حتى يوم 11 فبراير/ شباط الماضي الذي تنحى فيه الرئيس حسني مبارك عن الحكم، كانت رئاسة الجمهورية بالنسبة لكل المصريين بمثابة المغارة التي يسعى الجميع للوصول إلى حكاياتها، علهم يعرفون شيئاً عن ما كان ينشر ويقال عن التوريث، وعن من يحكم مصر فعلياً، الرئيس نفسه أم نجله جمال.
بعد الرحيل، بدأت الحكايات تنساب، يحكيها أقرب الناس إلى الرجل الذي حكم من وراء ستار حديدي لما يزيد عن ثلاثين عاماً، وعن الرجل الثاني في مؤسسة الرئاسة الدكتور زكريا عزمي الذي أنشأ هذا الستار وعزل وراءه الرئيس مبارك عن الداخل والخارج، فلم تصله شكوى ولا خبراً متكامل المعلومات.
كان معلوماً أن مبارك صاحب شخصية قوية حادة في تعامله مع رجاله في الحكم، ولم يتح للشعب معرفة هذه الشخصية الحادة سوى مرة واحدة، عندما وقعت مذبحة "الدير البحري" بالأقصر عام 1997، حينها كان يستمع من ضابط كبير في أمن الدولة عن خطة التأمين، والثاني يشرح باستفاضة عن الخطة (أ) والخطة (ب)، فإذا بالرئيس يحتد ويصيح بصوت عالٍ أمام كاميرات التلفزيون التي كانت تنقل ذلك "خطة تهريج". وبعدها عنف وزير داخليته اللواء حسن الألفي وأقاله ورفض عودته معه إلى القاهرة من مطار الأقصر على نفس الطائرة.
وراء أسوار القصر
الرئيس مبارك ونجله جمال
عدد قليل هم الذين يلمون بما كان يجري خلف أسرار قصر الرئاسة، أولهم زكريا عزمي الذي ما زال فيه حسب اتصال هاتفي أجراه قبل أيام قليلة مع الإعلامي جمال عنايت في برنامجه التلفزيوني "مباشر". وأكد فيه أنه مكلف بذلك من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لكن ليس كرئيس للديوان، وإنما لتسيير أمور مؤسسة الرئاسة لحين تسليمها لشخص آخر.
والآخرون ظل بعضهم معه حتى خروجه من السلطة، وخرج بعضهم الآخر قبله، مثل الدكتور أسامة الباز، والدكتور مصطفى الفقي، ومحمود صبري الذي كان مديراً عاماً لإدارة المعلومات في مكتب الرئيس مبارك وقدم استقالته عام 2002.
وتقول جريدة "اليوم السابع" إن ثورة 25 يناير فكت كيس الأسرار وروت الفضول بماء المعلومات والتفاصيل الخاصة بالكيفية التى كان يدير بها الرئيس مبارك شؤون البلاد، وبأسرار حياته الشخصية وكيف كان يتعامل مع وزرائه ورجاله، بعد أن كنا نسمع قصصاً مجتزأة عن رئيس لا يقرأ ولا يشاهد التلفزيون ولا يسير فى الشوارع، وعن وزراء ومحافظين يحصلون على الشتيمة والسخرية و"الشلاليت" الرئاسية وهم راضون فرحون إيماناً بالقاعدة التى سادت فى عصر مبارك: "شلوت سعادة الرئيس خطوة للأمام".
اهتم الرئيس مبارك بشكل وتكوين المتواجدين حوله، وجاءت اختياراته فى الأغلب عسكرية وقائمة على المعرفة السابقة، ولذلك تجد الأسماء محصورة فى محمود صبرة المدير العام لمكتب الرئيس، واللواء أبو الوفا رشوان، سكرتير الرئيس الذى خرج مؤخراً إلى المعاش، وجمال عبدالعزيز، وشفيق البنا، وطلعت الطوبجى، وهى الأسماء التى خرجت من القصر الرئاسى بشكل مفاجئ، وبدون مبررات مقنعة ومنطقية، مثلما حدث مع مصطفى الفقى وأسامة الباز.
