يقترن بداية نهوض الحركة النسائية ببدء عصر النهضة الحديثة لمصر الذي صاحب قدوم الحملة الفرنسية عام 1798، حيث ظهرت ملامح التغيير في مجتمع المرأة، فنرى مظاهرة نسائية كبيرة تخرج متوجهة بشجاعة إلى مقر حكم القائد الفرنسي، نابليون بونابرت، اعتراضا على قراره بهدم المقابر الموجودة بجوار بعض بيوت القاهرة القديمة، ليسجل التاريخ أول انتصار مصري على الحملة الفرنسية وهو الانتصار الذي حمل الطابع النسائي.

وطبقًا لكتاب «تاريخ مدة الفرنسيس» للمؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي، وموقع «تراثيات»، فقد «حققت المرأة المصرية انتصارات في هذه الفترة، رغم ما واجهته من صعوبات ومورس ضدها الكثير من مظاهر العنف والتنكيل، وينسب للحملة الفرنسية، تنفيذ أول واقعة اعتقال وسجن للمصريات في تاريخ مصر الحديث، التي لم تكن نتيجة جرائم ارتكبنها بل كانت وسيلة ضغط حتى يدفعن الأموال لخزائن الفرنسيين (فدية جمالهن وتوفير الحماية لهما)، فنرى قطاعا من النساء هن نساء المماليك اللواتي كن مشغولات بتخبئة المجوهرات والأموال التي جمعها الأزواج حتى لا يصادرها الفرنسيون، وتبرز في مقدمتهن السيدة نفيسة زوجة مراد بك، التي اقتيدت أكثر من مرة للمساءلة أمام الفرنسيين، وافتدت بأموالها عددا كبيرا من نساء المماليك اللواتي ألقي القبض عليهن».

ويشير عبدالرحمن الجبرتي، الذي عاصر الحملة الفرنسية على مصر، في كتابه إلى أنه «يمكن القول إن أول عملية اعتقال لنساء مصر كانت بعد ثورة القاهرة الثانية التي انطلقت من بولاق في 21 أبريل 1800، حيث هدد ضباط الحملة الفرنسة نساء المماليك حتى يدفعن (فدية جمالهن وتوفير الحماية لهن)، عقب هزيمة المماليك في معركة إمبابة، التي أطلق عليها نابليون بونابرت (معركة الأهرام) في 21 يوليو 1798».

وذكر المؤرخ حمدي البطران في كتابه «مصر بين الرحالة والمؤرخين»، نقلا عن «الجبرتي» أنه «عندما وصل الفرنسيون لأول مرة للقاهرة، في يوليو 1798، كانت القاهرة خاوية تماما، وامتلأت شوارعها باللصوص والرعاع والقطط والكلاب الضالة والنسوة العجائز، أما المماليك وزوجاتهم وجواريهم فهربوا إلى الأرياف هربا من الفرنسيين».

ويضيف «البطران» في كتابه «بعد فشل ثورة القاهرة الثانية في مارس 1800، تعرضت قصور الأمراء البكوات الفارين أو الذين قتلوا في معركة إمبابة للنهب والمصادرة، وبدأ رجال الحملة الفرنسية يتعاملون مع الجواري كتعاملهم مع الأمتعة».

وقال «الجبرتي» في كتابه ص 17 و18: «أخذوا البيت بما فيه من فرش ومتاع وجوار وغير ذلك، وأُسر رجال الحملة الفرنسية، من الجواري الحسناوات اللاتي اندمج بعضهن مع الجنرالات الفرنسيين» كما جاء في كتاب نفسه».

