على الرغم من الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي عصفت بكثير من دول العالم، لا يزال الجدال مستمراً حول علاقة المال بالسعادة.
فهناك مَن يرى أن المال هو السبب المباشر للسعادة، مقابل من يؤمن بأن الطريق إلى السعادة لا يمر عبر بوابة المال.
تشير معظم الدراسات التي أجراها خبراء المال في الآونة الأخيرة حول العلاقة بين المال والسعادة، إلى التأثير القوي الذي يلعبه المال في حياة الناس. لكنها توضح أن هذه العلاقة معقدة بطبيعتها، وأن المال ليس ذا أهمية كبيرة في ما يتعلق بمفهوم السعادة. كما تؤكد تلك الدراسات أن الأثر الفعلي للمال في السعادة، هو أقل مما يعتقد البعض عادة، وأن المال لا يشتري السعادة، حتى وإن اجتهد كثيرون في الحصول عليه.
في التحقيق الذي أجرته (عواطف إدريس) عن علاقة المال بالسعادة، اتفقت آراء أغلب المشاركين على عدم وجود علاقة مباشرة بين الأمرين، وأن سعادتهم تنبع من مصادر مختلفة كالصحة، وراحة البال، والزوجة الصالحة. وهي من الأمور التي تعتبر بحسب رأيهم، أكثر أهمية من امتلاك رصيد ضخم في البنوك.
- علاقة وهمية:
يكاد وحيد عبداللطيف (موظف) يجزم بأن العلاقة بين المال والسعادة هي "علاقة وهمية". فالمال، بحسب رأيه، "لا يخلق السعادة، وقد يكون في بعض الأحيان مصدراً أساسياً للشقاء والتعاسة". ويضيف: "لا أظن أني سأكون أسعد حالاً إذا كنت غنياً. فالسعادة بالنسبة إليّ، هي القدرة على تحقيق الأحلام والطموحات، وهذه لا تحتاج إلى مال بقدر ما تحتاج إلى عزيمة وراحة بال". ويضيف: "على الرغم من أن المال يعتبر وسيلة من وسائل الحياة الكريمة، لكنه قطعاً لن يحقق السعادة بأي حال من الأحوال".
- علاقة افتراضية:
من جانبها، تؤكد دينا بطرس (موظفة) أن "اقتناء المال لا يحقق السعادة"، لافتة إلى أن "هناك أشياء ليس في الإمكان تعويضها بالمال". وتضيف: "قد يكون هناك مال بلا سعادة، وقد يحدث العكس، فتكون هناك سعادة بلا مال، وهذا ما يؤكد أن العلاقة بين المال والسعادة علاقة افتراضية أو خيالية في أغلب الأحيان". وفي سياق حديثها عن أسباب سعادتها، توضح دينا "أنه يمكن في العمل على إسعاد الآخرين، وفي النجاح في العمل وليس في جمع المال". غير أنها في الوقت نفسه، تشير إلى أنها تشعر "بسعادة غامرة" عندما تحقق هدفاً من أهدافها، أو تنجز شيئاً يترك علامة فارقة في حياتها، الأمر الذي يجعل المال على ذيل القائمة الخاصة باهتماماتها.
من ناحيتها، تستهل المصرفية حنان وهبة حديثها عن العلاقة بين السعادة بالمال، مؤكدة أن "بعض الناس يعتقدون أن المال هو سبب السعادة، الأمر الذي يدفع معظمهم إلى البحث عن الوسائل التي تجلب المال، من دون الانتباه إلى أن السعادة الحقيقية تكمن في الصحة، والأسرة، ومحبة الآخرين والعمل من أجل سعادتهم". وتؤكد وهبة أن "الناس في المجتمعات الفقيرة، يجدون السعادة الحقيقية في أمور أخرى غير المال، كتكاتفهم، وترابطهم الأسري والمجتمعي". وتتابع: "نلاحظ في المجتمعات الغنية عدم شعور الأغلبية بالسعادة لعدم وجود الاستقرار النفسي والأسري. إضافة إلى ذلك، فهم يكدحون من أجل جمع المال، لكنهم لا يستمتعون به، إما لعدم وجود الوقت أو لعدم رغبتهم في صرفه". وتؤكد وهبة أن سعادتها الشخصية "ليست في اقتناء المال، فهو مجرد أوراق ليست لها قيمة"، موضحة أن تكون في قمة سعادتها عندما تشعر بأن أسرتها مستقرة وأن أبناءها ناجحون، كما تشعر بسعادة حقيقية عندما تقوم بخدمة الآخرين، وتقدم لهم المساعدة لبلوغ غايتهم.
