ضمن فعاليات ديوانية الأفلام، عرض نادي الكويت للسينما الفيلم السويدي الشهير عذابات آنا، ضمن خماسية سينمائية يعرض خلالها خمسة من أفلام المخرج والمؤلف والمنتج العالمي انجمار بيرغمان (1918-2007) وهي بالإضافة إلى عذابات آنا: الختم السابع، بيرسونا، العار، و أخيراً التوت بري.
الفيلم من تأليف بيرغمان أيضاً، ومن بطولة ماكس فون سيدو وليف أولمان وبيبي اندرسون وجوزيفسون إيرلاند، وهو من انتاج عام 1969ومدته 100 دقيقة.
قدم للفيلم مدير نادي السينما.الزميل الناقد السينمائى عماد النويرى .
وعقب على الفيلم رئيس قسم النقد في المعهد العالي للفنون المسرحية الدكتور علي العنزي، الذي طرح في البداية تساؤلات عن سبب التئام شمل عشاق الفن السابع حول بيرغمان مجيباً بالقول، "إن أسباب لا حصر لها تدعونا لتدارس بيرغمان أبرزها أن كبار المخرجين على رأسهم كوبولا، كوبريك، سكورسيزي وودي آلان وغيرهم، عشقوا أفلامه بسبب جمال صورها ومهاراته السينمائية وروعة مؤلفاته، واعتبروه عبقرية لا يمكن الاقتراب منها وكأنه شيء مقدس". وقال "رغم أن بيرغمان اعتبر أن اتجاهات العنف الهوليوودية في السينما العالمية هي اتجاهات شكلية تستدرج المشاهد الى قرار غبي وغير واع، إلا أن ثلاثة من أفلامه حصدت الأوسكار"، وبلغت أعماله 44 فيلماً ونحو 100 مسرحية وعشرات الأعمال التلفزيونية التي قدمها برؤية جاوزت قواعد العمل الفني، وانكب على كتابتها بنفسه كأعمال ادبية أشبعها فلسفة وفكرا وتأمل واندهاش".
وأشار العنزي إلى أن فيلم عذابات آنا الذي عرضه نادي السينما، يعد واحداً من أجمل أفلام بيرغمان وهو جزء من ثلاثية تتضمن Hour of the Wolf و Shame، وتدور أحداثه حول البطل أندرياس (ماكس فون سيدو) الذي يعيش في عزلة في الجزيرة، بعد أن تخلت عنه زوجته في وقت ما سابق، وجمعته في منزله الجديد علاقة صداقة جديدة بعائلة تسكن على مقربة من كوخه الجديد، وتتكون أسرة جاره من الزوج أليس (جوزيفسون إيرلاند)، وهو مهندس معماري ناجح يحب الرسم؛ والزوجة إيفا (بيبي أندرسون)، وصديقتهم الفضلى آنا (ليف أولمان )، التي تتعافى من حادث سيارة راح ضحيته زوجها وطفلها.
أقام البطل أندرياس في بداية الفيلم علاقة عابرة مع زوجة جاره إيفا، وهي امراءة جميلة يتضح أنها تخفي تعاسة وحزنأ في قرارة ذاتها الملتاعة. إنها تحب زوجها ولكنها ترى أنه يهملها و "أن لا لزوم من قبله، لها في حياته ".
ويمضي العنزي موضحاً أن بيرغمان قدم عقب هذه النزوة، حكاية حب جديدة يخوضها أندرياس بجدية أكثر مع الجريحة آنا التي ستشاركه الحياة في كوخه، وتعيش ظروفاً اجتماعية مشابهة لظروفه؛ فهو مطلق وهي أرملة.
يتضح من سياق الفيلم السويدي المترجم للإنجليزية، أن أنا إمرأة شهوانية تتحدث كثيراً عن ضرورة السعي لتحقيق الكمال الروحاني، وتدعي أن "الكمال" كان متوفراً في زواجها المفقود، لكن شفافيتها الدينية هذه يواكبها غموض أخلاقي، إذ أنها تمارس التضليل مع حبيبها الجديد أندرياس مدعية مثالية علاقتها بزوجها الأول رغم دراية أندرياس التامة عبر رسالة أخذها من محفظتها، بضعف زواجها وحقيقته الواهنة والمتضعضعة، وأن زوجها المتوفى حاول بحسب الرسالة من دون جدوى تركها، بسبب مطالبها العاطفية غير المعقولة التي كان يحذرها منها زوجها، والتي كان "من شأنها أن تؤدي الى العنف العقلي والنفسي، والجسدي".
