لو سألتني عن السبب الرئيسي للمشكلات في البيوت العربية، سأردُّ من دون تردد: فتّش عن الأخلاق.
هاجرت الأخلاق العربية والإسلامية، على ما يبدو، إلى بلاد بعيدة، لا يُستدَلُّ عليها في أي خريطة. خرجت الأخلاق ولم تعد صار المؤدَّب، الذي يتمتع بذوق وأدب عاليين، عملة نادرة. في زمن عَزّ فيه الخُلق القويم.
للمرة الثانية: فتش عن الأخلاق.
ستسأل عن الحوادث والقضايا، التي تقرأها كل يوم. ستقول لي: ما هذا الذي صرنا نراه من حوادث قتل واغتصاب وتحرُّش وعقوق الوالدين، أو حتى عقوق الأبناء؟ وستكون الإجابة هي الأخلاق.
مرة ثالثة، ورابعة، وخامسة، وإلى ما لا نهاية: فتش عن الأخلاق.
تخيَّل مجتمعاً يسوده الغش، تسوده الكراهية، تسوده خيانة الأمانة، تسوده الفواحش. هل يكون في هذا المجتمع مكان للرحمة؟ هل هذا مجتمع آمن؟ هل هو مجتمعٌ راض؟ لو أن هذا المجتمع كان شركة واحدة، هل ستنجح؟ لو كان هذا المجتمع عائلة واحدة، هل ستسودها الرحمة وتكون مُتحابة ومترابطة في ما بينها؟ إذن هل رأيت العلاقة بين: إنما بُعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق"، (وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين)؟ يعني أنه لا رحمة بين العالمين، لا هداية، لا صلاح، لا اطمئنان بين مجتمع من المجتمعات، إلاّ بشيء واحد، ألا وهو "الأخلاق".
إنّ أحد الأسباب الرئيسية في بعثة الرسول(ص) هو الأخلاق.
يقول عليه الصلاة والسّلام: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
ويشهد الله عزّوجلّ، من فوق سبع سماوات، على أخلاق النبي الكريم، عليه الصلوات والتسليم، فيقول سبحانه: (وإنّك لعلَى خلق عظيم). والسؤال الآن: هل غرسنا قيمة الأخلاق في أبنائنا وبناتنا؟ وهل استشعرنا نحن أنفسنا هذه القيمة العظيمة، التي تحدث عنها القرآن الكريم، والتي علّمنا إياها النبي(ص)؟
الغريب، أنّ شيمة العرب في الماضي كانت "أخلاق الفرسان". فهم شرفاء حتى في خصومتهم مع الآخرين، ويتمتعون بأخلاق لا مثيل لها، بشهادة العدو قبل الصديق. أما الآن، فلا أجد ما أقوله، من فرط ما صرنا نقرأ أو نسمع من فُحش وبذاءات ومشكلات، وكلها بسبب غياب الأخلاق.
ستسألني: وماذا سأفعل؟ إنّ تسارع الحياة وتطورها جعلا العلاقات الاجتماعية في انهيار دائم، وجعلا قيمة الأسرة تهبط إلى أدنى معدلاتها. وليس هناك وقت لأتكلَّم في الأخلاق. وسأقول: عيب. فعلاً.. عيب جداً، أن يصدر هذا الكلام عن أي قارئ أو أي عربي أو عن أي مسلم. فالأخلاق صفة المسلم الحقيقي. يقول النبي: "وخالِق الناس بخُلق حسن". هل تلاحظون دقة النبي في استخدام الألفاظ؟ عبارة: خالق "الناس"، تعني كل الناس، تعني أصدقاءك وأعداءك، الكبير والصغير، الغني والفقير، المسلم وغير المسلم. وهذا هو أحد الدروس النبوية العظيمة، التي يجب أن تغرسها في أبنائك.
خُذ درساً آخر: يقول رسول الله(ص): "ليس منّا مَن لم يرحم صغيرنا، ويُوقِّر كبيرنا". درس في الرحمة والعطف على الصغير، يعني الطفل، طفلك، ابنك أو ابنتك أو أي طفل تعرفه. لن تكون منّا إذا لم تعامله برحمة. وفي الوقت نفسه، يجب أن تعلّمه كيف يوقّر ويحترم الكبير، كيف يقوم له من كرسيه إذا كان في المواصلات حتى يجلس ويستريح، كيف يعاونه على عبور الشارع إذا احتاج إلى مساعدة، كيف يحمل عنه حملاً ثقيلاً إذا رآه شيخاً كبيراً متعَبَاً في حاجة إلى مساعدة.