انتظمت تلك الأسماء في هيكل إدارى تم تعديله وتنظيمه مرتين منذ تولى الرئيس مبارك، الأولى كانت فى عام 1983 بعد أن أصدر القرار رقم 259 بتشكيل رئاسة الجمهورية، والقرار 260 لسنة 1983 بتحديد اختصاصات أمين عام رئاسة الجمهورية، والثانية عام 1989 حينما أصدر القرار 73 المكون من 5 مواد نظمت العمل فى رئاسة الجمهورية.
الهيكل الرئاسي ينقسم إلى ثلاثة تشكيلات، التشكيل الأول هو ديوان رئيس الجمهورية، ومقره قصر عابدين ويرأسه الدكتور زكريا عزمى، ويتكون من 18 قطاعاً وإدارة.
التشكيل الثانى من الهيكل الرئاسى هو مكتب رئيس الجمهورية ومقره مصر الجديدة فى مواجهة إدارة الشرطة العسكرية، وهذه الإدارة كانت تتولى تأمين وتشفير كل اتصالات الرئيس السابق وكبار الشخصيات المهمة فى الدولة، كما تتولى قسم الصحافة الذى يلخص كل الأخبار والتقارير الصحفية لتكون جاهزة فى تمام السادسة صباحاً أمام مبارك ليقرأها ويطلب تفاصيل ما يلفت انتباهه منها.
التشكيل الثالث هو سكرتارية رئيس الجمهورية ومقره داخل قيادة الحرس الجمهوري بشارع منشية الطيران في روكسي ويرأسها اللواء جمال عبدالعزيز.
خمسة قريبون جداً من مبارك
المدير السابق لمكتب مبارك وابنته مي
5 من مكتب الرئيس ومن قلب ديوانه الرئاسي بحكم طبيعة عملهم وقربهم هم الأجدر بالحديث عن تلك التفاصيل وكشف تلك الأسرار.
بعضهم أمضى ثلاثين عاماً كاملة بجوار الرئيس داخل القصر، وبعضهم قضى سنوات طويلة أو قصيرة ورحل فى ظروف غامضة. في مقدمة تلك الأسماء الدكتور زكريا عزمي رئيس الديوان والمقرب منذ 30 عاماً، والدكتور أسامة الباز المستشار الذى لم يختف إلا منذ سنوات قليلة، ومصطفى الفقي سكرتير المعلومات الذى خرج من القصر، لكنه ظل مقرباً من النظام، ومحمود صبرة، بالإضافة إلى محمد عبدالمنعم رئيس تحرير روز اليوسف السابق.
الدكتور أسامة الباز قال عن مبارك إنه ترك الملفات الداخلية فى أيدى الأجهزة الأمنية، على الرغم من كونها ملفات سياسية، كما ترك الملفات الخارجية دون اهتمام، وأنه لا يستمع إلى آراء ونصائح مستشاريه، ولا يقبل بالرأى الذى يخالف هواه.
وأكد أن مبارك تغير فى منتصف فترة حكمه، تحول من رئيس يتمتع بالكياسة والعدالة والقدرة على الإنصات، إلى رئيس لا يسمع ولا يرى إلا نفسه، يتحكم فيه ابنه ويقدم التنازلات للجميع من أجل ضمان توريثه كرسي الرئاسة.
لكن محمود صبرة مدير عام مكتب الرئيس إلى عام 2002 تكلم أكثر، وروى تفاصيل دسمة، سواء في حواراته للتلفزيون وآخرها قناة مع "الحياة" المصرية أو للصحافة مثل جريدة "الوفد".
