطنها الأصلي. وفي قطاعات، مثل التمويل والصحة والتعليم، يعلم الجميع أن أصحاب المهارات النادرة يفضلون الأسواق المجاورة في قبولهم العروض للعمل في القطاعين الخاص والعام.
كل هذا أدى إلى تراجع في تنافسية اقتصادنا بشقيه العام والخاص، والأخير داعم رئيسي لتنمية الكفاءات الوطنية (عبر برامج التدريب، دعم العمالة، المسؤولية الاجتماعية) لكنه يحتاج أيضا لمواهب قد لا تتوفر في سوق العمل الوطني. هذه المواهب تتنافس بضراوة لاستقطابها أسواق العالم والمنطقة مع منحها الامتيازات للبقاء والاندماج، لا للعمل بظروف معادية، مثل الحالية وبعقود توقع بأيد مرتعشة، الأمر الذي يترتب عليه ارتفاع كلفة العمل على القطاع الخاص الوطني وتراجع جاذبيته، من حيث التنافسية عالميا.
المجتمعات المعرفية تفرش السجاد الأحمر للمتميزين عالمياً وتتسابق لاستقطابهم، لأن المستفيد الأول هو الشباب الذين سيتشربون المعرفة من أهل الخبرة. الفراغ في هذا المجال واضح بدليل عطش الشباب الواضح للملهمين والمدربين وتوجههم لشباب أحيانا قليلي الخبرة لتدريبهم عبر الورش والدورات. ومن ثم فإن فرص الاستفادة غير واضحة. وفي المقال الذي نشر في بلومبرغ بعنوان «ما يقود دول الخليج إلى التوازن بعد صدمة العجز» بقلم إيبروبويسان، نعرف أن عدد من دول الخليج اليوم تعمل على حفظ إقامة طويلة الأمد بهدف التقليل من تأثرات نزوح المواهب. فقطر تقدم خبرات إقامة دائمة للعمالةالوافدة، وتعمل الإمارات على مخططات جديدة للتأشيرات تستقطب من خلالها أفضل المواهب في مجالات معينة، كما أن السعودية بصدد تطبيق برنامج شبيه ببرنامج «الغرين كارد» المطبق في الولايات المتحدة.
أهلا وسهلا بتمكين الفئات لكن بشرط عدم خلخلة قواعد التنافسية أو الجنوح إلى التعصب الذي تصدعت بسببه مجتمعات الوطن العربي، وكنا نظن الكويت في مأمن منه، والذي يبدأ بإقصاء المبدعين لكنه يتحول شيئا فشيئا إلى أبناء المجتمع الواحد، فتتراجع قيم الجدارة والمعرفة والعمل ومن ثم تدار الموارد البشرية على أساس انتمائي صرف. وهو ما كان علينا أن نستشعره حين عجزنا عن احتضان طبقة علمية تضم أمثال جورج أبونا، باحتضان هؤلاء كان يمكن أن نشغل وأبناءنا مصاف دولية أهم بكثير.
مناف عبدالعزيز الهاجري
الرئيس التنفيذي لشركة المركز المالي الكويتي (المركز)