لطالما اعتبر الإسلاميون دولة الكويت ملاذا آمنا للتنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين، إذا ادلهمت بهم الخطوب، فهل الكويت اليوم هي فعلا كما يأملون؟

نظريا وتاريخيا، الكويت كانت وستظل حضنا دافئا ومأوى آمنا لكل الأفكار والانتماءات والتوجهات على اختلاف أيديولوجياتها ما دامت ملتزمة سبيل السلم الأخلاقي والأمن المجتمعي. والرؤية الاستراتيجية للنظام في الكويت تسير دوما في طريق الانفتاح على الآخر وخلق أجواء الحرية المسؤولة لتحقيق مفهوم التنمية البشرية والفكرية المستدامة.

ولهذا السبب وجدت جماعة «الإخوان» لنفسها موطئ قدم متقدما في المجتمع الكويتي المتسامح بطبعه والمنفتح دوما على مزيد من الحريات والحقوق الإنسانية، فأنشأوا جمعية الإرشاد الإسلامية التي أكدت في قانون إنشائها «أن هذه الجمعية الدينية لا تتدخل في السياسة، وهدفها الوعظ الحكيم والإرشاد الحسن» قبل أن يتم تعديل اسم الجمعية إلى «جمعية الإصلاح الاجتماعي» لتكون محفلا أخلاقيا «ومنطلقا للدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة»، وأكدوا في قانون إنشائها رفضهم العمل السياسي وأن النصح والتوجيه من خلال المطبوعات والإذاعة والتلفاز هو منهجم في ترسيخ ما يعتقدونه لمصلحة المجتمع، وانبثقت عن الجمعية لجان خيرية عدة، تم إغلاق بعضها لمخالفتها القانون، لرعاية الأيتام والأسر المعوزة المتعففة والاهتمام بالجانب القيمي والأخلاقي للناشئة والشباب وحماية المجتمع من لوثة السقوط الأخلاقي وموجات الإلحاد والشر التي تهب رياحها بين الفينة والأخرى، وكان يقوم على إدارتها كفاءات وطنية مخلصة عرفهم أهل الكويت نظيفي الكف، ولاؤهم المطلق لقيادتهم السياسية وإن برز خلاف أو تباين في وجهات النظر السياسية فيتم حله ضمن أسوار البيت الوطني لا خارجه، ودون الاستقواء على البلد بالأجنبي أيا كان موقعه الجغرافي أو العقـــــائـــــدي... ولهـــــذا كانت الكويت ملاذا آمنا للجماعة ولغيرها من الجماعات.

في مرحلة الغزو العراقي للكويت كان موقف تنظيم جماعة «الإخوان» مخيبا للآمال، وصدحت حناجر خطبائهم في السعودية ومصر والأردن والسودان وفلسطين وتونس والجزائر وغيرها، مؤيدة لجريمة الغزو أو داعية الكويت إلى ضرورة وقف التحرك الدولي لتكوين قوات التحالف، وعارض هؤلاء بذلك التوجهات السياسية لقادة بلدانهم ولفتاوى كبار علماء الدين في المملكة وغيرها التي ناشدت الجميع الوقوف صفا واحدا لاستعادة الشرعية الكويتية والتخلص من الاحتلال العراقي.

وعاش الشارع الكويتي حينها حالا من الحنق على الإخوان المسلمين لمواقفهم المؤيدة لغدر الشقيق والمناهضة للعدالة الإنسانية والمخالفة للنصوص الدينية، وفقدت جمعية الإصلاح الاجتماعي الكثير من بهرجها الذي كشفت حقيقته مواقف منتسبيها، لكنهم اعتادوا على «البراغماتية السياسية» وممارسة ألاعيب «الصقور والحمائم» للاحتفاظ بمواقعهم وما تجلبه من منافع على مختلف الصعد، فأصدروا في خطوة تكتيكية بيانا أعلنوا من خلاله «فك ارتباط» إخوان الكويت بالتنظيم العالمي للجماعة، مراهنين على الوقت للاستفادة مجددا من تسامح الشعب الكويتي المجبول على العفو والغفران... وقد كان.

