يتفق معظم الاقتصاديين علي أن قضية تمويل التنمية ستظل تطرح علي الساحة الاقتصادية ولأمد غير منظور, خاصة في الدول ذات الدخول المنخفضة.
والتي تعتمد علي الاستثمارات الوافدة والاقتراض كإحدي وسائل تمويل التنمية، وذلك بغض النظر عن الجهود التي تبذلها في اطار فتح اسواق خارجية, اذ تواجه تلك الدول عدم كفاية في المدخرات المحلية وتلجأ إلي المدخرات الاجنبية أو الي تجميع المدخرات من خلال اصدار سندات حكومية لتحقيق المعدلات المطلوبة من الاستثمار الذي يحقق أهداف التنمية.
وتظل تنمية الادخار القومي المتمثل في مدخرات الافراد والشركات والجهات الحكومية مطلبا ملحا للدول النامية لزيادة التمويل الكافي للاستثمارات المطلوبة والملائمة للوصول إلي التوظيف الكامل واللائق والمنتج وكل ما يتعلق بزيادة معدلات النمو في الدخل القومي الحقيقي واعادة هيكلة الاقتصاد القومي لمصلحة قطاعات الصناعات والزراعة والخدمات وتوظيفها في اطار الحد من البطالة والفقر.
ازاء ذلك وفي ضوء المبادرة التي اتخذتها وزارة المالية المصرية أخيرا بإصدار السندات الحكومية الدولارية في البورصات الامريكية والدولية ليتم التداول عليها وتسويقها عالميا.
وما اعلنه الدكتور يوسف بطرس غالي وزير المالية في تصريحاته السابقة حول السندات المصرية الدولية بقيمة1.5 مليار دولار وجذبت اكثر من14 مليار دولار وان هذه السندات تتضمن نوعين الأول مليار دولار آجلة الدفع لـ30 عاما والثانية بقيمة500 مليون دولار لأجل عشر سنوات وان طرح هذه السندات لم يكن بغرض احتياج مصر للاقتراض الخارجي ولكن لتوسيع قاعدة المستثمرين الدوليين في السوق المصرية وخفض تكاليف التمويل الحكومي, الامر الذي سينعكس بدوره علي خفض تكاليف التمويل غير الحكومي.
فمن الاهمية بمكان توضيح الجدوي الاقتصادية من طرح هذه السندات وذلك في ضوء ما تم تناوله من وجود المشكلات الائتمانية المتمثلة في العجز الكبير في الموازنة العامة للدولة والانخفاض الملحوظ في نصيب دخل الفرد والمؤشرات الاجتماعية السيئة وضغوط التضخم وارتفاع الاسعار المستمر وزيادة نسبة الدين العام بنسبة أكبر من80% من الناتج المحلي الاجمالي بحسب رأي خبراء اقتصاديين.
واشار هؤلاء الي أهمية الثقة في القدرة علي سداد اقساط السندات في آجالها الزمنية المحددة دون عجز وان مضاعفة ايرادات مصر تأتي من انتاج حقيقي بدلا من اللجوء إلي السندات الدولية في ظل زيادة الدين العام الداخلي والخارجي الي1.1 تريليون جنيه مصري ـ اي قيمة الناتج القومي المحلي ـ كما انه وفقا لمشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية2010/2011 تبلغ العوائد المستحقة علي القروض المحلية والخارجية نحو19 مليار جنيه مقابل71 مليارا بزيادة27.6% وتحتل القروض المحلية النسبة الكبيرة من اجمالي هذه القروض التي تبلغ86.6 مليار جنيه.