ورأى العنزي أن لدى بيرغمان نوع خاص به من التشويق المتصاعد من أحداث عادية، كما أنه يملك وسائل رائعة في إعداد وتقديم مشهد شخصياته، ليصبح، كمخرج هو الخالق الذي يبحث عن سرية خاصة في ذواتها تدفع المتفرج لتخمين معناها والوصول الى القلب منها؛ مشيراً إلى شخصية أندرياس التي تعد أكثر الشخصيات الرئيسية الأربع، ظهوراً في مشاهد الفيلم، إلا أنها أقل الشخصيات بوحاً، حيث أن ما يكشفه بيرغمان عن سيرتها (وهو عن طريق الفلاش باك) كان وجيزاً وهو أن البطل خرج من السجن مؤخراً بتهمة التزوير، وضرب شرطي، وانفصل عن زوجته التي كانت تتهمه بأنه "مصاب بسرطان الروح.. ولديك أورام في جميع أنحاءك"، ولم يتم تأكيد أو نفي ظروف البطل الضحية والجاني في الوقت عينه أو تأكيدها في سياق الفيلم، لينتهي الفيلم بحقيقة واحدة بعيدة كل البعد عن الحياة الخاصة للبطل، وهي حقيقة حملتها مجمل أفلام بيرغمان منذ فيلمه الأول "الختم السابع"، وتتمثل في نقاش فكري يحمل إشباع فلسفي دسم مع عشاق الفن السابع، يكون فيه لكل مشهد من المشاهد أكثر من فكرة وأكثر من رأي في تحليله، حول الأسئلة الوجودية التي يطرحها، عن وجود الإنسان على هذه الأرض، ما هي مهمته، وإذا كان هناك سبب أصلا لوجوده.
ومضى العنزي يقول أنه رغم إلحادية أسئلة بيرغمان وقسوتها الظاهرة، إلا أنها تحكي لنا عن أوروبا وتاريخها المخزي في النصف الأول من القرن الماضي، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وحصدها لملايين الأرواح البريئة، مبيناً أن بيرغمان كإنسان عاصر تلك الأحداث العظام وأخذ يطرح هذه الأسئلة بنفسه لعله يجد جواباً أو يظل في تيهه يبحث عن النور في الظلام المطبق، ولعل هذه الأحداث الكبرى هي التي أوحت له بفيلمه العظيم التجريدي «الختم السابع»، الذي أطلق شهرته للعنان، وهي الأحداث نفسها التي جعلت بيرغمان في نهاية عذابات آنا يصور البطلة آنا بعد أن تعمق يقينها الإيماني تطلب في نهاية الفيلم من أندرياس أن يترجل في العراء والخلاء من سيارتها، وسط بيئة شديدة الكآبة والوحدة، ظهر يوم ماطر، في منتصف أرض صحراوية طينية يظهر في كادرها شجرة متساقطة الأوراق تشبه شجرة صمويل بيكيت في مسرحيته العبثية في إنتظار جودو، حيث تتركه آنا وتنطلق بسيارتها مسرعة وكلها يقين، وكأنها تقود حملة تبشير أو بعثة مسيحية اندفعت واثقة الخطى نحو الوعظ، فيما ظل أندرياس أسير شكه يترنح في الخلاء كالثمل، تائه في فلك أسئلة غيبية وبشرية لا أجوبة لها في أعماق النفس البشرية.
وذكر العنزي إن عذابات آنا وهو الثاني بالألوان من أفلام بيرغمان، وقد كانت ألوانه كئيبة مصفرة في الغالب، ورمادية شتوية اسكندنافية في النهار، فيما سيطر البني العميق السواد والأخضر الداكن على بعض المشاهد، وبرزت لطخات من الدم الحمراء في كثير من المشاهد بصورة تدفع إلى الكآبة وعبثية الحياة التي شعر بها الشبان الأوروبيون بعد الحرب العالمية الثانية.