في مرحلة ما بعد التحرير سعى الإخوان المسلمون إلى المشاركة السياسية عبر الانتخابات البرلمانية، وأعلن إخوان الكويت تأسيس الحركة الدستورية الإسلامية «حدس»، وتم توزير بعض منتسبي الجماعة الذين لم يتوانوا عن اقتناص كل الفرص السانحة لترقية أتباعهم والمتحالفين معهم ومنحهم مناصب قـــــيادية فــــي كـــل الوزارات التي تمكنوا فيها، حتى لم يبق موقع إلا وللإخوان المسلمين فيه عضو عامل أو مؤيد مما أغرى قياداتهم الــسياسية باســتثمار الوقت الذي رأوه مناسبا لتقوية وضعهم السياسي كونهم طلاب سلطة في الدرجة الأولى، واطلاق ممارسات سياسية غير مدروسة العواقـــب وتضـــــر بالاستقـــرار الوطني.

بدأوا في ضرب العملية السياسية من خلال التعسف في استخدام السلطة الرقابية والتهديد المستمر بالاستجوابات البرلمانية بهدف إحراج السلطة وإشغالها، ثم لجأوا إلى الاعتصامات ذات الطابع الإخواني، التي كانوا يهدفون من ورائها إلى شل الحياة الاقتصادية وتهديد الأمن ومحاولة تصدير رسالة مفادها أن الجماعة قادرة على مناكفة النظام متى شاءت بهدف تحسين دورها في سلم السلطة، وارتفعت عقيرتهم بالتهديد المباشر وغير المباشر بعد سقوط أنظمة دول ما أطلق عليها «الربيع العربي» وشعورهم بالنشوة إثر استيلاء جماعة الإخوان المسلمين على مقاليد السلطة في مصر لأشهر عدة، حتى بلغ بهم الحال في الكويت إلى الاقتناع بأنها ستكون الدولة الخليجية الاولى التي سيتغير نظامها ولو تدريجيا، فرفضوا تنفيذ القرارات الإدارية المنظمة للتظاهرات والاعتصامات، وسعوا لمخالفة القانون بهدف استصناع سبب لمواجهة الأجهزة الأمنية وخلق الفوضى في المجتمع بغية إضعاف النظام السياسي للبلاد، وقام احد نوابهم باستعراض قوة في توقيت مدروس وتحدى السلطات من خلال الدعوة لإقامة محاضرة حاشدة خارج حدود منزله الخاص وتجييش الأتباع للتواجد بأعداد كبيرة لإحراج السلطات واستفزازها والتشابك معها. بعد ذلك توالت الأحداث في الكويت وحصلت تظاهرات ومواجهات في الشارع يعرف الجميع ان الجهاز التنفيذي المنظم فيها تابع لـ«الاخوان» الذين نجحوا في فترة ما في توجيه تحركات المعارضة في غير وجهتها، محدثين شرخا كبيرا في النظام العام.

وعندما تمكنت القيادة السياسية من اعادة الامور الى نصابها سياسيا وامنيا، عادت قيادات في «الاخوان» الى سيرتها القديمة، فذهبوا الى الكبار حاملين لعبة «الصقور والحمائم» وان الصقور اخطأوا وسيتم ابعادهم عن مواقع القرار، واقسموا مجددا على احترام القانون والدستور والولاء والبيعة مع ضمانات بعدم تخريب العملية السياسية مستقبلا.

سقط نظام «الإخوان» في مصر، وتم إدراج الجماعة على قائمة الإرهاب في أكثر من دولة عربية، واستعادت ذاكرة الناس السير الأولى لجماعة الإخوان المسلمين الممتلئة منذ قيامها «بصور الغدر والتسلق على المبادئ وجحود الفضل»... حسب تعبير اكثر من مسؤول سعودي ومصري.

