fiogf49gjkf0d
لم يكن الطيار محمد حسني مبارك يعلم يوم أن اختاره السادات نائبا له أنه سيتربع علي عرش مصر بمثل هذه السرعة.. بعـد أن سقط السادات بجواره صبيحة يوم السادس من أكتوبر 1981مصابا بوابل من الرصاص.. دون أن يصاب حسني مبارك بخدش واحد أو رصاصة طائشة.. وقد كشفت تداعيات الأحداث فيما بعد أن مبارك كان عميلا مخلصا للمخابرات الأمريكية منذ أن كان نائبا للرئيس السادات.. وأن اغتيال السادات لم يكن صدفة ولم يكن من تدبير الجهاد الإسلامي بمفرده.. وبعد أن اعتلي مبارك عرش مصر لم يكن يعلم أيضا أنه سيبقي 30 عاما كاملة يفسد عبرها الحياة السياسية ويخرب الاقتصاد المصري ويضع مصر في ذيل قائمة الأمم المتخلفة.. بفضل إصراره علي الإبقاء علي تلك الحاشية الفاسدة المفسدة التي أحاط نفسه بها.. إلي أن ظهرت الفكرة الشيطانية التي قادتها سوزان مبارك بإصرار وهي مشروع التوريث.. إذ إن خطايا مبارك وزوجته ونجليه كانت قد وصلت إلي درجة لا يمكن أن تضمن لهم الخروج الآمن من السلطة.. وكانت سوزان أول من يعلم أن ما ارتكبته هي وعائلتها وأخوتها من جرائم النهب المنظم لا يمكن أن يمر مرور الكرام لو ابتعدت عن السلطة سنتيمترا واحدا.. وكان مبارك يعلم أيضا أن ذنوبه تجاه مصر والمصريين لا تغتفر فقد خان الأمانة.. وخان ضميره العسكري.. وانزلق في ارتكاب جرائمه السياسية والاقتصادية والأمنية التي تصل إلي حد الخيانة العظمي.. وعندما زور انتخابات مصر قال لمعارضيه «خليهم يتسلوا».. وعندما أعلن شباب مصر عن موعد قيامهم بالمظاهرات يوم 25 يناير 2011 قال له حبيب العادلي «إنهم شوية عيال».. وقال صحفيو النظام المأجورين: «وهل يعلن ثائر عن موعد ثورته!!.. إنهم يلعبون في واقع افتراضي ليس له وجود علي أرض الواقع».. ولكن كل هذه المقدمات كانت نذيرا مبكرا باقتراب ليلة سقوط الديكتاتور.. وبدأت الثورة ولم تنجح كل ترسانات سلاح مبارك وحبيب العادلي من إيقافها.
وكان خطاب عمر سليمان نائب رئيس المخلوع جاء في الخامسة والنصف من مساء الجمعة 11 فبراير2011 ، معلنا تنحي مبارك عن رئاسة مصر، وتكليف المجلس الأعلي للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد.. هو اللحظة الختامية في مغادرة مبارك وعائلته لقصر العروبة.. لكن الساعات التي سبقت هذا الخطاب.. حملت معها أسرارا كثيرة.. شملت مشاجرات واختلافات وتشنجات من الدائرة التي أحاطت بمبارك.. بدءا من جمال وعلاء وسوزان، مرورا بالشخصيات المقربة من مطبخ الرئاسة وهي زكريا عزمي رئيس ديوانه الجمهوري.. وأنس الفقي وزير إعلامه.. وعندما ضاقت الدائرة علي مبارك وعائلته.. وأصبح لا مفر من الاستسلام والخضوع لإرادة الشعب ومن هنا بدأ التخبط وبدأت تداعيات انهيار نظام الديكتاتور التي بدأت:
بأن اعتدي علاء علي جمال بالضرب.. أما سوزان التي رفضت أن تصدق ما يحدث حولها فقد كانت قاب قوسين أو أدني من أن تصبح (الوالدة باشا) والدة رئيس الجمهورية الجديد.. فقد تعرضت للإغماء مرتين وبعدها صرخ مبارك فيهم جميعا: «ضيعتوا شرفي العسكري».
