والدة أحمد: "لو الريس شاف اللى حصل ده لعيل من عياله كان حس بوجع الناس".
والده: "فخور بابنى ودم الشهداء فى رقبة كل مصرى.. لا تنسوهم".
من بين عشرات القصص المنسية لشهداء وجرحى سقطوا فى أيام الغضب لثورة 25 يناير تبرز قصة طبيب شاب يدعى "أحمد عبد المطلب زيد" (26 سنة) العاجز عن الحركة بعد إصابته بشلل نصفى نتيجة رشقه بحجارة البلطجية الذين هاجموا المتظاهرين بميدان التحرير.
تكشف قصة أحمد المولود لأسرة ميسورة الحال قضت معظم حياتها بالكويت أن ثورة 25 يناير تجاوزت أهداف الخبز والبطالة إلى معان أكثر عمقا أبرزها الحرية والكرامة.
يروى أحمد كيف نزل إلى ميدان التحرير بعد سماعه نداء استغاثة حول الحاجة لمزيد من الأطباء لعلاج الجرحى فلبى النداء ليفاجأ بسيل من الحجارة والعصى تنهال على رأسه وتؤدى به فى النهاية إلى البقاء ساكنا على الفراش.
بدأت الأحداث ساخنة، بحسب تعبير أحمد، الذى يرقد حالياً فى غرفته داخل القصر العينى الفرنساوى بعد إصابته بكسر مضاعف بالجمجمة ونزيف حاد أدى إلى التأثير على مراكز الحركة بالمخ وإجرائه جراحة استغرقت ثلاث ساعات كاملة ومن حوله التف الأهل، الأم والأب والجدة والأقارب، حيث امتزجت مشاعرهم ما بين الألم والحسرة والافتخار والدموع والتفاؤل بغد أفضل لا يخلو من محاسبة المجرمين.
قال أحمد بصوت عليل، "أعمل طبيب عظام بمستشفى الطلبة بالجيزة، ويوم الإصابة رأيت على قناة الـ"بى بى سى" العربية نداء استغاثة بالحاجة إلى مزيد من الأطباء لعلاج الجرحى بميدان التحرير بعد هجوم بلطجية ومسلحين على المتظاهرين بالميدان فى اليوم التالى للخطاب الثانى للرئيس مبارك، فانتقلت على الفور إلى هناك ورأيت العشرات من الجرحى، كما رأيت جثثا هامدة لا يبدو عليها أى إصابات، منها من مات بسبب الاختناق أو الإجهاد ولم يجد معها أى إسعافات".
وقاطعته والدته التى تعمل موجهة لغة عربية قائلة: "حاولت منعه كثيراً وقلت له يا ابنى الضرب جامد دى حرب ما كنتش مصدقة اللى بيحصل وفقدت ثقتى فى كل شىء خلاص" وأضافت بعد أن غلبتها الدموع: "لو الريس شاف اللى حصل ده لعيل من عياله كان حس بوجع الناس".
واستطردت: "اتصلت به وطمنى أنه بخير ولكن بعد عشر دقائق حسيت بنغز فى قلبى وحاولت الاتصال به دون جدوى وأوصتنى شقيقته بعدم تعطيله عن أداء واجبه، إلا أننى لم أكن مرتاحة، قلبى كان حاسس أن فيه حاجة وفعلا رد صديقه وأخفى عنى إصابته، إلا أنه أخبر والد أحمد بالحقيقة وأنه مصاب فى رأسه وفاقد الوعى فى المستشفى". وبعدها انفجرت الأم فى بكاء شديد ولم تستطع إكمال الحديث.
يلتقط والد أحمد الأستاذ الجامعى بدار العلوم جامعة القاهرة طرف الحديث بهدوء ملحوظ قائلا: "حاولت التماسك بعد سماع خبر إصابة أحمد بكسر مضاعف بالجمجمة وتأثر مراكز الحركة بالمخ وما ترتب عليه من شلل كامل بالنصف الأيمن والحمد لله أنه بيننا الآن، وأثق تماماً فى إرادته وقدرته على اجتياز هذه الكبوة".
واستطرد أحمد روايته عن يوم الحادث قائلا: "كنت أعمل عند المستشفى الميدانى بجوار مسجد عمر مكرم وجاءنا نداء بأن أعداد الجرحى تتزايد عند "الجبهة" وهو الاسم الذى أطلقناه على المنطقة التى هاجم منها بعض أنصار النظام المتظاهرين بالميدان من ناحية المتحف المصرى، وبالفعل كانت الإصابات كثيرة ولم تكن لدينا مستلزمات أو أدوات طبية كافية، وحاولنا إسعاف الجرحى بكل ما فى وسعنا ورأيت مشهداً جعلنى أهتز بشدة عندما جاء رجل كبير فى السن ينزف من كل مكان وحاولت تهدئته وقلت له: "اهدأ.. ما تزعلش" فرد عليا: "أزعل من أيه يا ابنى.. دا شرف".
