لم أكن أدرك الكراهية التى تكنّها جماعة الإخوان للشاعر والفنان صلاح جاهين، سوى لأنه ينتمى إلى ثورة يوليو، ولأنه شاعر الثورة التى ناصبتها الجماعة العداء.
وحاول أحد أعضائها اغتيال قائدها فى أكتوبر 1954، وفى ذلك الوقت انحاز كتّاب ومثقفون كبار إلى الثورة ضد أى إرهاب توجهه الجماعة، وتعمل على ترويع المجتمع، وذلك قبل آفة الاغتيال التى كانت الجماعة تؤسّس لها منذ أربعينيات القرن الماضى، وتعمل على تعميقها فى المجتمع، وتضع مبررات ونظريات دينية لها.
فالجماعة التى ارتكبت حادثة اغتيال أحمد ماهر فى فبراير 1945، ونسف سينما ميامى فى مايو 1946، ونسف سينما مترو فى مايو 1947، واغتيال الخازندار فى مارس 1948، حتى اغتيال محمود فهمى النقراشى فى ديسمبر 1948، وغير ذلك من أعمال عنف وتدمير، وللأسف هناك وثائق فى أدبيات التنظيم السرى، أوردها الدكتور عبد العظيم رمضان فى كتابه الضخم عن التنظيم السرى، لم تتخل تلك الجماعة عن أسلوبها هذا، لأن هذا الأسلوب هو إحدى ميزاتها الأولى، ودونه لا تستقيم الجماعة، ومن الممكن أن تصبح جماعة دعوية عادية، وليس هذا هو الهدف المنشود.
كنت أدرك أن العداء لصلاح جاهين نابع من ذلك الانتماء إلى خصوم الجماعة، ولكننى غيّرت تلك القناعة، بعدما اكتشفت نصًّا نثريًّا له، نشرته مجلة «صباح الخير» فى 25 أغسطس عام 1966، أى فى مثل هذه الأيام منذ تسعة وأربعين عامًا، وكانت محاكمات الجماعة تتم، وسط اكتشاف معلومات لمحاولة الجماعة بتدمير القناطر الخيرية، وإحداث فوضى فى البلاد، للاستيلاء على الحكم، وهناك كتابات راسخة فى تلك الشؤون.
وهنا أقتبس فقرات مطولة من مقال صلاح جاهين، والذى يختلط فيه الغضب بالتهكُّم بالسخرية بالهجوم، رغم أنه يستخدم أسلوب المقامة الحريرية، فإن الغضب كان يقطر من بين الكلمات، يقول صلاح: «فى عز ركنة أغسطس، والكل فى بحره (يعوسطس)، هذا فى بحره المتوسط المالح، متجردًا من ثوبه الشالح، وذاك فى بحر من العرق، يتقاذفه النوم فى الأرق، وثالث فى متعة من الكسل، يسح كالبقلاوة فى العسل.. وإذا بشىء يقطع السكون، يسألنى البعض ماذا يكون، فأقول إنه إعلان الأحكام، على فلول الشر والإجرام، من الخونة والجواسيس، والإرهابيين المناجيس، العصبة العملاء، والزمرة الدخلاء، مَن باعوا أنفسهم للشيطان، وأخذوا أعداء بلادهم بالأحضان...
صيحة أعادت لنا الانتباه، وعقدت حواجبنا على الجباه، وذكرتنا بما حولنا من الأحقاد، يحملها لنا حثالة الأوغاد، من رجعية عربية، واستغلالية غربية، وقوم أعز أمنياتهم، أن يروا موتنا فى حياتهم، ولكن هيهات هيهات، أبوهم السقا هو الذى مات..
بلادنا رحيمة وبنت حلال، ولكنها ليست عبيطة بأى حال، وقد صممت على السير إلى الأمام، تسابق السنين والأيام، يقودها زعيمها الخلاق، مسلحًا بالعلم والأخلاق، مهتديًا بدينه الحنيف، كما أتى فى المصحف الشريف، وكما أراده نبينا المختار، معلم الأحرار والثوار، نسير نحو الهدف المنشود، لا تمنعنا قوة فى الوجود، نبنى اشتراكيتنا المنتصرة، بخطة طويلة أو مختصرة، على هوانا وحسب مزاجنا، ونأخذ الخيرات من إنتاجنا، والفاشلون يقذفوننا بالطوب، فيصيبهم هم وابل الثقوب!...
عصابة الإخوان معروفة، وألاعيبها كلها مكشوفة، وقد انتبهت مع مليكها المعظم، مهما انبرى أو اشترى ونظم، وباظ كل شغلهم وفش، وانهار مثل كومة قش، ولم يعد لهم حول ولا طول، فليس بعد كل هذا قول !.. إلا وجوب أن نكون دائمًا على حذر، فمعظم النيران من مستصغر الشرر..».
ويستمر صلاح جاهين فى إرساله تهكماته المفعمة بالغضب، وهذا يفسّر لى كل هذه الكراهية التى تضمرها جماعة الإخوان المسلمين لصلاح جاهين، ومنذ أن أصدر الدكتور أحمد مجاهد، الرئيس السابق للهيئة المصرية العامة للكتاب، الأعمال الكاملة لصلاح جاهين وهم يترصدونه تمامًا، وأعلنوا غضبهم على صدور تلك الأعمال، وادّعوا زورًا وبهتانًا بأن صلاح جاهين، لا ينطوى على أى صلاح، وبعد ذلك، كان القرار الأول الذى اتخذه وزيرهم علاء عبد العزيز، هو الإطاحة الفورية بأحمد مجاهد، الذى جعل كتابات عدوهم الأول فى متناول الجميع.
وكلمات صلاح جاهين تدفعنى إلى تأمُّل ذلك الصراع الدائرى الذى يتكرر بين جماعة الإخوان المسلمين والسلطة والمجتمع، ومن الأكيد أن الجماعة لا تناضل من أجل إصلاح المجتمع، ولكن نضالها الواضح هو من أجل السلطة، وتسلم مقاليد الحكم، وللأسف فالجماعة لا تدفع الثمن وحدها، بل تجرّ البلاد إلى صراعات دموية، وإلى حمامات من الدم، وتمر الأيام والليالى، والجماعة تصرّ على ذلك النضال، الذى يريد السلطة لا سواها، وإذا كان الأمر يتعلّق على صلاح المجتمع، فهناك وسائل كثيرة للإصلاح بعيدًا عن اعتلاء العرش، والذى يتأكد يومًا بعد يوم أن السلطة غرض كامن إلى حد المرض، فالجماعة تلقَّت دروسًا لا يستهان بها، منذ الأربعينيات، فأزمة 1954، ثم أزمة يوسف 1965، ثم الأزمة الحالية التى كلفتها الكثير والكثير، وربما يعودون مرة أخرى عبر الثقوب المتاحة دومًا فى ثياب السلطة أو المجتمع، لا فرق، ونجد كلمات صلاح جاهين تتكرر -ربما- بالعبارات نفسها، واللهجة ذاتها!
شىء محيّر بالفعل، ويحتاج إلى خبراء فى علم اجتماع ونفس الجماعات، قبل خبراء السياسة