زكريا عزمي والرئيس
صبرة متزوج من أماني حسن إبراهيم ولديه ابن هو محمد محمود صبرة، وابنة هي مي محمود صبرة، وشاركوا جميعاً في ثورة 25 يناير منذ بدايتها، حيث كانوا مع المتظاهرين في ميدان التحرير الذين طالبوا برحيل مبارك.
التحق محمود صبرة بالعمل فى مكتب الرئيس عام 1984 مترجماً، ثم كبير محررين، ثم مديراً لإدارة الترجمة والمعلومات، بعدها عمل مديراً لإدارة الصحافة، ثم مديراً عاماً حتى قدم استقالته فى عام 2002.
يتناول صبرة قصة الدكتور زكريا عزمي مع قصر الرئاسة، الذي يوصف دائماً بأنه "ظل مبارك"، ويقول: كان عزمي برتبة مقدم في الحرس الجمهوري عندما عين في القصر، فاشتغل في سكرتارية المعلومات، وأميناً عاماً مساعداً، ثم بسبب خدماته القريبة جداً من ولدي الرئيس في شبابهما، استطاع أن يرتقي إلى ما وصل إليه. وهي خدمات مشروعة تندرج في تخليص أمورهم وشؤونهم، مثل الاهتمام بهم في مدارسهم وطلباتهم وأمراضهم.
ويربط صبرة بين تعيين الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزيراً للتعليم ثم للصحة، وبين علاقته الوثيقة جداً بعلاج أولاد الرئيس.
أيضاً يتحدث عن حساسية الدكتور زكريا عزمي من المنصب الذي كان يشغله الدكتور مصطفى الفقي في القصر باعتباره سكرتير الرئيس للمعلومات، رغم أنه معين على هذا المنصب.
وأضاف أن التعامل مع الرئيس يمر بمرحلتين: الأولى كتابة التقارير اليومية واسمها "نشرة عامة" لما تتضمنه وسائل الإعلام العالمية، حيث نختار الخبر أو التقرير الذي يحتاج إلى قرار من الرئيس مبارك.
ويضرب مثلاً على ذلك بقوله: كانت علاقة مصر مع تركيا متوترة، وكانت علاقتها مع سوريا يشوبها توتر متصاعد قد يصل إلى حد الحرب، بسبب تأييد سوريا لحزب العمال الكردستاني، فجاءنا خبر أن زلزالاً ضرب تركيا، فأرسلناه إليه لأنه ممكن يدفع الرئيس لتقديم العزاء للرئيس التركي، وبعثناه له بصيغة "عاجل"، وهذا معناه أنه مهم، وبمجرد أن قرأه مبارك رفع الرئيس سماعة الهاتف واتصل بالرئيس التركي، وأرسل مساعدات، وكان ذلك سبباً في تقليل التوتر بين مصر وتركيا.
ويضحك محمود صبرة مضيفاً "بعد ذلك جاءتنا تعليمات بأن أي خبر عن الزلازل يجب رفعه للرئيس". ثم يعلق: هذا يبين أن مبارك لم يكن له اتصال مباشر بالطاقم الفني للمعلومات ولا بمن يعدون له المعلومة، وأن الطاقم في تقييمه للمعلومة لا يعتمد على قيمتها.
لا ننقل له معلومات عن الداخل
أسرة صبره المكونة من زوجته أماني وابنيه محمد ومي
ويقول محمود صبرة إن طاقم المعلومات لا يهتم بنقل المعلومة صحيحة إلى الرئيس مبارك بقدر اهتمامه بألا تكدره تلك المعلومة، ويقدم نموذجاً لذلك؛ حدث عام 1985 عندما اختطف بعض الفلسطينيين طائرة مصرية وهبطوا بها في مالطا.
بعد ذلك تقرر أن تقوم قوات مصرية باقتحام الطائرة وإخلاء الركاب، وهدف العملية الانقاذ وليس الاقتحام فقط. جاءتنا تعليمات بأن خبراً مهماً من مالطا ينتظره الرئيس، ولا بد من إرساله فوراً إليه بمجرد وروده إلينا.