والحديث عن «جحود» الاخوان المسلمين وبراغماتيتهم يطول، فوزير الداخلية السعودي المغفور له الأمير نايف بن عبد العزيز كشف عن كيفية استضافة عناصرهم وكوادرهم بعد صراعهم مع عبد الناصر وكيف بدأوا التدخل في الشؤون الداخلية للملكة وخانوا اليد التي ساعدتهم، وكذلك الأمر عندما شن الرئيس السوري حافظ الأسد الحرب عليهم ففتحت لهم المملكة العربية السعودية أبوابها واحتضنتهم وآوتهم وسهلت لهم الإقامة والحياة الكريمة والوظائف اللائقة وقدمت لهم ولأسرهم خدمات الصحة والتعليم المجاني لعشرات السنين، ثم كافأوها بجزاء سنمار وقلبوا لها ظهر المجن بعدما تصوروا أنهم أصبحوا قوة متمكنة... وهكذا هي سيرتهم في كل بلد يؤويهم وينتصر لهم.

هذا السلوك الإخواني دفع ببعض الدول التي احتضنتهم لسنوات وغضت الطرف عن طموحهم في السيطرة على الحكم إلى تصنيف الجماعة كحزب إرهابي غير مرغوب به، وجرمت أعمال أتباعه والمنتمين إليه في السعودية والإمارات ومصر وغيرها من الدول بهدف وقف تمدد التطرف في الفكر ولمنع حدوث أعمال إرهابية ممن ينتسبون إلى الدين الإسلامي الحنيف.

وازداد موقف «الاخوان» صعوبة عند ابتداء الأزمة الخليجية الأخيرة، خصوصا ان احد اسباب موقف دول المقاطعة هو اتهام قطر بايواء «الاخوان» وتوفير ملاذ اجتماعي وسياسي ومالي لهم. الجناح الفلسطيني للجماعة، اي حركة حماس، التي دافعت عنها قطر واعتبرت احتضانها سياديا، انتقل للضفة الأخرى واستجابت الحركة للتنسيق مع المخابرات العامة المصرية. اما الخليجيون وغيرهم ممن بقي هناك فهم يدركون انهم سيعيشون وضعا صعبا لوجستيا وماليا مع اي تسوية مقبلة او مصالحات. تركيا وانجلترا يمكن ان تكونا ملاذا لهم لكن الدولتين لا توفران لهما المدخول المطلوب الذي كان يتدفق باستمرار من المنطقة الخليجية.

عود على السؤال الأول من جديد، هل ستكون الكويت الملاذ الأخير للتنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين؟

في القراءة السياسية الواقعية، ستزداد اهمية الكويت اليوم لجماعة الاخوان، لانها الضرع شبه الاخير للتمويل. فليس سرا ان الاخوان كانوا من خلال يدهم المطلقة في المشاريع الخيرية او الدعوية او الاقتصادية او الاجتماعية يجنون الكثير الكثير من المال، وايضا ليس سرا ان احدا في السابق لم يكن يحاسب او يراقب التبرعات او اموال الخير التي تأتي وتستخدم احيانا في الانتخابات او دعم لوائح طلابية او مشاريع استقطابية او دعم «اخوان الخارج». اليوم يختلف الوضع، لان رقابة الدولة تحت مظلة القوانين الدولية على اعمال الخير يعني ان اموال التبرعات يجب ان تذهب الى مستحقيها من جهة، كما ان الرقابة الشعبية في بلد صغير لن تسمح باستغلال اموال الخير في مشاريع سياسية، فكل دينار يستغل في السياسة يعني انك تحجبه عن طالب علم او فقير او منطقة تحتاج الى بئر ماء.

ويرى مراقبون لمســيرة الجماعة عن قرب انه كان «ملحوظا لدى الجميع قـــبل إدراج الجماعة في قوائم الإرهاب العربية، أن معظم قادة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين في بلاد عربية عدة يعيشون وأبناءهم حياة بذخ مترفة، مع أنهم ليسوا أصحاب أعمال في الغالب، وأن سيطرتهم على منابع التبرعات والعمل الخيري مكنتهم من التدخل في المعادلات السياسية ودعم الأتباع في الانتخابات البرلمانية، وتحقيق منافع شخصية لهم ولأسرهم من خلال تبادل المصالح مع الآخرين، وإنشـــــاء كيانات اقتصادية من أموال الإنفاق الخيري التي سعى المتـــــبرعون لإنفاقــــها بهدف جعلها وقــــفا ينفق من ريعـــه على الأيتام والفقراء والمعوزين والمرضى، ليتفاجأوا أن أدعياء الدعوة ينصبون فيها أنفسهم رؤساء مجالس إدارات ومديرين تنفيذيين ويستحوذون لأنفسهم على رواتب مجزية أكثر مما يستحقون ويضيعون بها حق الأرملة والمســـكين واليتيم، ومــن خلالها يتم دعم رؤاهم الســــياسية ومحاربة الخصوم».

