ليس وطنيا فلسطينيا من لا تفرحه اي انفراجة تقلل من معاناة اهل قطاع غزة واللاجئين فيه. لكن، ليس وطنيا من تفرحه اي مبادرة او فعل يهدف ويساهم في دعم استمرار خطف قطاع غزة ونزعه من الجسم الفلسطيني الوطني، الحاضر، الممكن، الذي تم التعارف على تسميته «مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية». هذه السلطة الفلسطينية، رغم كل عيوبها التي يمكن ان تشكل مادة لمجلّد لا لمقال فقط، كانت، (وما زالت)،جسما جامعا فلسطينيا، وبصفتها هذه، اطلقت على كل قطاع غزة اسم «المحافظات الجنوبية»، هادفة من ذلك تاكيد تكامل القطاع مع «المحافظات الشمالية»، اي الضفة الغربية (والقدس العربية منها)، ليتكون من المنطقتين مجتمعتين، ما اقرته الشرعية الدولية، ممثلة بهيئة الامم المتحدة، تحت اسم «دولة فلسطين».
كثيرا ما ردد العرب تعبير «كلمة حق يراد بها باطل». وها نحن نشهد الآن «فعل» حق يراد به باطل. اسم هذا «الفعل» في اخبار ايامنا هذه: «اتفاق تطبيع العلاقات بين تركيا واسرائيل»، الهادف الى «اعادة العلاقات بين الدولتين والشعبين الى ما كانت عليه». ويمكن هنا، دون تجنٍّ، ان نضيف لمقطع: «الى ما كانت عليه» تعبير «ايام عدنان مندريس ومن تلوه في حكم تركيا»، منذ نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948.
في واقع الامر، ان ما لم يتضمنه الاتفاق، على الصعيد الفلسطيني، اهم بكثير مما تضمنه. فهو لم يتطرق الى رفع الحصار عن القطاع، بل عن ادارته وتزيينه، تماما كما هو الحال في مِثل السماح لاسرى ومعتقلين بمشاهدة قناة تلفزيونية اضافية، او اضافة دقائق الى فترة التعرض للشمس خارج الزنازين. وهو لم يتطرق الى مسألة ان قطاع غزة جزء من كل فلسطيني، اكثر من بديهي ان يكون التواصل بين شطري الوطن الواحد امرا مفروغا منه.
بداية الازمة بين تركيا واسرائيل كانت بسبب الموقف التركي، الذي ثمنه الفلسطينيون والعرب، لأنه طالب واصر بوضوح على رفع الحصار عن القطاع. وفي الاتفاق اقرار تركي ضمني، ولكنه جلي، بان تركيا تعترف، ان لم تكن تبارك، ابقاء الحصار على ما هو عليه. ان ما قبلته تركيا في هذا الاتفاق، وهو ارسال معونات وبضائع الى المنكوبين في القطاع، عن طريق ميناء اسدود، هو نفس نص ما عرضته اسرائيل تماما على ابطال «اسطول الحرية». ولا يمكن تفسير القبول بما كان معروضا قبل ست سنوات، وكان سبب رفضه وتحديه هو ما اشعل فتيل الازمة، الا انه رضوخ مشين للسياسة الاسرائيلية الظالمة.
ليس مطلوبا من تركيا ان تحرر لنا فلسطين، ولكن ليس مقبولا ان تلعب تركيا في ساحتنا، وتساهم، (وفي تغييب كامل لفلسطين عن طاولة المفاوضات)، في «ادارة» ازمة غزة، وتساعد على مطها، لتغطي اشهرا وربما سنين اخرى من تمزق الجسد الفلسطيني وايصاله حافة اللاعودة، والادعاء بعد كل ذلك انها هي حامية حمى فلسطين والاقصى، والمفاوضة نيابة عن الفلسطينيين والعرب مع العدو المحتل لبلدهم والمستعمر لوطنهم المنقوص. انها مزاودة وتجارة ومساومة مشبوهة، حتى لا نقول اكثر من ذلك.
لا تقتصر اضرار الاتفاق التركي الاسرائيلي لتطبيع العلاقات بينهما على الفلسطينيين وحدهم، بل تصل هذه الاضرار الى كل المنطقة العربية وكل دول المتوسط الرافضة للاحتلال وللاستعمار الاسرائيلي.
«ما اشبه الليلة بالبارحة». في زمن عدنان مندريس الرديء، كانت سياسة «مهندس» دولة اسرائيل، دافيد بن غوريون، تقوم، (حسب ما توافقت عليه جميع الكتب التي وضعت حول مجريات حياة بن غوريون ورصدت ووثقت سياساته)، على اساس السعي لبناء تحالفات مع كل كيان سياسي «مسلم غير عربي»، ومع كل «عربي غير مسلم».