دراما خطاب الخميس
أمر مبارك رجاله باستدعاء محمود لبيب ليصبغ له شعره قبل بيان التفويض.. وقال جمال مبارك لممتاز القط : «كلها ثلاثة أيام وتنتهي الأزمة».
كانت الساعات التي سبقت خطاب مبارك يوم الخميس، هي دراما الرحيل، لكنها كانت معلقة علي أمل بسيط من الرئيس شخصيا، وعدد من المحيطين به، أولهم ابنه جمال، وأنس الفقي فدارت هذه الصراعات بين أجنحة الحكم.. فالخطاب الذي كان من المقرر أن يلقيه مبارك في هذا اليوم.. كان خطاب التنحي، وتسربت أخبار عن ذلك إلي دوائر معينة في النظام.. دفعت بعض المسئولين وعلي رأسهم حسام بدراوي الذي عين أمينا عاما للحزب الوطني منذ ساعات.. إلي القول صراحة إن مبارك سيتنحي وأنه سيعلن ذلك بعد ساعات.. لكن سرعان ما نقلت وكالات الأنباء تصريحات وضعت كل التوقعات الخاصة بـ «التنحي» في المربع صفر.. فقد رفض جمال مبارك وأنس الفقي أن يكون الخطاب هو خطاب التنحي وصمما علي هذا الموقف وكان سندهما في ذلك أن الخطاب يكفي أن يشمل علي التركيز علي التعديلات الدستورية وعلي إجراء التحقيقات الخاصة بما حدث من إطلاق نار وبلطجة أدت إلي سقوط شهداء الثورة وكذلك علي نظر محكمة النقض لصحة عضوية نواب البرلمان وأخيرا الإعلان عن تفويض عمر سليمان بمهام رئيس الجمهورية لمتابعة كل هذه التفاصيل.. وقام الفقي وجمال بالإشراف علي الخطاب وما جاء فيه.. وصمما علي أن يسير الخطاب وفقا لنهج التأكيد علي أن الرئيس مازال ممسكا بسلطاته.. وحرصا علي الإكثار من وجود الكلمات الدالة علي ذلك.. ومنها تعبيرات «سأتابع بنفسي» وغيرها.. ووضع الاثنان جمال والفقي مسألة التفويض لعمر سليمان في الجزء الأخير من الخطاب الذي شارك في كتابته أكثر من مسئول كبير في جهاز التليفزيون عبر عدة مسودات.. بعد أن حدد جمال والفقي خطوطه العريضة، وتوصلا فيه إلي إثارة نقطة جديدة.. وهي التركيز علي أن الرئيس لن يخضع للإملاءات الخارجية في ترك الحكم.. بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي عبارته الصارخة : «الآن.. «وجاء الحماس لهذه النقطة تحديدا ربما قد تنقل الجماهير الثائرة إلي موجة أخري.. وهي رفض التدخل الخارجي في شئون مصر.. وهي الفزاعة التي استخدمها النظام كثيرا ضمن وسائل تثبيت أركانه.
عـــــــلاء يرفض بقاء والده في السلطة
كان جمال مبارك وأنس الفقي.. يسابقان الوقت من أجل وضع تصور يعيد مبارك لسدة الحكم.. بعيدا في بعض الأحيان عن مبارك نفسه.. وهذا ما رفضه علاء مبارك جملة وتفصيلا.. لذلك صمم أن يعرف كل شيء بشأن التفاصيل الخاصة بوالده، وبدا في هذه اللحظات العصيبة التي تمر علي العائلة لأول مرة.. أنه ليس مهموما بتفاصيل السلطة ودروبها، بقدر ما كان مهموما بمصير مبارك الأب خاصة في هذه السن وكانت الرؤيتان لجمال وعلاء علي طرفي النقيض تماما.. فجمال يبحث عن بصيص أمل للبقاء في السلطة.. والثاني يبحث عن ترك الجمل بما حمل.. ولما علم علاء بما استقر عليه شقيقه جمال وأنس الفقي.. انتفض غاضبا ووجه الشتائم لجمال.. واتهمه بأنه هو السبب في كل ما هم فيه الآن.. وتطور الأمر إلي الاعتداء عليه بالضرب.. مصمما علي أن يكون خطاب والده هو خطاب التنحي لإنهاء الأمر.