ويجيب هؤلاء عن سؤال الكويت وملاذها بأن الكويت «كانت وستبقى جزءا من النسيج الخليجي والعربي، ولن تسمح لمن زرعوا بذرة الشقاق الاجتماعي في بلدانهم أن يحصدوا الخير من الكويت، فالكويت راعية سلام في العالم ومنطلق الأصوات المدافعة عن الحقوق الإنسانية والداعية لحفظ الكرامة البشرية، لن تقبل أن تكون أرضها منطلقا لحملات الحقد والفوضى والتطرف والإرهاب». ويضيفون بأن الزمن تغير «فلئن تمكن الإخوان من الاستمرار في سياستهم تارة بحجة الدعوة إلى الله وطباعة المصاحف والمتاجرة بمآسي الفقراء والمعوزين وذوي الحاجات فإن الوقت الآن مختلف، ولم يعد تنطلي على الناس أساليب اللجوء إلى الشعارات الدينية لتحقيق مصالح الجماعة... أصبحت مراعاة مصالح الأوطان هي المقدمة في نفوس الشعوب على ما سواها».

في سطور

سايكس بيكو !

نشأة جماعة الإخوان المسلمين على يد مؤسسها حسن البنا كانت مريبة، فقد نشأت في مرحلة سقوط الدولة العثمانية، وتلألأ نجم الإمبراطورية الإنكليزية في سماء المنطقة العربية وما تلا ذلك من تقسيم للأقاليم العربية حسب خطة سايكس بيكو، واستحداث كيانات جديدة تم التوافق دوليا على الاعتراف بها كدول مستقلة، وكان الإنكليز هم المهندس الرئيسي والراعي الرسمي لكل الكيانات والجماعات والأحزاب والدول في ذلك الوقت، وقد حوربت جماعات عدة وتم الإجهاز على كل حزب يناهض النفوذ البريطاني في المنطقة إلا جماعة الإخوان المسلمين التي سمح لمؤسسها التنقل في المدن والقرى والنجوع المصرية لتثبيت أركان دعوته واستقطاب الآخرين لها، ما دفع البعض وعبر عشرات السنين للتساؤل عن السر وراء غض طرف الإنكليز عن حسن البنا ودعوته الإخوانية حتى كبرت وتمددت في دول عربية عدة، والتساؤل ما زال قائما عن حقيقة العلاقة بين المملكة المتحدة وقيادات في «الإخوان المسلمين» الذين تؤويهم بريطانيا منذ سنين عدة وما زالوا يحظون برعاية وحماية التاج البريطاني.

ماذا قال بن باز؟

كانت الجماعة على مر الأزمان موطنا للنقد سواء على المستوى الحكومي أو الشعبي أو على مستوى علماء الدين، فقد انتقد جماعة الإخوان المسلمين سابقا وحاليا عدد من كبار العلماء في المملكة العربية السعودية على رأسهم الراحل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رئيس هيئة كبار العلماء السابق والشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله والشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء في المملكة وغيرهم الكثير.

وتتركز هذه الانتقادات في إهمال الجماعة الدعوة إلى التوحيد وتقصيرها في محاربة عبادة القبور والبدع، وأنها جماعة حزبية يؤدي عملها إلى تفريق المجتمع من خلال تشكيل أحزاب وجماعات تفرق المجتمع الواحد، ومخالفتهم لأولياء الأمور عبر الدعوة إلى تنظيم المظاهرات وتأليب الشارع ضد النظام والعمل على صناعة الفوضى بغية إشاعة الفتنة في بلاد المسلمين.