في تعارض صارخ لروحانية الضيف الكريم، وفي صورة لا تشير إلى أي من أنواع الحكمة التي يحملها ذلك الضيف، رأينا كيف اندفعت جموع الناس نحو الجمعيات التعاونية والأسواق، مع إعلان مهرجانات شهر رمضان وتخفيضاته، فأخذ المتسوقون يحملون كل ما تقع عليه أعينهم، مما يحتاجونه ومال لا يحتاجونه، وكأننا مقبلون على موسم مجاعة وليس طاعة. ولعل الصور ومقاطع الفيديو التي انتشرت عبر مواقع التواصل، وما التدافع والازدحام على المواد الغذائية الخاضعة للتنزيلات، دليل على ثقافة متجذرة في المجتمع تتعلق بالاستهلاك عامة، وفي شهر رمضان خاصة.

ففيما بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم شهر رمضان عندما أثر عنه قوله «أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة» رأينا الاستعداد له بتخزين كل أنواع الطعام، مع بدء أيامه غصّت الموائد بأنواع مختلفة من الطعام، بعضه لم ينل حظه من الأكل، فكانت عاقبته في حاوية القمامة!

لا شك أن هذا السلوك من الثقافة الاستهلاكية جاء نتيجة الطفرة المالية والاقتصادية التي شهدتها البلاد بعد اكتشاف النفط في منتصف الستينيات من القرن الماضي، والتي من خلالها توافرت القدرة المالية لدى الفرد من شراء ما يحتاجه ولايحتاجه في حياته، وهذا بدوره جعل من هذه السمة نعمة ونقمة في نفس الوقت بسبب تحول المجتمع بشكل كامل الي مجتمع استهلاكي بشكل كبير، لعل أبلغ تعبير عنه كلمة أحد كبار السن لأولاده: «قد حدثناكم عن جوع مر بنا، وإني لأخشى أن تحدثوا أبناءكم عن نعمة مرت بكم».

وكالعادة ومثل ما هو متوقع، ما ان يحل شهر رمضان الكريم حتى تبدأ الاسر استعدادتها لهذا الشهر من خلال شراء كل ما يلزم ولايلزم ايضا من الاطعمة والسلع الغذائية المختلفة بشكل غير عقلاني، وكأن هذا الشهر الذي من المفترض ان يكون شهر عبادة وطاعة وتهذيب للنفس البشرية صار شهرا لملء البطون والاكل فقط.

وأصبحت ظاهرة الاسراف في الأطعمة والمشروبات احدى العلامات الفارقة في هذا الشهر الفضيل على وجه الخصوص، والتي لاتقتصر على فئة معينة من المجتمع، كما يعتقد البعض وانما تشمل جميع الفئات، ونرى ذلك جليا في تسابق الغالبية العظمى من الاسر لشراء كل انواع الاطمعة من الاسواق والجمعيات التعاونية في مشهد غريب، ولعل صور الارفف الخالية من الاطعمة والتدافع من اجل الاستفادة من العروض لبعض البضائع التي تقدمها الشركات بالاضافة الى الطوابير الطويلة للمشترين امام «الكاشير» خير دليل على هذا الوضع غير الطبيعي، الذي يدفع للتساؤل هل نحن مقبلون على أزمة اقتصادية او حالة طارئة حتى يحرص الناس على شراء وتخزين كل تلك الاطعمة التي تفوق حاجاتهم اليومية.

ويعتبر «القريش» اول مظاهر الاسراف في الطعام الذي يبدأ قبل بداية شهر رمضان بيوم واحد، حيث يتسابق المواطنين لاقامة هذه المناسبة سواء داخل البيت او حتى في اماكن العمل من خلال الاعداد لوليمة كبيرة يمكن وصفها بالفاخرة التي تضم انواع مختلفة من «سخانات» الطعام باعتبارها آخر وجبة يمكن اكلها في النهار قبل حلول رمضان.

اما بخصوص وجبة الصائم الرئيسية، وبعد ان كانت «سفرة» الفطور في المجتمع الكويتي قديما تتكون عادة من طبقين أو ثلاثة اطباق فقط يتسيدها «اليريش» و«الهريس» اصبحت اليوم عبارة عن بوفيه شامل يتكون من انواع مختلفة ومتنوعة من الاطعمة الكويتية والعربية والاوروبية وحتى الاسيوية التي لايعرف المرء اي شيء يأكل منها.