كما ذكر «الجبرتي» في كتابه ص 30: «بدأ بونابرت في تمشيط بيوت الأمراء الفارين ومصادرتها، في سباق مع العامة واللصوص، الذين داهموا عددا من القصور المملوكية، كان من بينها قصور تخص مراد بك، وإبراهيم بك، وعدد آخر من قصور البكوات، وكانت المشكلة بالنسبة للجيش الفرنسي، أن بعض تلك القصور لم يرحل عنها الحريم المملوكي، أمثال الست نفيسة زوجة مراد بك، وغيرها من نساء البكوات الحرائر، ما تعذر معه مصادرة الجيش لتلك البيوت»، كما ورد في الكتاب نفسه.

ووفقا لكتاب «خلاصة ما يرد من أخبار الأمير مراد» ص 34، و37: «بدأ بونابرت في فرض ضريبة كانت تعرف بـ(مال المصالحة)، كان حسن باشا قبطان، هو من عممها على حرم البكوات في قبل قدوم الحملة الفرنسية، لأن (قبطان) أراد تحطيم القوة المملوكية وتشريدها، واستعادة النفوذ العثماني في مصر، وفيما صادر بونابرت متعلقات البكوات وأملاكهم، طالب حريمهم من نساء المماليك بالمصالحة عن أنفسهن وأملاكهن، وإلا عرضهن للبيع في (سوق الجلابة)، وكاد ينفذ تهديده لولا اعتراض العلماء والشيوخ استنادا إلى عدم شرعية بيع الحرائر وأمهات الأولاد».

وكلف «بونابرت» القنصل الفرنسي «ماجللون» بمهمة جمع الأموال من حريم البكوات بعد تسجيل أسمائهن ومحل إقامتهن، و«جرد ممتلكاتهن، فدية لجمالهن، مقابل الإعلان عن توفير الحماية لهن، وتجنيبهن أعمال المصادرة» ووجد «بونابرت» في هذا الأمر «مصدرا يمكن أن يدر الكثير من الأموال على خزانة الجيش الفارغة، وهذا يفسر سر اهتمامه، عقب دخوله القاهرة مباشرة، بتشكيل لجنة سريعة مختصة بهذا الأمر أغسطس 1798». كما جاء في  كتاب «تاريخ مدة الفرنسيس».

وأوضح الكتاب نفسه أن «بونابرت عمم هذه الضريبة على كل نساء المماليك، وبدا الوضع مخيفًا ومقلقا لهن، خاصة مع تبرير الفرنسيين لكل مداهمة لقصر من القصور أو بيت من بيوت المماليك، بأنهم يشكون في وجود أسلحة وصناديق بارود وبنادق وطبنجات وغيرها، واستنادا إلى هذا الشك المزعوم، جرت عملية تفتيش ومصادرات واسعة ومرهقة».

زوجة رضوان بك كاشف الشعراوي

وقال «الجبرتي» في كتابه «تاريخ مدة الفرنسيس»: «أخذ النساء يظهرن، ويصالحن على أنفسهن بأموال طائلة»، وأشار إلى أن «زوجة رضوان كاشف الشعراوي، أحد كبار المماليك، وبعد أن استوفت مال المصالحة، 1300 ريـال، داهموا بيتها وصادروا جواريها البيض والسود، وعثروا في مخبأ على كميات كبيرة من الأسلحة، وظلت في بيت قائم مقام حاكم القاهرة لمدة 3 ليال، ولم يطلق سراحها إلا بعد دفع بعد دفع مبلغ إضافي وصل إلى 4000 ريـال، وعند عودتها إلى بيتها وجدتهم نهبوا أمتعة وفرشًا والكثير من الأشياء الأخرى، وتعتبر هذه أول واقعة اعتقال سيدة في تاريخ مصر الحديث، رغم عدم وجود رواية تشير إلى اسمها بوضوح، إذ اكتفت معظم الروايات بذكرها مصحوبة بلقب زوجها».

وقال «الجبرتي»: «ظهرت زوجة رضوان بك من مكانها الذي كانت تختبئ فيه، وصالحت على نفسها وبيتها بثلاثمائة وألف ريـال فرنسي، وأخذت منهم ورقة بهذا الأمان، وألصقت الورقة على باب بيتها، لكن الفرنسيين بعد ذلك طلبوا تفتيش بيتها».