وقال العنزي إننا أمام شخصيات مشحونة بالقلق والغموض وقصص الحب غير المكتملة، لكن ذلك يجب أن لا يحول دون وعينا لتأطير بيرغمان للفيلم ضد عالم الحروب والعنف، برغم أن الحرب تم التعامل معها كمنمنمة في الفيلم وذلك عبر صورة تلفزيونية عابرة لمشهد من حرب فيتنام في واحد من أبرز المشاهد، مشيراُ إلى أن موقف بيرغمان من العنف كان حاضراً في الفيلم وتم عرضه أيضاً من خلال إحدى ثيمات الفيلم الفرعية، المتمثلة في سلسلة المجازر التي ارتكبتها شخصية مجهولة كانت تطوف الجزيرة بشكل عشوائي تشنق الكلاب، وتجز رقاب الخراف، وتشعل النيران بالخيول، بصورة حولت القرية إلى جحيم شيطاني.
وأشار العنزي إلى أن بيرغمان استخدم تقنية إخراجية جديدة في الفيلم يبدو أنها تحمل أهدافاً ترنو إلى تأمل أفكار الفيلم لا حكايته، عبر قطع الفيلم بحوارات طبيعية مع الأبطال الأربعة غير مرتبطة بالخيط العام للفيلم، كانت خلالها الانقطاعات كخطوات الى الوراء يطلب فيها المخرج من الشخصيات الأربعة الرئيسية تقديم تصورهم حول الدور الذي يلعبونه. وليس من المعروف بالضبط أسباب إقحام هذه اللقاءات في وسط الفيلم، ولكن المؤكد أنها جعلت الأحداث وسط بين الواقع وخيال. وقد ادعى بيرغمان في حوار صحافي قديم أن إضافة هذه المشاهد للفيلم لم تكن من منطلق توعوي أو حتى كنوع من أنواع القطع البريختي، بل كانت تعبيراً عن تقديره الشخصي لنجومه، ولا سيما ماكس فون سيدو وليف أولمان وبيبي اندرسون، الذين ساهموا كثيرا في العديد من أفلامه، ورغم كل ما سبق فإن النتيجة الدرامية البريختية لهذه الوقفات لا تخفى على مخرج بحجم بيرغمان.
وأردف العنزي أن تقدير بيرغمان للمثلين وروعتهم يتضح في منحه كل واحد منهم لحظات استثنائية من الحقيقة السينمائية، في مناجاة أنثروبولوجية ثرية ومليئة بالصور الدرامية ودواخل الشخصيات ومنعرجات النفس التي تعاني العزلة مرة والحرمان والصمت، وهذه سمة رئيسة من السمات المميزة لأعمال بيرغمان، التي يسجلها بكاميرا لا تتحرك، مسجلاً ولادة الشخصية من خلال تعبيرات الوجه والحوار. مشيراً إلى أن بيرغمان قدم في عذابات آنا نماذج لقدرته على صياغة الشعر عبر الكاميرا والحوار الفلسفي المدهش وتداخل السؤال الفلسفي بالأسئلة الروحانية لشخصياته التي هي انعكاس لشخصيته وشخصيات أخرى في الواقع كما يراه.
وقال العنزي إن فهم بيرغمان عصي، لكن سبر حياته الخاصة قد يساعد في ذلك؛ فشخصية بيرغمان مربكة ومتناقضة؛ فمثلاً تضاءل إيمانه تدريجياً رغم أنه عاش جواً دينياً بروتستانتيّا مليء بالتأويلات الدينية المسيحية على يد والده القس البرتستاتني، وفي بعض أعماله يبدو منتقداً للمتدينين كما بدى ذلك في فيلمه الختم السابع، بينما في فيلم آخر نجده يقدمهم على أنهم ملائكة كما في صرخات وهمسات. ومضى العنزي يقول إن بيرغمان يبدو تارة مهتم في اختيار أفضل أفلامه، وتارة أخرى يردد بأن أفلامه لا تستهويه وأنه لا يرغب بمشاهدتها مرة أخرى، وأسرياً نجده يؤكد في كل مناسبة حبه اللانهائي لزوجته أنغريد بيرغمان، إلا مغامراته العاطفية تكررت مرارا. ورغم أنه لم يكن من المؤمنين، إلا أنه تمنى عندما كبر في العمر أن يصبح متدينا، وأن يجد الإجابات على أسئلته، وهو مالم يتمكن البطل أندرياس من تحقيقه في الكادر الأخير من عذابات آنا.