ويتفق أحمد عبدالرضي (موظف) مع الآراء التي تشير إلى أن "السعادة هي مسألة نسبية لا علاقة لها بالمال"، لافتاً إلى أن "الأسباب السعادة قد تختلف بين شخص وآخر". ويقول: "هناك من يرى سعادته في نجاح أبنائه، وهناك من يسعد بزواجه من امرأة صالحة، أو حينما يقوم بعمل طيب، كما أن هناك من يسعد بجمع المال حتى وإن لم يشعر بالسعادة في حياته الاجتماعية الأسرية، الأمر الذي يؤكد أن المال لا يمنح الشعور بالسعادة".
وفي ما يتعلق بسعادته الشخصية، يكشف عبدالرضي أن سعادته الحقيقية "تنبع من راحة البال والرضا عن النفس". ويضيف: "قد يمتلك الإنسان المال، لكنه قد لا يشعر بالسعادة أو راحة البال".
- مال من دون سعادة:
على الرغم من اقتناعها بأهمية المال، غير أن منى السعيد (عضو مجلس إدارة "جمعية سيدات مصر")، تقول: "المال يسعد أحياناً وليس دائماً، خصوصاً أن الإنسان يسعى إلى جمع المال، لكنه في الوقت نفسه ينسى الكثير من مسببات السعادة التي لا تعوضها كنوز الدنيا وما فيها من أموال".
وترى السعيد أن "هواة جمع المال هم أكثر الناس خسارة". وتضيف: "قد يخسر الزوج زوجته التي أهملها وهو يجمع المال، أو أولاده الذين لم يلق بالاً لتربيتهم والوقوف إلى جانبهم عندما كانوا في أمس الحاجة إليه". وتواصل: "بعض الناس يملكون المال، لكنهم لا يزالون يبحثون عن السعادة، وهذا ما يؤكد أن المقولة التي تقول: "من كثر ماله زاد همه"، هي مقولة حقيقية يثبتها العديد من التجارب الإنسانية عبر التاريخ المعاصر".
- تفكير إيجابي:
"تختلف أسباب السعادة بين شخص وآخر، حتى وإن كان يتفق مع الآراء التي تؤكد أن المال لا يخلق السعادة". هذا ما توضحه المتخصصة في العلاج التكاملي سمية الكثيري، لافتة إلى أن "السعادة ترتبط في أغلب الأحوال بالرضا عن النفس، وليس باقتناء المال". وتستطرد قائلة: "إن الإنسان هو الذي يصنع المال، ولا يمكن للمال أن يصنع من الإنسان شيئاً له قيمة، وهذا يعني أن المال وسيلة وليس هدفاً أو غاية في حد ذاته". وتؤكد الكثيري أن "الإنسان يسعد بالتفكير الإيجابي، وبالتواصل مع الآخرين، وبما يحققه من إنجازات على جميع الصعد". وتقول: "سعادتي الشخصية تكمن في العبادة، ورضا الوالدين، والرضا عن النفس بما أحققه من نجاحات وإنجازات، وهي كلها أمور لا علاقة لها بالمال".
- استقرار:
إذا كانت سعادة البعض تكمن في تحقيق الأهداف، فالسعادة بالنسبة إلى إشراف عبادي (ربة منزل) "تعني الاستقرار الأسري ونجاح الأبناء". بينما يظل المال بعيداً كل البعد عن أسباب السعادة التي ترفرف في بيتها بسبب الترابط والحب الذي تتميز به عائلتها الصغيرة. من ناحية أخرى، تشير عبادي إلى أن "شعور الزوجة بوجود زوج مخلص ومحب يقف إلى جانبها في كل صغيرة وكبيرة، هي مسألة لا تقدر بثمن، غير أن هذه الزوجة ستكون في منتهى الشقاء إذا كان زوجها يملك مال قارون، ومع ذلك لا تشاهده غير مرة واحدة في الشهر بسبب أشغاله ومتابعته الدؤوبة للمصادر التي تدر عليه الأموال"، مؤكدة أن مشاعر السعادة تتولد لديها، كلما ورد بخاطرها أنها تعيش مع زوج يحبها وأسرة سعيدة تتفانى في خدمتها، ولافتة إلى أن مفهوم السعادة لديها "تغير بعد الزواج تماماً". وتقول: "قبل عشر سنوات، كنت أعتقد أن السعادة تكمن في المال والسيارة والمظهر، الذي يمكن أن يشترى بالمال. لكن نظرتي تلك تغيرت بعد الزواج، حيث أصبحت صحة زوجي وأولادي ونجاحهم في الدراسة مصدراً أساسياً لسعادتي، فضلاً عن ذلك فإن سعادتي تزداد بتواصلي مع أهلي وصديقاتي".
