كان والدي رحمه الله من كارهي عبد الناصر، حتى إنه كان يصرخ فور سماع اسمه: "الله يجحمه.. المجاري ضربت في تربته من ظلمه..."، أما والدتي فكانت من المحبين، المدافعين، المفتونين بزعامة عبد الناصر. وقد أورثاني حبه، وكراهيته في آن واحد، ولم يُثنني الانضمام إلى الصفوف الحمراء عن الإعجاب بشعبيته التي بلغت الآفاق، ولكن إعجابي لم ينهني عن كراهيته.. أعتقد أن هذه المشاعر المختلطة تجاه عبد الناصر، يشاركني بها بعض الشيوعيين، رغم ما عُرف عن عدائهم له، خاصة بعد الصدام الأبرز بينهما، والذى عُرف فى تاريخ مصر المعاصر بـ(قضية الشيوعية الكبرى).
 
وهو الصدام الذي أدى إلى اعتقال الآلاف من الشيوعيين في مصر، لفترة امتدت إلى نحو خمس سنوات، وفي نهاية الصدام تم حل الحزب الشيوعي المصري وتشظى أعضاؤه في مختلف فصائل التنظيم السياسي الوحيد حينذاك وهو الاتحاد الاشتراكي العربي. ولكن المؤكد أن الشيوعيين باركوا ثورة يوليو في بدايتها، واعتبروا أنها ثورة طبقة وسطى، قامت لصالح العمال والفلاحين، ثم أخذوا موقفاً معادياً من الضباط الأحرار بعد إعدام "خميس" و"البقرى" عاملى كفر الدوار، واعتبروا حركتهم انقلاباً عسكرياً فاشياً، وكان إبعاد الشيوعيين الوحيدين في قيادة الثورة "يوسف صديق"، و"خالد محيى الدين" مؤكداً لذلك من منظورهم.
 
 ولم تتحسن العلاقات بين ناصر والشيوعيين، إلا بعد عدة إصلاحات سياسية واقتصادية، قام بها عبد الناصر، كان أهمها إجراءات الإصلاح الزراعي، وإلغاء الفصل التعسفى للعمال، وتوقيع اتفاقية الجلاء، والانضمام لمجموعة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، والاعتراف بالصين الشعبية، وتأميم قناة السويس، وإنشاء القطاع العام، وغيرها من الإصلاحات السياسية، والاقتصادية، التي تسببت في انقسام المعسكر الشيوعى بين مؤيد ومعادٍ لسياسات عبد الناصر، حتى إن المفكر اليسارى "محمود أمين العالم" أرسل من محبسه خطاباً لعبد الناصر مؤيداً للتأميم، إذ أدرك بعض الشيوعيين أن ما يحققه عبد الناصر، هو نفسه ما يسعون لتحقيقه، وأن المسالك مهما تعددت، فالحق فعل، والفعل توجه لا يتوقف، كما يقول الشيخ النفري.
 
هذا ما أؤمن به أنا أيضاً.. أؤمن أن عبد الناصر أراد الحق، ولكنه كان نصيراً للباطل.
 
أؤمن أنه كان زعيماً شعبياً، ولكنه كان طاغية عصره.. لذلك، أود أن أكتب في ذكراه رثاء مناسباً، فيكتب قلمي: "سلاماً على أرواح الشهداء، خميس والبقري، والذين كانوا معهما، سلام على أرواح الذين استشهدوا، والذين عذبوا، والمعتقلين في سجون الطاغية .. كل طاغية .. كل طاغية".