هذه السياسة الذكية، التي تفوح منها رائحة بريطانية خبيثة فاقعة، ما زالت حتى يومنا هذا، الاساس والقاعدة، التي بنت وتبني عليها كل حكومات اسرائيل حتى الآن.
«انجبت» هذه السياسة لاسرائيل تحالفا استراتيجيا مع تركيا، خدم مصلحتها في تطويق «بلاد الشام» من الشمال، ووفر لها امكانية استخدام موانئ بحرية وقواعد جوية في الاراضي التركية. وخدم تركيا في اضعاف موقف سوريا والدول العربية المجاورة، على غرار ما تعهدت بريطانيا وفرنسا سابقا لها، ايام مصطفى كمال اتاتورك، بالحفاظ على أمن حدوده الجنوبية ، بابقاء الدول العربية المجاورة مقسمة وضعيفة، لا تشكل أي تهديد. (وتأكيدا لذلك «تنازلت» الدولتان الاستعماريتان لتركيا، في حينه، عن «لواء الاسكندرون» الذي كان، حسب اتفاقية سايس بيكو، جزءا من سوريا، متمما للواء اللاذقية ومنطقة كَسَب وجبالها واحراشها السورية).
تلك السياسة التركية المعادية للعرب، والمتحالفة مع عدوهم الاول، رد عليها،عمليا، الزعيم المصري الخالد جمال عبد الناصر، فطوّقها من الشمال الغربي باليونان، ودعم جهودها للتخلص من استعمار بريطانيا لجزيرة قبرص ذات الاغلبية الارثوذكسية اليونانية، ودعم المقاومة القبرصية، وساند قائد تلك المقاومة المطران مكاريوس، الذي اصبح لاحقا الرئيس الاول لجمهورية قبرص، واصبحت قبرص الحرة المستقلة ذراعا عربيا، ووفرت اليونان للعرب كتفا آمنا.
وبالمناسبة: نجحت السياسة الاسرائيلية المذكورة في بناء تحالفات استراتيجية مع ايران الشاه محمد رضى بهلوي، ليطوق العراق والعالم العربي من الشرق؛ ومع اثيوبيا الامبراطور هيلا سيلاسي، ليطوق العالم العربي من الجنوب؛ ومع بعض زعماء كردستان العراق، المظلومة منا نحن العرب في العراق وسوريا، واجزائها الباقية المظلومة من الترك والفرس؛ والحقت اسرائيل بذلك كشف تحالفها مع «الانعزاليين» اللبنانيين (في حينه)، وتعيين قائدهم بشير الجميّل رئيسا للبنان في اول اختراق لها، (بعد فلسطين)، لعاصمة في قلب العالم العربي. الا ان الرد العربي، في مرحلة النهوض القومي، كان بنجاح جمال عبد الناصر بتطويق ايران من الشرق بتحالف متين واستراتيجي مع الهند ايام جواهر لال نهرو، (وقصة عدم الانحياز والحياد الايجابي معروفة). وفي ما يخص اثيوبيا، (ومصر هبة النيل، الذي تقع منابعه في اثيوبيا)، نجح عبد الناصر في تحييد هيلا سيلاسي، او التقليل من اضراره عندما وفر له اعتماد عاصمته اديس ابابا عاصمة لمنظمة الوحدة الافريقية]. لكن كل هذه الفقرة المعترضة، خارج سياق ما نحن فيه الآن، وقد نفسح لها لاحقا مقالا خاصا، يشرح ابعادها ويعالج خفاياها.
نجح الزعيم التركي سليمان ديميريل في فصل شمال قبرص ذي الاغلبية التركية عن جسم قبرص عام 1975 واخترع «جمهورية شمال قبرص التركية»(!) عام 1983، وعثر على رؤوف دنكطاش ونصّبه رئيسا لـ»الجمهورية». ولم يبق للفلسطينيين الا السؤال: هل سيسمح نتنياهو لحليفه الجديد/القديم باختيار «امير» لغزّة؟ ام تراه سيتابع الاحتفاظ لنفسه بهذا «الحق»؟
فلسطين اكبر من هؤلاء جميعا، مختلفين ومتفقين، متصارعين ومتحالفين. لم، ولن، ولا يلحق الهزيمة بفلسطين، الا اداء فلسطيني ركيك. حمى الله فلسطين.