- سعادة نسبية:
على الرغم من اعترافه بوجود علقة افتراضية بين المال والسعادة، غير أن صفوت عبده (موظف) يرى أن المال "قد يكون وسيلة لتحقيق سعادة نسبية ولكن ليست مطلقة". ويقول: "قد يشعر الإنسان الفقير بالسعادة على الرغم من فقره وحاجته إلى المال، بينما يشعر الغني بالتعاسة لأن الناس يحبونه من أجل ماله، أو لأنه أصبح أسيراً لهذا المال ولم يحقق ما يصبو إليه من سعادة". وفي هذا الإطار، يشير صفوت إلى "الدور الكبير الذي لعبته الأزمة المالية العالمية في تعاسة عدد كبير من الأثرياء ورجال الأعمال، بينما ظل الفقراء بعيدين كل البعد عن ما يحدث، وهذا ما يؤكد أن المال يصبح في كثير من الأحوال مصدر نقمة وليس مصدر نعمة".
من ناحيتها، تؤكد المطربة السودانية أسرار بابكر أن "المال في حد ذاته لا قيمة له، ولا يساوي أكثر من قيمة الورقة المطبوعة عليه. لكن قيمته تكمن في الخدمات والمنافع والاحتياجات التي يمكن أن يلبيها". وتضيف: "مادام المال يستخدم في هذا الإطار، فهو ضروري بلا شك لإدراك السعادة. أما إذا كان الحديث عن المال بعيداً عن إطار تلبية الاحتياجات، فهو عندئذ لا يمثل أي مصدر للسعادة".
بدوره، يشير نجيب صلاح (موظف) إلى "وجود علاقة ما بين المال والسعادة، ولكنها ليست علاقة مؤثرة إلى حد كبير، لأن المال سبب من أسباب السعادة وليس عنصراً أساسياً، لذا يجب ألا تقترن السعادة بالمال" على حد قوله. وفي ما يتعلق بسعادته التي لا ترتبط بالماديات، يقول نجيب: "إن الاستقرار الأسري والسعادة الزوجية من الأشياء التي لا تشترى بالمال". من ناحية أخرى، تقول لمياء يوسف (موظفة) إن "الأثيراء فقط هم الذين يقولون إن المال لا يصنع السعادة". وتضيف: "لكن، من وجهة نظري، إننا لو سألنا أي فقير في العالم عن الأمر الذي يمكن أن يحقق له السعادة، فهو غالباً ما سيجيب بأنه المال، وسواء أكان على خطأ أم صواب، فهو سيظل متمسكاً بقناعته تلك، إلى أن يغتني، وحينها ربما يتغير رأيه".
- المال والبنون:
إلا أن اتفاق معظم الآراء على عدم وجود علاقة مباشرة بين المال والسعادة، لا ينفي وجود آراء مغايرة، ترى أن هناك علاقة قوية بين المال والسعادة، وأن الفقر هو أساس الشقاء. وفي هذا المجال، يقول رجل الأعمال أحمد عبدالمجيد الزريقي: "من المؤكد أن المال يجلب السعادة مثلما يجلب الفقر التعاسة". ويضيف: يقول الله تعالى في كتابه العزيز: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ...) (الكهف/ 46). ويقول الرسول الكريم: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والغم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل والفشل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من الكفر والفقر، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال". ويتابع: "لقد قال سيدنا علي بن أبي طالب: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته". فإذا كنت فقيراً ستكون مقهوراً ومغلوباً على أمرك". ويرى الزريقي أن نظرة الناس، وإن تغيرت حول مفاهيم السعادة ومسبباتها الأخرى، كالعلم، والصحة، يظل المال هو العامل الرئيسي لتحقيق تلك الأشياء"، مؤكداً السعادة ذروتها". وعلى الرغم من تأكيده "وجود علاقة أزلية بين المال والسعادة" بيد أن الزريقي يؤكد أن سعادته تتجلى في الإنفاق على المحتاجين وفي عمل البر والخير، كما تكمن في تربية أبنائه تربية دينية، نابعة من القيم الاجتماعية والأخلاقية.