وأضاف: "مع تزايد أعداد الجرحى والحديث عن نقص أعداد المتظاهرين على "الجبهة" وجدت أنه من واجبى أن أساندهم وأن أمارس دورا أكبر، كان مشهداً فظيعاً أن أرى أبناء بلدى يقذفوننى بالطوب والحجارة، حسيت بقسوة شديدة فى عيونهم كانوا يهاجموننا كأننا أعداءهم رغم أننى لم أرفض علاج أى مصاب منهم".
"وفجأة شعرت بجسمى يتكهرب وسقطت على الأرض وكأنى فى حلم مرعب مش قادر أتحكم فى أى شىء من حولى، سمعت الناس يتحدثون لبعضهم "دا مات" وآخر يرد "لأ ما ماتش" لازم نعمله إسعافات.. دا نزيف جامد ومش هيلحق.. طب نشيله لحد الجامع.. حطوا حاجة على رأسه.. وعندما وصلت لسيارة الإسعاف أتذكر ما قاله لى المسعف "النزيف حاد.. اتشاهد يا ابنى" ونطقت الشهادة وبعدها لم أدر بنفسى إلا بعد خروجى من غرفة العمليات".
وقالت منى قطب، إحدى أقاربه وتعمل بشركة متعددة الجنسيات: "دم هؤلاء الشهداء فى رقبة كل المصريين، واللى يتفاوض على بقاء أو رحيل الرئيس يذهب ليتفاوض مع كل أب وأم وأخ وأخت مات لهم أو أصيب لديهم عزيز أو قريب".
وأضافت: "الشعب اللى نزل الميدان والشرارة اللى انطلقت من السويس أظهرت لأى درجة كنا عايشين فى وهم الاستقرار ولازم نحكم عقلنا واللى غلط يتحاسب لأن الظلم صعب على الجميع، وكلنا متفائلين بمصر أفضل لأننا بنحب بلدنا أوى وطول ما إحنا إيد واحدة ماحدش هيقدر يسرق حلمنا فى مصر حرة لكل المصريين".
أما شقيقه "مصطفى" (22 سنة) خريج كلية الإعلام، فأكد استغرابه فى البداية من نزول شقيقه الطبيب اللى عنده سيارة ومبسوط ومش محتاج إنه يبهدل نفسه إلا أنه فهم الرسالة واقتنع بأهمية المشاركة والإيجابية اللى غيرت وجه مصر بعد 30 سنة من سيطرة الحزب والحاكم الواحد.
وقالت جدته التى تحافظ دائماً على البقاء على مقربة من حفيدها: "كنت بقول رجالة الحرب ماتت إنما دلوقتى الشباب أثبتوا إن مصر بخير ولازم يكملوا ويتفاءلوا والجاى أحسن بإذن الله". وأضافت: "الحمد لله مصر هتبقى أحلى من غير جماعة صفوت وعز وجمال وأبوه وربنا يحفظ لنا بلدنا وشبابنا".
وقال أحمد بلهجة هادئة: "أرجو من الناس أن تعلم أننا فعلنا ذلك من أجلهم ومن أجل مصر وكل واحد يتخيل أن عزيزا له مات فى هذه المظاهرات ويقدر دم الشهداء ولازم يأخذوا حقهم بالقانون بعد أن أزهقوا أرواحهم لتعود لمصر الحياة".
وأضاف: "عملنا نفسنا دروعا لحماية المتحف والشوارع عندما تركنا الأمن فريسة للفوضى وأثبتنا معدن الشباب المصرى الأصيل".
وتوجه أحمد برسالة إلى المتظاهرين بميدان التحرير قائلا: "اصمدوا.. ما ترجعوش إلا لما مصر ترجع".
وقال أحمد: "إن مصر لن تعود كما نريدها بدون رحيل الرئيس مبارك الذى رغم كل شىء أعتبره أبويا الكبير ولكننا نريد نظاماً يحفظ كرامتنا بعيداً عن الحزب الوطنى الذى يحوى شلة منتفعين. مضيفا: "لا نريد للرئيس خروجا مهينا، وأقول له أنت لا تصلح وشكرا على كده".
ومن المواقف المثيرة التى رصدها أحمد أثناء المظاهرات مشهد فتيات يشاركن فى المظاهرات بقلوب الرجال، وتعامل الشباب معهن بكل حب واحترام، ومشهد آخر لأب يحمل على كتفه ابنه الذى لم يتجاوز عمره 4 سنوات ليعلمه معنى الحرية ويقول له "دى حاجة عمره ما هيشوفها تانى".
وعن إصابته بعجز عن الحركة قال: "الحمد لله أنا فخور بما حدث ومش محتاج حاجة غير أنى أحس بالحرية والاحترام للجميع وأتوقع مستقبلاً أفضل لبلدى".