لماذا قبلت السودان أن تخون مصر فى قضية سد النهضة رغم أن القاهرة تتعامل معها منذ منحها الاستقلال كجزء من النسيج المصرى؟! سؤال يردده المصريون دائماً، والحقيقة أن الدور السلبى للسودان فى ملف السد يظهر "العقدة" التاريخية لدى معظم السياسيين السودانيين تجاه مصر رغم العلاقات التاريخية بين البلدين والتى امتدت لعشرات السنين وأثارت دائما قلق الكثيرين، وفى هذا التقرير نسلط الضوء على الوثائق البريطانية التى نشرت مؤخرا حول استخدام السودان لمياه كورقة ضغط على مصر.
 
ويتضمن التقرير 6 محاور توضح موقف السودان تجاه مصر فى قضية المياه منذ خمسينات القرن الماضى، وأسباب عودة الخرطوم لمبادرة حوض النيل بعد تجميدها نشاطها فى 2010، موقف الخرطوم من السد الأثيوبى، واستضافتهم للعناصر الإخوانية الهاربة من القاهرة بعد ثورة 25 يونيو، وتفريغ إعلان المبادئ من مضمونه، وأسباب تصريحات البشير المتلونة تجاه مصر.
 
استخدام مياه النيل ورقة ضغط على مصر منذ الاحتلال البريطانى
 
مخطط الخرطوم لاستغلال مياه النيل للضغط على القاهرة ليس وليد اللحظة، حيث كشفت الوثائق البريطانية التى نشرت مؤخرا أنه إلى قبل العدوان الثلاثى، بحثت بريطانيا خطة لقطع مياه النيل لإجبار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على التراجع وإشراكها فى إدارة القناة، وشملت الخطة محاولة استغلال الخلاف بين مصر والسودان بشأن مياه النيل فى حشد تأييد الحكومة السودانية لمشروعها.
 
وتضمنت الوثائق دراسة لوزارة الخارجية البريطانية بأنه للمملكة المتحدة 4 مصالح واضحة فى مشروعات الرى بوادى النيل، وهذه المصالح هى " تحكمنا فى مصادر النيل الأبيض فى شرق إفريقيا البريطانية، بما فيها سد شلالات أوين والذى هو ملمح أساسى لأى مشروع وأنها تتمتع بخبرة تفوق خبرة أى دولة أخرى، ومستشارونا لشئون الرى ما زالوا نافذين فى السودان، والنصيب الرئيسى من العقود سوف يذهب إلى الصناعة البريطانية فيما يتعلق بمشروع سد أسوان وأى مشروعات تنموية فى السودان، ولا بد أننا سنظل قادرين على الحصول على نصيب جوهرى، وخاصة فى السودان، ومصلحتنا السياسية فى الاستقرار والتنمية الاعتيادية لوادى النيل. ودور بناء سوف يذهب إلى حد الاحتفاظ بالسودان، كما سوف يساعد أيضا فى الوقت المناسب فى استعادة مكانتنا فى مصر.
 
وحذرت الخارجية من تأثير عقاب مصر مائياً على السودان، وقالت: "سوف تصبح الملاحة فى النيل بين جوبا ومونجالا صعبة أن لم تكن مستحيلة، وسوف تتأثر الزراعة، والقطن بشكل رئيسى، على طول النيل الأبيض بين كوستى وجبل أولياء، كما قُيدت عملية ملء خزان جبل أولياء، وسوف يزيد التأثر بشكل أكثر خطورة لو اضطر المصريون لإفراغ الخزان مبكرا من أجل التخفيف من نقص المياه فى الشمال".
وطوال فترة أزمتى قناة السويس وتمويل السد العالى، ظل موقف السودان فى بؤرة اهتمام بريطانيا، وسعت الحكومة البريطانية لاستغلال الخلافات المصرية- السودانية المستمرة منذ أواخر الأربعينيات، والتى تصاعدت فى أواخر عام 1954 بشأن شروط قبول السودان الخطة المصرية لبناء السد العالى، ففى 30 ديسمبر 1955 أبلغت بريطانيا السودان بأنها سوف تقرن أى إسهام لها فى مشروع السد العالى بتسوية مع مصر تلقى رضا الخرطوم، وكانت خلافات البلدين تتعلق بالتالى: حصص توزيع المياه بعد بناء السد، التعويضات التى يجب أن تدفع لأهالى وادى حلفا الذين سوف يتضررون من المشروع، ومصير مشروع السودان لبناء سد الروصيرص على النيل الأزرق، المصدر الرئيسى لمياه النيل الرئيسى المتدفقة إلى الأراضى المصرية.
 
وأرسل مكتب رئيس الوزراء البريطانى أنطونى إيدن ببرقية سرية موجزة إلى الخارجية، قال فيها: اطلع رئيس الوزراء على برقية الخرطوم رقم 353 بشأن مياه النيل، وعلق: لكن لسنا ملتزمين بالمساعدة فى مشروع السد ما لم يلق السودانيون معاملة منصفة من جانب مصر، ولابد، بالتأكيد، أن نبلغ السودانيين ذلك، أو شيئا من هذا القبيل.
 