ولا يختلف محمد الدربي (موظف) مع الرأي السابق، حيث يرى أن "المال شخص إذا كان فقيراً ولا يملك من أمره شيئاً"، لافتاً إلى أن "الكل يسعى بحثاً عن المال، ولكن من ينفقه بحكمة سيشعر بسعادة كبيرة، ومن يوظفه في فعل الخير، هو الذي ينال رضا الله ورضا النفس وهو الأكثر سعادة".
- نظرة متغيرة:
استناداً إلى ما تقدم، يبدو أن نظرة الناس إلى العلاقة بين المال والسعادة تتغير مع تقدم العمر. فما أسباب تغير هذه النظرة؟ وما الدوافع التي جعلت أغلب الآراء تتفق على عدم وجود علاقة مؤثرة بين المال والسعادة؟ تقول المتخصصة في الفلسفة وعلم النفس سمر فندي: "إن المال هو عنصر أساسياً"، مشيرة إلى أنه "حتى وإن وجدت علاقة بين الاثنين، فهي علاقة وقتية وليست دائمة، كما أن المال هو وسيلة وليس غاية في حد ذاته". وتؤكد أن "السعادة تكمن في التوسط في السعي والتفكير في المال". وتضيف: بلا شك، نحن في حاجة إلى المال ولكن ليس لدرجة أن نصبح عبيداً له".
وتشير فندي إلى أن "السعادة الحقيقية تكمن في أمور مثل راحة البال، القناعة، التفاؤل، طيبة القلب والمرح"، لافتة إلى أن "المال يأتي ويذهب، وتظل مسببات السعادة الأساسية ثابتة، لا تتغير بتغير الأحداث، إنما تتغير حقيقة النظرة إلى السعادة بالتقدم في العمر، بحكم التجارب التي يعيشها الإنسان، ليكتشف أن السعادة ليست بالمال، وأن هناك كثيراً من الأغنياء ليسوا بسعداء".
وبسؤالها عن سبب نجاح المال في الاستحواذ على هذا القدر من الاهتمام، تؤكد فندي أن "المال لم ينجح في صنع السعادة، حتى وإن حاز اهتماماً لأنه يلبي حاجات الناس، فكم من دولة غنية تعاني مشكلات ما أنزل الله بها من سلطان، كما يزداد فيها عدد المنتحرين والمكتئبين، وينتشر في مجتمعها الطلاق والتفكك الأسري".
* الفقر في الوطن.. غربة
- ما العلاقة بين المال والسعادة من وجهة نظر أهل الاقتصاد؟
يقول الكاتب والمحلل والخبير في الشؤون الاقتصادية د. عامر التميمي: "إن علاقة المال بالسعادة تعتمد على درجة الوعي الذي يمتلكه الإنسان حين يكون لديه المال". ويضيف: "في حال كان يمتلك ذلك الوعي، فهو بلا شك سيحقق كل أنواع السعادة. أما إذا افتقر إلى الوعي، فسيحقق جميع الرغبات التي يفترض أنها تجلب السعادة، لكنه في نهاية الأمر يجد أنه لم يحقق السعادة". ويقول: "إلى ذلك، قد تدخله هذه الرغبات في كوارث لا حصر لها، وبالتالي يجد نفسه في موقف ينشد فيه السعادة من جديد، على الرغم من توافر المال لديه، ومن إنفاقه غير المقنن على الرغبات التي كان يظن فيها السعادة، وهنا تبرز قيمة الوعي". ويتابع: "من الطبيعي في كل الأحوال أن المال، حينما يتوافر، لا يحقق السعادة، ولكنه يوفر الاحتياجات. لذلك يقال إن المال في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة". من ناحية أخرى، يقول د. التميمي "إن المال هو مطلب أساسي وضروري وإن لم يحقق السعادة، ويجب أن يتوافر للدولة والعائلة والفرد والمجتمع كله، وهذا يؤكد أن المال مهم جداً. فهو، وإن لم يحقق السعادة، فسيحقق الكرامة وتلبية الحاجات، ويقي من الحرج والشماتة، عدا عن أنه يمنح! إحساساً بالقوة والندية عن المواجهة".