درس آخر: يقول النبي(ص): "إماطة الأذى عن الطريق صدقة". يعني، كونك تُعلّم ابنك أن يزيل الأذى عن طريق الآخرين، سيكفل لك أن يزيل أطفال الآخرين الأذى عن طريقك أنت شخصياً.
هل تتخيّل كيف سيكون المجتمع والعلاقات الأُسرية بين أفراده، لو استفدنا من هذه الدروس؟ أتحدث ها هنا عن الاستفادة العملية. فجزء كبير منّا، إنّ لم نكن جميعنا، يعرف جيداً هذه الأحاديث. لكن، مَن يعمل بها ويجعلها منهاجاً لتربية أبنائه؟ مَن يقدّم للمجتمع ابناً صالحاً أو بنتاً تكون فخراً لهذه الأمة؟ مَن يأخذ على نفسه عهداً أن يربّي ابنه بتعليمات وطريقة رسول الله(ص)، والقائمة على الأخلاق؟
هل عرفتم لماذا أقول: فتش عن الأخلاق؟
طبعاً، سيخرج علينا البعض ويقول إن الأخلاق شيء والعبادات شيء آخر. ولهؤلاء أقول:
اعذروني.. هذه نظرة قاصرة، فجوهر العبادات كذلك هو الأخلاق.
هل تصدق هذا أم أنك تريد دليلاً؟
حسناً خُذ هذا الدليل:
في الصلاة مثلاً (أليست الصلاة عبادة) يقول الله عزّوجلّ: (إنّ الصلاة تنهَى عن الفحشاء والمنكر). إذن، مَن لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، أيكون قد أدى صلاته أم لا؟ إنه لم يؤدِّ إلا تمارين رياضية. ما هي قيمة الصلاة الأساسية؟ ما هو انعكاسها على خُلقك؟ هذا هو السؤال.
إليك دليلاً آخر، في الزكاة (ركن من أركان الإسلام) يقول الله عزّوجلّ: (خُذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها). يعني أنّ هدف الصدقة والزكاة هو التزكية. فما معنى التزكية؟ هي التربية العميقة على حُسن الخُلق. أرأيت إذن.. كل آية من آيات الفرائض تجدها تخدم خُلقاً معيناً وتحثُّ عليه. وأين يكمن معنى التزكية إذا تصدّقت؟ أرأيتم مفهوم الصدقات؟ كيف أن إرشاد الرجل إلى طريق يجهله صدقة، وأن تُفرغ من إنائك في إناء أخيك صدقة، وأن تنظر إلى وجه أخيك المؤمن، كفيفاً كان أم بصيراً، صدقة، وهكذا.
في الصيام أيضاً. يقول النبي(ص): "فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يفسق، ولا يجهل، وإن شاتمه أحدكم أو قاتله فليقل: إني امرؤصائم، إني امرؤصائم". تخيّل. أصبح يوم صيامك يوماً تتجسّد فيه أخلاقك، أصبح يوماً لتبيان الأخلاق، لأنه لا يصح أن أشتم أو أتشاجر أو أفسق أو أجهل. أو أن أرفع صوتي أو أجادل لأني صائم، وصيامي هذا يجعلني مسلماً على خُلق. أرأيتم إذن؟ اكتشفنا أنّ الهدف من الصلاة التحلِّي بالأخلاق، والهدف من الصيام أيضاً كذلك.
حتى في الحج، يقول الله عزّوجلّ: (فمن فرض فيهنّ الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج). يعني أنّ هذا الحج تدريب قاسٍ على انضباط الأخلاق. فعندما تكون قاصداً الحج وأنت مستحضر النيّة، صار لزاماً عليك ألا تُزاحم، حتى وإن زاحمك أحدهم عند الطواف، وإذا شاتمك أحد فلا ترد عليه. والمقصود هنا أقل ما يصدر من الكلام غير المقبول، مثل "أفٍّ لك" مثلاً، قد تحتاج منك إلى الاستغفار وتوبة في الحج.
أعتقد الآن أنكم اقتنعتم بأننا جميعاً يجب أن نفتش عنها.. عن الأخلاق.