- كانت هذا الأجواء العصيبة تسير وفقا لما يمكن تسميته بـ«إدارة الأزمة» في القصر الرئاسي ساعة بساعة، كما تسير وفقا لـ«الفعل ورد الفعل»، ويغلفها شحنات إنسانية مؤثرة، لا يعرف كل الحاضرين إلي أين تحملهم المقادير بعدها.. وإلي أي نهايات مكتوبة لهم سيرونها بعد ساعات أو بعد أيام.. كان جمال يستدعي بعضا من ميراثه القصير في العمل السياسي.. واضعا فيه رهانه الأخير.. وكان علاء يتصرف علي نحو أنه الابن الذي يحمل مشاعر إنسانية فياضة نحو والده.. داعيا أن تنزاح هذه الغمة عن العائلة.. ظننا منه أن إنهاء الأزمة هو الخروج منها في نهاية المطاف.. ولكن جمال ووالدته سوزان كان يعلمان أن خروجهم من قصر الرئاسة يعني بداية محاكمتهم جميعا.. لهذا كان الخلاف محتدما بين جمال وعلاء.. حتي صرخ مبارك في وجه الجميع: «كفاية.. كفاية.. إنتم ضيعتوا شرفي العسكري».
كانت صرخة مبارك زلزالا في وجه كل الأطراف التي تبحث عن مخرج.. لأزمة حكم أمتد لثلاثين عاما.. كان الجميع قد بدأوا يستشعرون أنهم أمام عرش يتهاوي قبل أن يسدل الستائر عليه نهائيا.. ووضعت هذه الصرخة حدا لمشاجرة جمال وعلاء، لكنها في نفس الوقت كانت هي المعبر إلي ترجيح كفة رؤية جمال والفقي علي رؤية علاء.
زكريا عزمي
لم يكن زكريا عزمي رجل القصر القوي حتي يوم 25 يناير.. بعيدا عن هذه التفاصيل.. ففي الوقت الذي بدا فيه أنه كان مشغولا بترتيبات ما بعد الرحيل.. لأنه الأكثر استشعارا بالوضع من بين الحاضرين في هذه اللحظات العصيبة.. كانت كلمته لمبارك: «كتفي بكتفك في الخروج يا ريس».. ولم يفوّت أنس الفقي الفرصة خارج الحديث عن الخطاب فسأل الرئيس مبارك: «أنا هآخد تعليماتي من مين ياريس.. منك ولا من الجيش» فرد عليه مبارك: «مني.. أنا مازلت الرئيس».
انتقلت خطة جمال والفقي في خطاب الخميس إلي حيز التنفيذ العملي.. وتم تسجيل الخطاب وفقا لاقتراحات من أنس الفقي في قراءته تتم علي نحو أن يقرأ مبارك خطابه من جهاز «الأوتوكيو» حتي لا يبدو منكسرا أمام الجماهير.. لكن مبارك لم يكن مستريحا لهذا الأمر.. مما اضطر الفنيون أن يسجلوا الخطاب بزاوية ثابتة للكاميرا.. كان اقتراح الفقي هو نوع من اقتراحات الوقت الضائع.. فالثائرون لم يكونوا ينتظرون كيف سيكون شكل رئيسهم الذي ثاروا ضده.. ولم تكن وسائل علم الاتصال بالجماهير التي لا يفقه فيها الفقي شيئا هي الحكم في هذا المشهد كله فقد كانت الجماهير تنتظر المضمون الذي سيقوله مبارك وهو «التنحي» ولما استمعوا إلي ما قاله انفجرت الشعارات من جديد: «يسقط.. يسقط.. حسني مبارك» ولم يلتفت أحد إلي خطاب عمر سليمان الذي كان معدا هو الآخر لإذاعته.
- كان الخطاب مفاجئا للجميع محليا ودوليا، ولم ينفع «كود» التدخل الخارجي، في اقناع الجماهير الثائرة.. وخرجت الجماهير متوجهة إلي القصر الرئاسي وكان هذا بالتحديد نقطة تحول جديدة تمثلت في دور القوات المسلحة.. فقد صممت قيادة القوات المسلحة علي التمسك بموقفها بعدم التعرض لهذه المظاهرات الزاحفة.. ورفضت أيضا اقتراحا بنزول الأمن المركزي في حمايتها لمواجهة هدير الثورة.. وكان هذا المنحي هو بمثابة الحماية الأكبر للثورة ومكاسبها.