وأضاف في الكتاب نفسه: «ذهب إليها جماعة من العسكر ومعهم ترجمان، فقالوا لها: لقد بلغنا أن عندك أسلحة، ونريد البحث عنها، فأخبرتهم أنه ليس عندها سلاح، فقالوا: لابد من التفتيش.. ففتشوا، ووجدوا ملابس ثمينة جدا لزوجها وأمتعة غالية».

وتابع «الجبرتي»: «ثم نزلوا إلى تحت السلالم، وحفروا الأرض، وأخرجوا منها دراهم كثيرة، وحجاب ذهب في داخله دنانير، وأخذوا الدنانير والسيدة وانصرفوا، ومكثت عندهم في الاعتقال هي وجواريها 3 أيام، ولم تعد إلا بعد أن اشترت لنفسها منهم أمانا جديدا بمال جديد».

«الست نفيسة» زوجة مراد بك

 

ومن أبرز القرارات التي أصدرها «بونابرت» في أغسطس 1798، بخصوص «مال المصالحة»، كان «قرار مصادرة أموال (الست نفيسة) زوجة الأمير المملوكي مراد بك والحاكم المشترك لمصر مع إبراهيم بك، وتم حصر كل محتويات قصرها الكبير بالأزبكية من أمتعة وعبيد وجوار، وتقرر أن تتم مصادرة كل ممتلكاتها إذا لم تدفع لخزانة الجيش 600 ألف فرنك، ونظرا لحجم المبلغ الكبير تقرر توزيع سداده على أقساط، بحيث تدفع 5000 كل يوم، وبعدما دفعت (نفيسة) المبلغ، قدم لها الفرنسي (ماجللون) أوراق ما يعرف بـ(ضمانات الحماية والأمان)»، وفقا لكتاب «تاريخ مدة الفرنسيس» ص35.

 

ويضيف الكتاب: «كانت (نفيسة) سيدة ذات مكانة اجتماعية مرموقة، ولها صلات بجميع عائلات وحريم البكوات والأمراء المماليك، وحاولت حماية السيدات وخاصة (حريم الصفوة المملوكية) من بطش الفرنسيين لدرجة أنها كانت تدفع من مالها الخاص الضرائب المفروضة عليهن لمساعدتهن، وتنازلت عن مجوهراتها وحليها من أجل دفع الأموال المفروضة عليهن، وحرصت على تأمينهن ضد أي محاولة تستهدف اقتحام بيوتهن أو إزعاجهن، وفتحت أبواب قصرها لنساء البكوات اللواتي فضلن الإقامة عندها والاحتماء بها».

 

وحين أراد حاكم القاهرة «ديبوي» القبض على زوجة الأمير عثمان بيك الجوخدار، أرسل إلى «الست نفيسة» يطلب استدعائها، إذ كانت من بين فضلن الإقامة عن «نفيسة»، وتحت إلحاح الجنود اضطرت «نفيسة» إلى الاستعانة بشيوخ الأزهر لردع الضباط الفرنسيين، وعندما أصر الفرنسيون على اعتقالها للتحقيق معها في أمر تورطها في اتصالات مع البكوات المماليك، وبعد مفاوضات، سمح لـ«نفيسة» اصطحاب عددا من جواريها معها وبتن هذه الليلة معها لحمايتها، حتى تم الإفراج عنها في صباح اليوم التالي، وتعد هذه الواقعة الثانية لاعتقال نساء في تاريخ مصر الحديث، وفقا لـ«تاريخ مدة الفرنسيس».

