-       هناك سيل جرَّار من علماء الإسلام كانوا بُرتغاليِّينَ مولدًا ونشأةً وعطاءً
-       تجربة التعايش المنسجم في البرتغال بين مختلف الأطياف تجربة رائدة
-       «المواطنة» هي استدعاء لأول ممارسة إسلامية .. ولا تتضمن أيَّ قدر من التفرقة أو الإقصاء لأي فئة من فئات المجتمع
-       «الاندماج الإيجابي» الذي دعوت المسلمين إليه في أكثر من عاصمة أوروبية يحفظ الأوطان ويرسخ للانتماء الذي هو أساس الوحدة في المجتمع
بسم الله الرحمن الرحيم
 فخامة السيد مارشيلو دي سوزا رئيس جمهورية البرتغال
معالي الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة انطونيو جوتيريش
معالي السيد إدوارد روديجيس رئيس البرلمان البرتغالي
معالي السيد انطونيو كوشتا رئيس الوزراء
معالي السيد  أوجيستو سانتوس سيلفا وزير الخارجية
سعادة الاستاذ عبد الكريم وكيل رئيس الجمعية الإسلامية البرتغالية
السادة الحضور
السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته
فيسرني باسمي وباسم الأزهر الشريف ومجس حكماء المسلمين أن أرحب بكم على أرض البرتغال، وفي عاصمتِها العريقة لشبونة، هذه العاصمة التي كان لها شأنٌ وأيُّ شأنٍ في تاريخ المسلمين العلمي والأدبي والتشريعي والثقافي، والَّذي ما أظن أنه قد أخذ حظَّه الواجب من البحث والتنقيب، والكشف عن وشائج القُربى الفكريَّة بين الغرب والشرق عن طريق هذه العاصمة وأخواتِها من مُدن دولة البرتغال ومراكزِها الحضاريَّة والثقافيَّة.
وأنا شخصيًّا باعتباري خرِّيج أقدم جامعة في العالَم وهي جامعة الأزهر، أشعُر بدَيْنٍ كبيرٍ لهذا البلد، لسبقها المبكر في بناء تاريخ المسلمين وثقافتهم، لقد درستُ فيما دَرستُ وبخاصَّة في مرحلة الدِّراسات العُليا، مراجعَ أصيلةٍ في علوم العقيدة والفلسفة الإسلامية -التي هي تخصُّصي الدَّقيق- في مقدِّمتها كُتب  القاضي أبي الوليد الباجي في عِلم الجدَل وعلوم الشريعة، وهو من أكبر شُرَّاح موطَّأ الإمام مالك في الحديث النبوي الشَّريف، ولم نكن نعلم آنذاك أن البَلدة التي وُلِد ونشأ بها ونَشرَ علومَه فيها هي مدينة باجَة التي تعد مركزا علميا وحضاريا أنجب الكثيرين من علماء الأمة وأدبائها ومؤرخيها.، ثم علمنا فيما بعد أن هذه المدينة هي إحدى مدن دولة البرتغال، وأنَّ سَيلا جرَّارا من علماء الإسلام المؤسِّسينَ لحقولٍ معرفيَّةٍ جديدةٍ في الفكر الإسلامي كانوا بُرتغاليِّينَ مولدًا ونشأةً وعطاءً، وقد توزَّعوا على فُنونٍ عديدةٍ من العلوم الإسلامية، كالأصلين: أصول الدِّين وأصول الفقه، والتَّاريخ والأدب، والحكمة والفلسفة.
 ومن المعلوم اليوم أن أيَّ باحثٍ لا يستطيع أن يرصد تاريخ عالِمٍ أديبٍ من علماء الغرب الإسلامي إلَّا بعد الرُّجوع إلى موسوعة «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» لأبي الحسن علي بن بسام الشَّنترِيني، أو بعبارة اليوم ابن بسَّام البرتغالي، هذا العالِم المبدِع الذي وُلد في شَنْتَرِيَّة (سانترام)  وتثقَّف هنا بلشبونه، حتى أصبح من أعلم الناس بفنون اللغة والأدب والنقد،  وهكذا دواليك في كل ما يتعلق بتراث المسلمين فيما يعرف حديثا بالغرب الإسلامي.
فما من مدينة من مدن البرتغال إلا وقد تركت بصمة واضحة يدين لها تاريخ  المسلمين الثقافي بالفضل والسبق، فسلام على مدينة «فارو»أو «شنتمرية الغرب» ومدينة «شلب«silves» و«باجة»«beja»و«يابُرة»«Evora»و«شَنْتَرَة»«Cintara» سلام على كل مدينة في هذا البلد العريق ساهمت في إثراء الحضارة الإنسانيَّة بالحكمة التي انتجتها عقولهم وصنفتها أقلامهم. سلام على أبنائها الذين لا يزالون يعكسون هذا الروح حتى يومنا هذا.
ومما يجب أن أعترف به أمامكم أن هذه الزيارة أيقظت عندي عزما قويا على أن أعمل مع زملائي في الوفد المرافق، وهو افتتاح قسم للغة البرتغالية وآدابها، بكلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر الشريف، كما نأمل أن نبدأ بحصر التراث الإسلامي المتعلق بالبرتغال وما أنجبته من مشاهير العلماء في العلوم الإنسانية والتجريبية على السواء. يوقع بعض هذا العبئ على كواهل شباب الباحثين هنا المتخصصين والمعنيين بتاريخ هذا البلد، وكذلك المتخصصين بأقسام اللغة العربية وآدابها وتاريخ العلوم وفلسفتها. والأزهر على استعداد أن يتعاون معهم بما ييسر لهم هذا المهمات العلمية التي آن الأوان لأن تأخذ حقها من النظر العلمي، ومكانها من المعارف الحديثة.
