الأزمة الحادة الحالية في العلاقات الخليجية الإيرانية عامة والسعودية الإيرانية على وجه الخصوص، لن تكون الأخيرة في سجل تطور العلاقات بين الجانبين على مدار التاريخ، فقد اتسمت العلاقات الخليجية ـ الإيرانية دوماً بالتقلب والتأرجح بين التوتر والصراع الخفي المكتوم تارة والانفتاح والتقارب تارة أخرى، وذلك نتيجة، إما المماطلات والتسويف الإيراني بشأن الجزر الإماراتية المحتلة ” أبوموسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى” وإما بسبب طموحات طهران النووية التي زادت حدتها بعد توقيعها الاتفاق النووي مع الغرب، وباتت تثير قلق الدول الخليجية ، ويحكم إيران في كل تصرفاتها وسلوكها تجاه دول مجلس التعاون، مبدأ المنفعة القومية الإيرانية.
والمتابع السياسي لمنحى العلاقات الخليجية الإيرانية عبر أكثر من خمسة وثلاثين عاما، يلحظ أن التقلب هو السمة الغالبة لتلك العلاقات بالرغم من أن إيران ترتبط بعلاقات اقتصادية قوية، إلا أن العلاقات السياسية ليست كذلك، وإذا كانت العلاقات الدولية تعتمد على الاقتصاد كعنصر أساسي لقياس مدى قوة العلاقات، فإن الحالة الخليجية ـ الإيرانية تنفرد بأنها مختلفة تماما عن هذه القاعدة، ومن ثم يمكن ملاحظة قدر التناقض بين العلاقات الاقتصادية وقوتها وبين العلاقات السياسية وتقلباتها.
سياسة ثابتة
ورغم ذلك اتجهت دول مجلس التعاون الخليجي إلى تبني سياسة ثابتة تجاه إيران تقوم على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وتبادل المصالح وتشارك المنافع وذلك في محاولة إلى احتواء إيران واستيعابها بما يؤدي إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي وحل أي مشكلات أو أزمات تهدد هذا الاستقرار.
الأمر الذي يمكن طرفي العلاقة ـ الخليج وإيران ـ من الاستجابة الواعية لعوامل الاختلاف وضرورة وجوده، للانتقال من حالة التعايش التنافسي إلى مرحلة من التقارب والانفتاح، والتنسيق والتعاون، بعيدًا عن الإقصاء والتهميش في الترتيبات الأمنية للنظام الإقليمي الفرعي لتلك المنطقة ، ولما تمثله هذه المنطقة من أهمية وحساسية بالغة لدولها والعالم بأسره.
وقد شهدت العلاقات الخليجية الإيرانية خلال فترة حكم الشاه محمد رضا بهلوي في الستينيات، قدرًا كبيرًا من التوتر، والذي حاول ـ خاصة مع انسحاب بريطانيا من المنطقة وانشغال الولايات المتحدة في فيتنام ـ أن يلعب دور شرطي الخليج وما تبع ذلك من محاولات فرض النفوذ والسيطرة والتدخل في شؤون دول الخليج العربية الست.
ثم اتجهت طهران إلى تبني درجة من الاعتدال السياسي في فترة حكم هاشمي رافسنجاني، تمثل في تحسين العلاقات مع دول الخليج العربية الست والانفتاح عليها، جسدتها زيارات لوزراء خارجية الكويت والبحرين والإمارات العربية والسعودية عام 1991، ثم الزيارتان المتبادلتان التي قام بهما كل من المغفور له الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد السعودي آنذاك إلى طهران، والرئيس الإيراني هاشمي رافسنجاني إلى الرياض، إذ اعتبرتا بمنزلة نقلة كبيرة في مسار العلاقات الخليجية الإيرانية.
تطور ملحوظ
ومع مجيء الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي إلى منصب الرئاسة، شهدت العلاقات بين إيران والدول الخليجية تطورا ملحوظاً، وبدا أن هناك قناعة مشتركة للاستمرار في ذلك، وكان لافتًا انقطاع الشكاوى الخليجية الدائمة من تدخلات إيرانية في الشؤون الداخلية، لاسيما مع تراجع طهران عن سياسات تصدير الثورة وظهور فكر الاعتدال والانفتاح وعلو نبرة حوار الحضارات وغيرها من أمور أسهمت في تعزيز العلاقات بين الجانبين وتبادل الزيارات على أعلى المستويات.
وفي عام 2005 ومع مجيء الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد، الذي ينتمي إلى التيار المحافظ إلى سدة الرئاسة، ثم عودة سيطرة التيار المحافظ على البرلمان بدا أن إيران تستعيد ذاكرة سياسات الثورة ومبادئها مرة أخرى، إذ عاد التشدد مرة أخرى إلى السياسة الإيرانية الخارجية تجاه دول مجلس التعاون الخليجي.
ورغم ما تميزت به فترة الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني من انتهاج سياسات مرنة في العلاقات مع دول الخليج، إلا أن الرؤية الإيرانية لأمن الخليج العربي باعتباره مسئولية دوله الثماني المتشاطئة (دول مجلس التعاون، بالإضافة إلي العراق وإيران) تغيرت بعد توقيع الاتفاق النووي مع الغرب وقبلت إيران وجود الولايات المتحدة ضمن ترتيبات مستقبلية لأمن منطقة الخليج العربي .
الحوار والطرق السلمية
رغم المواقف الإيرانية المتقلبة تجاه الخليج، سعت دول مجلس التعاون الخليجي إلى الاستمرار في تحسين العلاقات مع إيران. فمع استمرار أزمة البرنامج النووي الإيراني، والممارسات الإيرانية في العراق، أكدت هذه الدول على ضرورة العمل من أجل إقناع إيران بضرورة احترام مصالحها ورؤاها من هاتين الأزمتين.
وقد كشفت الأزمة الأخيرة بين السعودية وإيران وحدة الموقف الخليجي المتدرج في آلياته، ففي الوقت الذي قطعت فيه البحرين علاقاتها مع ايران، خفضت الامارات تمثيلها الدبلوماسي، واستدعت الكويت سفيرها من طهران، واعتبرت سلطنة عُمان في بيان للخارجية العُمانية أن ما تعرض له مقر سفارة المملكة العربية السعودية في طهران و قنصليتها العامة في مشهد من تخريب من قبل متظاهرين إيرانيين، يعد مخالفة لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية والمواثيق والأعراف الدولية التي تؤكد على حرمة المقار الدبلوماسية وحمايتها من قبل الدولة المضيفة.
ولا شك أن الاتجاه الدولي السائد في الأزمة السعودية الإيرانية الآن هو حل الخلافات بالحوار والطرق السلمية، وبما يرسخ مبادئ التعامل الودي وحسن الجوار وإتاحة الفرصة لتحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة، رغم الإدانات الدولية للمواقف الإيرانية وانتهاكها القوانين الدبلوماسية الدولية، ففي الوقت الذي دعت فيه ألمانيا إلي إصلاح العلاقات، عرضت كل من تركيا وباكستان المساعدة في حل الأزمة مؤكدتين علي أهمية العودة للحوار.
وتبقى الدعوة إلى التكاتف الدولي لحل التوتر والخلاف بالطرق الدبلوماسية باعتبارها الأجدى والأنفع ليس فقط لدول مجلس التعاون الخليجي وبالقلب منها السعودية، وإنما لإيران ولأعضاء الأسرة الدولية، وفقاً للأعراف والقوانين الدبلوماسية المنظمة للعلاقات بين الدول.