 

وقال «الجبرتي» إن «الست نفيسة زوجة مراد بك، ظهرت وصدقتهم، وصالحت على نفسها وأتباعها بمبلغ قدره عشرون ومائة ألف ريـال فرنسي، وبعد فترة من الزمن أرسلوا إليها يطلبون منها إحضار زوجة عثمان بك الطنبرجي، ويتهمونها أنها تخفيها في منزلها، أو في مكان ما، وهكذا انقلبت مهمة جنود الجمهورية الفرنسية لا إلى البحث عن جنود المقاومة السرية، أو البحث عن القواد المختفين، بل إلى البحث عن النساء، لكي يرغموهن على شراء الأمان لأنفسهن بالمال».

وأضاف «الجبرتي»: «استنجدت نفيسة بشيوخ الأزهر، فحضر لها بعض الشيوخ على عجل، ولم يتمكن الجنود اللصوص، أمام الشيوخ، أن ينهبوا شيئا مما وجدوه في القصر، ولم يجدوا السيدة المزعومة، فاغتاظوا وقرروا أن يعتقلوا صاحبة القصر التي صالحت على أمانها بالمال من قبل».

وتابع في الكتاب نفسه: «حاول الشيوخ أن يمنعوا هذا الاعتقال، فأبوا وأصروا على أخذها، وهنا لم يجد الشيوخ الفضلاء بدا من مرافقة السيدة الكريمة إلى معتقلها، وهم مذهولون من أن يروا النساء يعتقلن لأول مرة في تاريخ مصر بدون سبب وعلى هذه الصورة المهينة».

وأردف «الجبرتي»: «نظر القائمقام ديبوي قصتها، فلم يثبت عليها شراء مما اتهمت به، فطلب الشيوخ إطلاق سراحها، لكن القائمقام رفض أن يفرج عنها ولفق لها تهمة جديدة، هي أنها أرسلت أحد الخدم إلى زوجها المملوك مراد بك بملابس وأمتعة، ووعدته إذا نجح في الوصول إليه أن تكافئه مكافأة حسنة، ولكن الجنود قبضوا على الخادم قبل أن يؤدى مهمته، واعترف لهم بكل شيء».

واستكمل: «فأنكرت السيدة ذلك الاتهام الجديد بشدة، وطلبت مواجهتها بهذا الخادم، فوعدوها بذلك، ومضت الساعات وانتهى النهار، ولم يحضر الخادم المزعوم، وهنا طلب المشايخ إطلاق سراحها، ولكن القائمقام ديبوي رفض ذلك بشدة، وعاد المشايخ إلى طلب الإفراج، على أن تحضر إليهم في اليوم التالي، وضمنوا له ذلك، ولكن القائد الشهم رفض رجاءهم مرة أخرى».

 

وقال «الجبرتي»: «عز على المشايخ أن تهان سيدات مصر هذه الإهانة البالغة، فعرضوا على القائد أن تذهب هي لتبيت في بيتها ويبيتوا هم عنده عوضا عنها، وضمانا لها، ولكن الضابط رفض أن يقبل هذا العرض النبيل، وظل المشايخ يعالجون الأمر معه بكل وسيلة، ولكنه رفض، فلما يئسوا منه تركوها ومضوا وأرسلوا إليها بعض كرائم السيدات المسلمات ليقضين الليل معها، وسمع نساء الفرنج المقيمات بمصر هذا التصرف الدنيء، فذهب بعضهن وانضممن مع النساء المسلمات في المبيت مع السيدة الكبيرة في معتقلها».

 

وأضاف: «ولما أصبح الصباح ذهب كبار المشايخ إلى نابليون بونابرت نفسه، وكلموه في الإفراج عن السيدة التي باع لها الأمان بالمال من قبل، فرضى قائد فرنسا العظيم أن يطلق سراحها، ولكن بعد أن يبيع لها الأمان مرة أخرى بالمال، وحدد بنفسه المبلغ: ثلاثة آلاف ريـال، فدفعتها السيدة وانصرفت»، موضحا أن «نفيسة ذهبت إلى بيت لها مجاور لبيت القاضي، وأقامت فيه، لتكون في حمايته».