وقبل إرسال هذه البرقية، قُدم لرئيس الوزراء تقرير بعنوان: "المنافسة المصرية السودانية" بشأن نهر النيل، وقال التقرير: "الحكومة المصرية ملهوفة للغاية للمضى فى المشروع (السد العالى) لأسباب منها السمعة السياسية التى سوف يحققها لنظامها، والمنافع الاقتصادية التى سوف يجلبها السد لمصر، وسوف يروى أكثر من مليون فدان من الأرض الجديدة ويوفر طاقة كهربائية جديدة، وسوف يزيد دخل مصر الوطنى بحوالى 150 مليون جنيه استرلينى سنوياً.
 
وفى برقية بتاريخ 28 ديسمبر 1955 قالت السفارة البريطانية فى الخرطوم: مستشار الرى لدى الحكومة السودانية أطلعنى فى سرية شديدة على خطاب من وزير الأشغال العامة المصرى إلى وزير الرى السودانى. والحكومة المصرية فى هذا الخطاب ترفض طلب قرض المياه الموسمى وفق النظام الذى منح به فى السنوات الأخيرة، وتؤكد أنهم يدرسون بنود اتفاقية مياه النيل لعام 1929 الملزمة للسودان، وترفض الإذن ببناء الروصيرص، وتقرر أنها تعتبر نفسها غير ملزمة بأى عرض طُرح فى المفاوضات الأخيرة مع السودانيين.
 
 
وعندما طلب رئيس الحكومة، فى 4 سبتمبر 1956، من الوزراء والأجهزة المختصة تزويده بالدراسات وتقارير تقدير الموقف بشأن إمكانية استخدام مياه النيل سلاحا فى الصراع مع عبد الناصر بشأن قناة السويس، كان السودان جزءا أساسيا من هذه الدراسات وبعد يوم واحد من التكليف الصادر عن إيدن، طلبت الخارجية من بعثتها فى الخرطوم تقديرا لموقف السودان من الخطة المحتملة، وردت البعثة ببرقية سرية بعنوان "قناة السويس"، ونبهت لندن إلى أن مجلس الوزراء السودانى اجتمع 4 مرات خلال 4 أيام لبحث موقف وسياسة السودان فيما يتعلق بقناة السويس.
 
وقال المفوض التجارى للمملكة المتحدة بالخرطوم فى البرقية: "قال رئيس الوزراء السودانى لى اليوم أنه لا شك فى أن الحكومة السودانية سوف تلعب دورا فاعلا فى حالة اندلاع أعمال عدائية، وبغض النظر عن أى سبب آخر، فإنه ليس لديهم قوات للدفع بها. نصف الجيش فى الجنوب والنصف الآخر فى التدريب، كما لا ترغب الحكومة السودانية فى تعريض علاقاتها بالغرب للضرر".
 
وأضاف: "جاءت الأزمة فى وقت بالغ السوء بالنسبة للسودان، السودانيون لا يحبون المصريين، غير أنهم لا يمكنهم فى الوقت الراهن تحمل أن يظهروا أى شيء غير الود، ولأن مشكلات كبرى مثل العملة، ومياه النيل، والجمارك والهجرة لا تزال دون تسوية، ويجب على الحكومة السودانية أن تدعم مصر فى العلن، وهناك 350 ألف سودانى فى مصر هم - كما ألمح (رئيس الوزراء السودانى)- عرضه للاستغلال.
 
عودة السودان إلى مبادرة حوض النيل بعد تجميدها نشاطها مع مصر
 
ومن الماضى إلى الحاضر، نجد مراوغات النظام السودانى واضحة وضوح الشمس فى وقت الظهيرة، فبالرغم من الاتفاق بين مصر والسودان على توحيد موقفهما كرد فعل للتوقيع المنفرد من قبل دول حوض النيل على الاتفاقية الإطارية المعروفة باتفاقية عنتيبى، والتى لم يتم التوافق على 3 بنود رئيسية " الأمن المائى – الإخطار المسبق- الموافقة بالإجماع على المشروعات وليس الأغلبية "ولكن فوجئت مصر بتراجع النظام السودانى تراجع عن موقفه والمشاركة فى أنشطة المبادرة دون التوقيع وهو ما يناقض فى المقام الأول أسس انشاء الهيئة الفنية المشتركة لمياه النيل، المسئولة عن تنفيذ بنود اتفاقية 1959، وهو اعتبره المراقبون توجه من النظام السودانى نحو التحرك بمفرده فى ملف مياه النيل وإضعاف العلاقات المصرية مع دول حوض النيل والتى شهدت نموا متزايدا فى العلاقات بين القاهرة ودول حوض النيل على المستوى الثنائى، وأن هذه العلاقات الثنائية سببت قلقا داخليا للنظام السودانى، من عودة الدفء فى هذه العلاقات، مما يعزل الخرطوم ويضعف علاقاتها مع بعض الدول.
 