وهذه الظواهر السلبية امتدت الى خارج نطاق الاسر والافراد، حتى شملت بعض مؤسسات الدولة والمجتمع المدني التي تحرص في كل سنة على اقامة الغبقات الرمضائية، وفي الوقت الذي تمتد فيه طاولات الطعام التي تضم اطباقا مختلفة ومتنوعة من الاطعمة لعشرات الامتار يصبح عدد «المعازيم» هو العنصر المفقود في هذه المعادلة، حيث يتم دفع آلاف الدنانير بناء على اعداد تقديرية لعدد المعازيم الذين سيحضرون هذه الغبقة التي كانت في الماضي وفق عادات وتقاليد المجتمع الكويتي عبارة عن مناسبة يقدم خلالها وجبات خفيفة مثل «النخي» و«الباجيلا» وبعض انواع الحلويات مثل الزلابية والمحلبية.

ولعل أكثر المناظر إيلاما هو مصير الطعام الكثير الذي لا يستهلك إلا جزء قليل منه، حيث سيكون مصير «جبال الأطعمة» في حاويات القمامة، بل ان البعض من الضيوف ممن لايحمدون نعمة الله يقومون بملء «صحونهم» بالاطعمة وجعلها بمثابة لوحة او رسمة من اجل تصويرها لعرضها على متابعيهم في «الانستغرام» أو «سناب شات» فقط وليس لأكلها، في حين يتم القاء كل شيء متبق في «صحون» البوفيه في نفس تلك الاكياس السوداء التي سيكون مصيرها في النهاية الحاويات.

ان الاسراف والبذخ وهدر الاطعمة في النفايات بشكل عام، سواء كان في شهر رمضان وغيره من اشهر السنة، امر ينكره الشرع ويخالف تعاليم ديننا الحنيف، انطلاقا قوله تعالى (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)، وفي الوقت الذي يتم فيه القاء فوائض الطعام التي هي في غالبيتها اطعمة سليمة في حاويات القمامة من اجل اشباع النفس والعين على «سفرة» الفطور، فان هناك المئات من الاسر والمحتاجين الذين لايستطيعون توفير قوت يومهم بل حتى انهم غير قادرين على توفير صنفين من الاطعمة على «سفرة» الفطور لاسرهم وابنائهم.

ان هذه الظاهرة التي بدأت تتوسع في الاونة الاخير بشكل كبير تحتاج الى وقفة حقيقية تبدأ اولا بتغيير الثقافة السائدة في المجتمع، وخصوصا وانها ثقافة غير صحيحة ولها اثار سلبية سواء على الوضع الاقتصادي والمالي للاسر من جهة او على صحة الانسان الجسدية والبيئة من جهة آخرى،لان صور اكياس القمامة السوداء التي تتكدس بشكل كبير بشهر رمضان الكريم امام حاويات القمامة المنتشرة امام المنازل والتي سيكون مصيرها بالنهاية الي مردم النفايات هي بكل تاكيد صور مؤلمة تدل على عدم شكرنا للنعمة التي انعم الله علينا بها.

جهود وطنية لجمع الأطعمة الفائضة



انطلاقاً من المحافظة على هذه النعمة، قام بعض افراد المجتمع بتنظيم حملات ومشاريع خيرية من اجل استقبال الطعام الفائض والمواد التموينية الزائدة عن الحاجة، لتوزيعها على المحتاجين.

«الراي» من جهتها قامت بالتواصل مع «بوأحمد» وهو احد القائمين على هذه الحملات، حيث اوضح في البداية ان الهدف من اقامة هذه الحملة التطوعية هو لتغيير ثقافة الاسراف وضمان عدم رمي الاطعمة السليمة في سلة القمامة، مؤكدا في الوقت نفسه انه اخذ موافقات مسبقة من بعض الجهات المسؤولة في الدولة من اجل اقامة هذا المشروع الخيري.

واشار بوأحمد الى ان آلية جمع الاطعمة الفائضة تتم اما عن طريق ارسالها مباشرة الى مكان تجميع الاطعمة في بيته او يتم التواصل معه شخصيا من خلال مكالمة او رسالة هاتفية من اجل ارسال سائق يقوم بأخذ الاطعمة الزائدة، واوضح ان هذه الاطعمة والمواد التموينية الزائدة يتم توزيعها في وجبات منفصلة على الاسر المتعففة والمحتاجين مهما كانت جنسياتهم،لافتا ان اليومين الثاني والثالث من رمضان على وجه التحديد شهدا تفاعلا كبيرا من قبل المواطنين الذين تسارعوا في تقديم كل انواع الاطعمة الزائدة عن حاجتهم.

وشدد بوأحمد على ضرورة اقامة مثل هذه المشاريع في المجتمع خصوصا وانها مشاريع خيرية لاتتعلق باستقبال الاموال والتبرعات النقدية وانما تتعلق بتوفير الاطعمة التي سيصبح مصيرها الى سلة القمامة الى المحتاجين لها، مضيفا«لم اتوقع ان هناك هذا الكم الكبير من الاسر المتعففة التي لاتجد قوت يومها».