والسؤال المطروح الآن: ماذا عن سوق السندات في مصر واهميته في تحريك السوق؟
وهل هناك سياسات واجراءات يتعين علي الحكومة المصرية اتخاذها للوصول إلي العائد الاقتصادي والاستثماري من اصدار السندات سواء علي المستوي المحلي أو الدولي؟
في هذا الشأن يلقي خبراء الاقتصاد ودوائر الاستثمار والمال ورؤساء شركات قطاع الاعمال العام والخاص مزيدا من الضوء علي الجدوي الاقتصادية والسياسات الكفيلة بتعبئة المدخرات الوطنية والاجنبية وتوجيهها الي القنوات الاستثمارية التي تعود بالفائدة علي الاقتصاد القومي حتي لا يتسبب في الضغوط التضخمية... وهو ما نشير اليه ببعض التفاصيل في هذا التحقيق.
حيث تقول الدكتورة امنية حلمي استاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية, جامعة القاهرة: بداية, لابد من تقييم الوضع الحالي من حيث فرص التمويل المتاحة علي مدي الأجلين القصير والطويل ففي الوقت الحالي لدينا عجز كبير في الموازنة العامة للدولة وزيادة نسبة الدين المحلي بنسبة اكبر من الناتج المحلي الاجمالي, فضلا عن وجود صعوبات في تمويل هذا العجز.
فيما يتعلق بتقليل النفقات مع ضرورة زيادتها في مجالات متعددة كالتعليم والصحة ومشروعات البنية التحتية من مواصلات واتصالات وغيرها. وهناك محاولات جادة من قبل الدولة لزيادة الايرادات العامة, وهو ما تستهدفه السياسة المالية بالاستمرار في تطبيق السياسة المحفزة للنمو ومواصلة الاصلاحات المالية والضريبية لتحسين مستوي الأداء والارتفاع بكفاءة الانفاق العام وضخ الاستثمارات للحفاظ علي النمو الاقتصادي.
وطرحت الدكتورة امنية امثلة, منها وضع حزمة من التشريعات لتطوير النظم الضريبية كالضرائب العقارية وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص الذي يتيح مصدرا جديدا للتمويل ويعطي الحكومة مجالا جديدا في برنامجها الاستثماري وتوجيهها في مشروعات تعمل علي زيادة معدلات النمو الاقتصادي, الي جانب العمل علي وضع القوانين التي تهييء بيئة اجتماعية مناسبة كنظام التأمينات والمعاشات الاجتماعية.
وقالت ان المستثمر او من سيقوم بالاستثمار يضع أمام ناظريه الأوضاع الاقتصادية بشكل عام وعلي مدي زمني يتراوح ما بين20 و25 عاما المقبلة وان يصاحب ذلك احساس المستثمر بالثقة في الاقتصاد الوطني وانه قادر علي تحقيق معدل مقبول من العائد علي استخدام امواله وضمان استرداده بدون مخاطر وهو الأمر الذي يتطلب مناخا ملائما ومشجعا بما يحتويه من مؤشرات ايجابية تدل علي الاسهام في حل مشكلة العجز في الموازنة العامة وما يتصل بهامن مشكلات اخري كقصور التمويل الحكومي عن الانفاق الاستثماري أو المدخرات الوطنية المتاحة للاستثمار, اذ تعد السندات مرآة للاقتصاد القومي ولتحقيق الاستفادة من اصدار السندات يستوجب ان تكون الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الاتجاه الايجابي ولا يشوبها اي حالة من حالات القلق والترقب من جانب المستثمر.
واتصور ـ والكلام مازال للدكتورة امنية حلمي ـ ان العجز المالي الحالي وانعكاسات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وما صاحبها من ركود اقتصادي اضر بالعديد من الدول وآخرها الأزمة اليونانية فضلا عن الاضطرابات الأخيرة في البورصة المصرية والأوضاع المتمثلة في الاعتصامات المتكررة التي تتزامن مع تجديد انتخابات مجلسي الشعب والشوري والانتخابات الرئاسية, كلها عوامل ستؤثر علي قرار المستثمر, وهو الأمر الذي يشير الي وجود علاقة تبادلية بين الأداء الاقتصادي والاستقرار الأمني والسياسي واحترام سيادة القانون, وهي من الأمور الأساسية في عملية جذب الاستثمار خاصة الاستثمار الأجنبي.