وأمر آخر تعلمونه أعتز بتسجيله هنا، وهو ذلكم الانطباع الذي خرجت به شخصيا الذي يعكس لمسة الانصاف التي لا يعييك أن تطالعك وأنت تستمع إلى المسؤولين والمثقفين في هذا البلد، وهذه الأريحية الراقية المتمثلة في التذكير بما للمسلمين من فضل مسيرة حضارة البرتغال، بل حضارة المنطقة بأسرها، وهذا أمر لا نسمعه في بلدان مشابهة، كان لحضارة الإسلام فيها دور مشابه. فشكرا لهذا اللمسة التي تفيض وفاء وعرفانا وإنصافا وعدلا.
أيها السادة والسيدات:
ولا ريب أن تجربة التعايش المنسجم في البرتغال بين مختلف الأطياف تجربة رائدة، أعتقد أنها تطبيق عملي لمفهوم «المواطنة» الذي لا نمل من التذكير به وتأكيده وتكراره على المسامع في مختلف المحافل التي نشهدها في الغرب والشرق على السواء، فمصطلح «المواطنة» مصطلح أصيل في ثقافتنا الإسلامية، وقد شعت أنواره الأولى في دستور المدينة المنورة وما تلاه من كتب وعهود لنبي الله صلى الله عليه وسلم يحدد فيها علاقة المسلمين بغير المسلمين، على أسس واضحة المعالم، بينة القسمات، تؤكد على أن «المواطنة» ليست حلا مستوردا، وإنما هو استدعاء لأول ممارسة إسلامية لنظام الحكم الذي طبقه النبي صلى الله عليه وسلم في أول مجتمع إسلامي أسسه وهو دولة المدينة. وهذه الممارسة لا تتضمن أيَّ قدر من التفرقة أو الإقصاء لأي فئة من فئات المجتمع آنذاك، وإنما تضمنت سياسات تقوم على التعددية الدينية والعرقية والاجتماعية، وهي تعددية لا يمكن أن تعمل إلا في إطار المواطنة الكاملة المساواة التامة.
وإنني إذ أدعو إلى تبني مفاهيم «المواطنة الكاملة» أتمنى من السياسيين ورجال الدين وعلمائه والمثقفين والمفكرين أن يتنبهوا لخطورة المضي في استخدام  مصطلح«الأقليات» الذي يحمل في طياته معاني التمييز والانفصال، وبذور الإحساس بالعزلة والدونية، ويمهد الأرض للفتن والانشقاق، بل يصادر هذا المصطلح ابتداء على أية أقلية كثيرا من استحقاقاتها الدينية والمدنية، فالمسيحي المصري هو مواطن مصري مواطنة كاملة في الحقوق والواجبات، والمواطن المسلم في البرتغال هو مواطن برتغالي كامل الحقوق والواجبات، ولا محل مع هذه المواطنة الكاملة لأن يوصف أي منهما بـ «بالأقلية» الموحية بالتمييز الاختلاف في معنى «المواطنة».
وفي اعتقادي أن ترسيخ «فقه المواطنة» بين المسلمين هنا في أوروبا وغيرها من المجتمعات المتعددة الهويات والثقافات، خطوة ضرورية على طريق «الاندماج الإيجابي» الذي دعوت المسلمين إليه في أكثر من عاصمة أوروبية، فهو الذي يحفظ الأوطان وتماسكه، ويرسخ تأصيل الانتماء الذي هو أساس الوحدة في المجتمع، كما يدعم قبول التنوع الثقافي والتعايش السلمي، ويقضي على مشاعر الاغتراب التي قد تجعل من الصعب على البعض الانخراط في مجتمعاتهم، أو الاختلاط مع غيرهم من جيرانهم المختلفين عنهم في الدين.
ومن نعم الله على المواطنين المسلمين في البرتغال أنهم لا يواجهون تصرفات تسيئ إلى دينهم ونبيهم مثل ما يواجهه بعض المسلمين في دول أخرى، مما يشجعهم ويدفعهم دفعا إلى «الاندماج الإيجابي» في مجتمعاتهم التي ولدوا فيها وصاروا جزء لا يتجزأ من نسيجها الوطني بكل أبعاده الاجتماعية والثقافية والسياسية. وأن مجتمعهم البرتغالي لا بتوجس من فتح الأبواب أمامهم وأمام غيرهم من البرتغاليين المختلفين دينا وعرقا. وللأسف الشديد أن هذه الحواجز لا تزال تعمل سلبا في تهميش كثير من الشباب الأوروبي في الدول الأخرى، والتي كثيرا ما تحمله إلى الانضمام إلى حركات العنف والإرهاب المسلح.
وأخيرا أتقدم  باسمي وباسم الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين بخالص الشكر والتقدير والعرفان للشعب البرتغالي ممثلا في البرفسور مارشيلو دي سوزا رئيس الجمهورية، الذي نقدر لسيادته هذه الروح الحضارية المتسامحة التي يتميز بها، والشكر موصول إلى الجمعية الإسلامية التي نتقدم لها بخالص التهنئة بمرور نصف قرن على إنشائها، وأعرب عن سعادتي وسعادة الوفد المرافق بمشاركتنا في هذه المناسبة السعيدة التي فتحت لنا أبواب الأمل في نشر مثل هذا الأنموذج الطيب في العيش المشترك بين المواطنين، في سائر أقطار أوروبا، فهو الدرع الواقي للأوطان مما يتربص بها تربصات جماعات العنف والإرهاب المسلح وأضيف أيضا من مخططات الإسلامو فوبيا.