كانت التفاعلات الدولية تراقب ما يحدث قبل ساعات من خطاب الخميس وبعده أيضا فمن أمريكا كان رئيس المخابرات الأمريكية علي الخط، ومن خلال اتصالاته رجح في تصريح له أن يقوم مبارك بالتنحي وفقا لمعلومات رجحتها له السفيرة الأمريكية ولم تقطع السفيرة بهذا الاختيار خوفا من حدوث تحولات مفاجئة وهو ما حدث بالفعل.
كان يوم خطاب التنحي الذي ألقاه عمر سليمان، هو ختام تراجيديا السقوط.. حيث تيقن مبارك أنه أصبح وحيدا كما أشار بذلك إلي صديقه النائب الإسرائيلي بنيامين بن إليعاذر في اتصال تليفوني بينهما كان هو الأخير بعد أن تعددت مثل هذا الاتصالات بينهما أثناء مسيرة الثورة.. والمثير أن هذه الاتصالات كانت تتم مع بن إليعاذر في الوقت الذي أقلع فيه المقيمون في الرئاسة عن الاتصالات بينهم عبر تليفونات الرئاسة.. واضطروا إلي استخدام موبايل سليمان عواد المتحدث الرسمي باسم الرئاسة.
التنحي هو القرار الوحيد والأخير
لم تكن هناك فرصة أخري أو اختيار آخر.. فتم حسم قرار التنحي مساء الخميس بعد المظاهرات التي زحفت إلي قصر العروبة لكن القرار تم تأجيله إلي يوم الجمعة للنظر واقعيا إلي حجم المظاهرات المتوقعة في هذا اليوم ومع صبيحته انتهي الأمر تماما بين أطراف القصر ورفض مبارك تسجيل خطاب التنحي وأحال الأمر إلي عمر سليمان وبالرغم من أن القرار تم اتخاذه مبكرا إلا أنه تم الاستقرار علي إذاعته بعد أن يكون مبارك والعائلة رحلوا إلي شرم الشيخ وقبل الرحيل كانت حرائق كبيرة تشب في أوراق مهمة في قصر الرئاسة.. لا يعرف أحد مدي طبيعتها وما تحتويه من أسرار وما إذا كانت خاصة بالعائلة أو بأمور سياسية سارت عليها الدولة طوال ثلاثين عاما مضت من عمر مصر.
خرجت العائلة قبل انتهاء صلاة الجمعة بقليل من قصر العروبة علي طائرتي هليوكوبتر الأولي عليها الرئيس وسكرتيره الخاص.. والثانية تحمل حراسه ومرافقيه بحراسة 4 أفراد من القوات الخاصة وفور أن حطت الطائرة في مطار شرم الشيخ نقلت سيارة مرسيدس مبارك إلي مقر إقامته في حراسة الحرس الجمهوري والقوات المسلحة.. ذهب مبارك إلي مكانه المفضل لكن الجديد هذه المرة أنه لن يجد في شرم الشيخ صديقه المفضل رجل الأعمال حسين سالم الذي شيد له استراحته في المنتجع العالمي وهرب إلي فرنسا فور اندلاع الثورة تاركا وراءه عشرات الأسئلة حول أصل ثروته ومن يشاركه فيها.
كانت هناك طائرة أخري بعد طائرة الرئيس عليها علاء مبارك وزوجته وابنه عمر بالإضافة إلي خديجة الجمال زوجة جمال وفريدة ابنتهما وبعدها بساعات سافرت سوزان مبارك علي طائرة خاصة ليأتي السؤال: كان هناك اعتقاد يقيني بأن شمل العائلة قد التأم في شرم الشيخ.. ولم يكن يعلم الجميع أن هناك مكانا آخر سيلتقي فيه الجميع وهو سجن طرة.. وسقط الديكتاتور ولم تشفع له ضربته الجوية الأولي.. فلا التاريخ والشعوب بمقدورها أن تمحو الخطايا أو تغفر ذنوب طغاتها الظالمين.