ويضيف: وصلني خبر من وزير الإعلام وقتها صفوت الشريف وكان مقتضباً جاء فيه ما يلي: "نجحت عملية اقتحام الطائرة المصرية في مالطا"، وكان التركيز على إبراز عنصر نجحت، وأنا هنا لا أخاطب الرأي العام ولكن الرئيس، فانتظرت لأن كل الوكالات ساعتها نشرت الخبر الذي تضمن مصرع الرهائن في عملية الاقتحام.
قمت بتأخير الخبر حتى أعطي معلومة صحيحة للرئيس، وكان يهمني كم عدد القتلى. فواجهت هجوماً بسبب التأخير، وكاد يتخذ إجراء عنيف تجاهي، فقلت لإحدى قيادات المكتب: جاءني أن 56 رهينة ماتوا و38 بقوا على قيد الحياة منهم واحد من المختطفين وبعضهم من طاقم الطائرة، فكيف أقول أن العملية نجحت، وبعثت الخبر بذلك فعلاً.
لقد كان وزير الإعلام يريد أن يحمل خبراً ساراً للرئيس، والعمل المهني هنا مهم جداً، فأنا أنقل للرئيس معلومة ولا بد أن تكون صحيحة.
ويكشف محمود صبرة أن المعلومات عن الداخل لم تكن تصل نهائياً للرئيس، "وحسب علمي وهو علم يقترب إلى اليقين، لم توجد غيرنا داخل مؤسسة الرئاسة كلها جهة تعرض على الرئيس معلومات، وخصوصاً مما تتناوله وسائل الإعلام العالمية أو المصرية سواء معارضة أو قومية".
نسخة لجمال أيضاً
محمود صبره يعرض أحد الأوراق
ويفجر صبرة قنبلة بأن التقارير أو النشرات التي يقدمها، كانت حتى عام 1997 عبارة عن نسخة واحدة للرئيس فقط، لكن بعد ذلك طلبوا منه عمل نسختين، واحدة للرئيس والأخرى لجمال مبارك.
وفى مرحلة تالية أمر الرئيس بأن يتم عرض كل خطاباته على جمال مبارك، بحيث كان يتم تكليف أكثر من صحفي بكتابة الخطاب، ثم يعيد الدكتور أسامة الباز صياغته سياسياً، وبعد ذلك تعرض على جمال مبارك قبل أن يتم تقديمه للرئيس نفسه.
وفي مرات عديدة قام جمال مبارك بتعديل الخطابات بشكل أثار قلق الدكتور أسامة الباز وضيقه ودفعه للشكوى، فطلب الرئيس من جمال عدم إغضاب الدكتور أسامة، وفهم جمال مبارك الإشارة بشكل مختلف، وبدأ مع الدكتور زكريا عزمي فى تنحية أسامة الباز جانباً.
بدأ نفوذ جمال يتضخم مع بداية الألفية الجديدة - والكلام لمحمود صبرة - حتى بدا كأنه يحكم مصر بمفرده، فاختار حكومة نظيف بالكامل وأدار انتخابات 2005 و2010 واختار النواب، ودلل على كلامه بأن الرئيس مبارك كان خلال السنوات الأخيرة يقضي حوالى 300 يوم فى شرم الشيخ خلال السنة، وترك كل شيء لجمال ومجموعته.
ويشير محمود صبرة إلى أن مبارك كان قاسياً وعنيداً "سمعت أنه كان &S236;يتصرف بطريقة مهينة ويضرب ويشتم أحياناً، ويستهين بالآخرين كثيراً".
ويقول صبرة "سمعت ذات مرة أنه زار سيناء، فقال له أحد البدو إن حال سيناء أثناء الاحتلال الإسرائيلي أفضل من حالها بعد التحرير، وهذه العبارة أغضبت مبارك جداً، وثار وعنّف المحافظ، ووصلت أنباء أن مبارك ضرب المحافظ بالشلوت".