 
موقف الخرطوم من سد النهضة الأثيوبى
 
المراقبون يؤكدون أن النظام السودانى يرى أن مصلحته حالياً هى التعاون مع أثيوبيا ضد مصر بموافقته على بناء "سد النهضة"، وهو ما تم اعلانها من قبل الرئيس السودانى عمر البشير فى خطاب جماهيرى عام 2013، عقب تدشينه مع رئيس الوزراء الإثيوبى هايلى مريام ديسالين لشبكة الربط الكهربائى بين البلدين فى ولاية القضارف على الحدود الشرقية مع إثيوبيا، قائلاً: "إن حكومته تدعم الموقف الإثيوبى فى إنشاء سد النهضة، لأنها ستحظى بنصيب كبير من الكهرباء التى سينتجها السد، وأن مساندتهم لسد النهضة نتيجة قناعة راسخة أن فيه فائدة لكل الإقليم بما فيه مصر، وسنعمل عبر اللجنة الثلاثية يدا بيد لما فيه مصلحة شعوب المنطقة.
 
ويرى المراقبون أن هذه التصريحات صدرت فى وقت يتواكب مع صدور تقرير لجنة الخبراء الدوليين التى شكلت بالاتفاق بين الدول الثلاث عقب إعلان أديس أبابا بناء السد فى 2011، والتى أكدت ضرورة إجراء العديد من الدراسات الفنية قبل البدء فى انشاء السد، كما أنها تعكس تزايد العلاقات المتشابكة بين الخرطوم وأديس أبابا، التى لعبت دورا فى استضافة كافة أطراف الفصائل المعارضة لنظام البشير تحت مظلة الاتحاد الافريقى ونجاحها فى ذلك جعل الخرطوم تشعر بالامتنان تجاه إثيوبيا، علاوة على تولد مصالح مشتركة، حيث تم استغلال جزء من ميناء بورتسودان لحساب الحكومة الإثيوبية باعتبارها دول حبيسة وفى ظل تصاعد التوتر بين أديس أبابا وجيرانها من دول القرن الأفريقى، بالإضافة إلى تواجد استثمارات مشتركة بين كل من الخرطوم وأديس أبابا وتركيا وقطر وإيران.
 
ويؤكد المراقبون أن صناع القرار فى الخرطوم لديهم علاقات وطيدة مع النظام الإيرانى، حيث شهدت السنوات الأخيرة تبادل للزيارات على المستوى الرسمى ورجال الأعمال بين العاصمتين طهران والخرطوم.
 
تفريغ إعلان المبادئ
 
وكشفت الخرطوم عن وجهها بتضامنها وتعاونها مع أديس أبابا على تفريغ إعلان المبادئ من مضمونه ومحتواه رغم أن القيادة السياسية كانت حريصة على توقيع الإعلان قبل اجراء الانتخابات السودانية "ابريل 2015" وأيضا قبل الانتخابات الإثيوبية لاختيار رئيس الوزراء "مايو 2015" بهدف بناء الثقة والتأكيد على أن الثقة والتعاون المشترك الأسلوب الأمثل لتنمية موارد النهر لصالح الشعوب.
 
سقوط الإخوان فى مصر أربك النظام السودانى
 
وحدثت نقطة التحول فى العلاقات بين القاهرة والخرطوم بعد نجاح الشعب المصرى فى إسقاط نظام الإخوان المسلمين المرتبط أيدلوجيا واقتصاديا وتجاريا مع النظام السودانى بطوائفه المختلفة، حيث أظهرت الوجه الحقيقى لساسة النظام السودانى" الإخوان المسلمين" تجاه مصر وشعبها، واستضافة كافة العناصر الإخوانية الهاربة من مصر إما بالإقامة الدائمة أو كمحطة ترانزيت لانتقالهم إلى تركيا وقطر.
 
إثيوبيا مطمئنة للموقف السودانى من السد
 
وبدت إثيوبيا مطمأنة للموقف السودانى من السد، وهو الموقف الذى كان متأرجحا إبان حكم الرئيس المعزول محمد مرسى، المنتمى لتنظيم الإخوان المسلمين، ثم بات منحازا للمصالح الإثيوبية بعد قيام ثورة 30 يونيو والإطاحة بنظام الإخوان، الذى كانت تربطه بالنظام السودانى علاقات قوية، وإن لم توقع الخرطوم على اتفاقية عنتيبى بعد.
 
المعونات الخارجية تتحكم فى قرار الخرطوم
 
والمتابع لتصريحات الرئيس السودانى فى زيارته الخارجية يجد أنها مراوغة ومتلونة على حسب علاقة هذه الدول مع مصر، لضمان الحصول على المعونات الخارجية والمنح والاستثمارات منها، فإذا كانت علاقاتها جيدة مع القاهرة نجد تصريحاته تتوافق مع الموقف المصرى والعكس صحيح.