ولكن هذا لا يمنع من جدية المبادرة التي اتخذتها وزارة المالية بطرح سندات مصرية دولية التي تعد عاملا مشجعا للمستثمرين العرب أو الأجانب خاصة ان السوق الأمريكية من الأسواق المتطورة في مجال السندات ولديها من المؤشرات المختلفة ذات التقنية الحديثة في قياس المخاطر, الأمر الذي يمثل احدي الآليات لاثبات نجاح مصر علي الساحة العالمية ويمكن من خلالها جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية.
وهناك عنصر آخر للأمان عندما تطرح الشركات الوطنية سندات في السوق المحلية لتنمية المدخرات الوطنية وهي تمثل احد اهم مصادر تمويل التنمية الاقتصادية المطلوبة وكذلك لتجنب تجاوز الاستثمار للمدخرات وحدوث التضخم وان وجود هذه النوعية من السندات في الأسواق المحلية يحكمها توافر بيئة استثمارية شفافة ومستقرة لتنظيم المنافسة العادلة بين الاستثمارات المحلية والأجنبية واحترام حق الملكية والتأكد من سلامة تطبيق القوانين وضبط الأسعار وتوزان المنافسة بين حقوق المستهلكين والمنتجين وهو الدور المنوط بالحكومات. كما ان فاعلية سندات الشركات المحلية تستند علي مدي تقدم البورصات المحلية وتطورها في تطبيق سياسات محددة للشفافية المحاسبية والمالية عند تقييم تلك الشركات ومدي اتباعها لنظم الحوكمة وتوظيف الموارد المحلية وفق قواعد محددة وشفافية مطلقة.
ويتطلب الأمر عند اصدار الأسواق الناشئة سندات دولية لابد ان يصاحبها المؤشرات التي تشير الي ان السياسات والاجراءات التي تنتهجها حكومات تلك الأسواق تسهم في توجيه التمويل للحد من مشكلات عبء الدين العام المحلي أو الخارجي وايضا في حل مشكلة العجز في الموازنات العامة, الي جانب قدرة هذه الأسواق علي تعبئة الموارد المحلية وتوظيف المدخرات في مجالات جديدة للاستثمار وامكانية توجيه رءوس الأموال الناتجة عن هذه السندات لفروع الانتاج والخدمات التي تحقق عائدا اقتصاديا وماديا خاصة علي المدي الطويل.
وتشير الي ان نجاح السندات المصرية الدولية في جذب نحو580 مستثمرا عالميا يعد مؤشرا علي الثقة في الاقتصاد المصري وايضا علي الثقة في الإصلاحات التي لا تتوقف, موضحة ان هذه المؤشرات ستزيد من جذب استثمارات اجنبية جديدة تعمل علي زيادة معدلات النمو الاقتصادي وتطوير مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية مثل البنية الأساسية وايضا المتعلقة بالبعد الاجتماعي والتنموي كالمشروعات الانتاجية والخدمية التي تزيد من الكفاءة الاقتصادية والانتاجية للمجتمع واتاحة المزيد من فرص العمل, هذا الي جانب الاستفادة من نقل التكنولوجيا الحديثة وما تسهم به من رفع جودة الانتاج وتقليل التكلفة الانتاجية ودعم القدرة التنافسية.
والواقع ان تدفقات الاستثمار المحلي او الأجنبي بنوعيه المباشر وغير المباشر لابد ان يحكمهما معايير واضحة, أولها شفافية مهمة واغراض المستثمر في الاستثمار وتوجهه وفق احتياجات التنمية والسوق المحلية مع ربط الانتاج بمتطلبات الأسواق الخارجية ودعم القوي البشرية الوطنية, ويقتضي ذلك ضرورة وضع سياسات سليمة معلنة لكل الأطراف وتوفير هيكل تنظيمي وقانوني يضمن فاعلية تطبيق التشريعات ونظاما متكاملا لفض المنازعات.