تستفيد الدول الكبري من أزماتها بنفس القدر الذي تستغل به إيجابياتها وعوامل نجاحها وتقدمها وتطورها.. ومصر تعرضت خلال شهر نوفمبر لأزمة عنيفة قبل وأثناء وبعد مباراتي الجزائر اللتين لعبهما فريقنا القومي وخسر في إجمالي النتيجة ولم يتمكن من التأهل لكأس العالم.

المصريون فعلوا مثل كل شعوب العالم المتحضرة واحتشدوا وراء فريقهم في المباراتين وكان الحشد الإعلامي قبل المباراة الثانية مواكباً لحلم طبيعي راود المصريين خاصة وهم يرون أن فريقهم الأفضل فنياً رغم تعثره في البدايات.

غير أننا ونحن ننطلق في الاحتشاد للتشجيع وراء الفريق أسقطنا من حساباتنا العامل الأمني والتنظيمي وتفرغنا لأن تكون كافة فئات الشعب ممثلة في التجييش للمشجعين.. وهذا لم يكن عيباً ولكن التنظيم كان يحتاج اهتماماً أكثر وفي نفس الوقت التأمين.

علي أية حال أظهرت أزمة المباراة نقاطاً إيجابية هامة أود أن أطرحها هنا لأؤكد أن هناك لحظات ينسي فيها المصريون مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية ويتذكرون شيئاً واحداً فقط هو مصر.. الوطن.. فجأة وجدنا كل أبنائنا ملتفين حول العلم.. الرمز الذي لا نعرف غيره.. أطفال المدارس الذين لم تتسلل إليهم روح أكتوبر ولم يعايشوها.. الصغار في المنازل الذين لم يذهبوا للحضانة يلوحون بأعلام صغيرة الحجم وكبيرة المعني قائلين "مصر.. مصر".. حالة من الوجد الجميل والانتشاء بالوطن.. حتي الصحف الخاصة والحزبية التي تطلق مدافعها الثقيلة علي الدولة والحزب والحكومة وجدت نفسها "مرغمة" علي الدفاع عن مصر.. إنها مرة من المرات القليلة جداً التي فرض فيها الرأي العام وجهة نظره علي هذه الصحف.. صحيح أن هذه الصحافة شوهت المسئولين كالعادة وتندرت عليهم وسخفت مما أقدموا عليه. لكنهم خضعوا للجماهير في أن تكون مصر هي الأعلي وليس الأشخاص.

أزمة مباراة مصر والجزائر أحيت شعوراً كنا نظن منذ زمن أنه اختفي ودفناه بأيدينا وهو حب الوطن والالتفاف حوله ورفع شعاره دائماً وهو العلم.

هذه المباراة أيقظت جينات الوطنية عند الجميع وجعلت الدولة والشعب علي موجة واحدة أو نغمة جميلة تخرج من أوركسترا تجمعت فيه الآلات النحاسية والوترية والنفخ لتقدم معزوفة نادرة في حب الوطن.

يقول المثل العربي الشهير جزي الله الشدائد كل خير. فهذه الأزمة وقبلها أزمة غزة وغيرها اكدت أن الشعب المصري في منتهي الوعي والإدراك وهو يقف خلف قيادته السياسية الحكيمة والواعية بكل ايمان بدورها في حماية ابناء الوطن في أي مكان.

الرسالة القوية التي صدرت من القيادة السياسية في أول يوم للأزمة دفعت السلطات السودانية والجزائرية للتحرك بسرعة لحماية ابنائنا وذلك عندما أصدر الرئيس مبارك توجيهاته لوزير الإعلام والأجهزة السيادية بأنه إذا لم تستطع سلطات السودان والجزائر حماية ابنائنا فنحن قادرون علي ذلك.

ايجابيات الأزمة كانت أن المواطن المصري عندما عبر عن غضبه كان الرئيس نفسه وولداه والوزراء والمجالس النيابية قد اكدوا وربما قبل الشعب علي خطورة المؤامرة علي مصر.. وأكد الرئيس مبارك في خطابه أمام الجلسة المشتركة لمجلسي الشعب والشوري علي أن كرامة المصريين من كرامة مصر.

لقد اعجبني زملاء من المعارضة مثل محمد مصطفي شردي النائب الوفدي الذي قال في مجلس الشعب أنا معارض وأهاجم الحكومة لكن الجزائريين دخلوا في السياسة وتحدثوا عن الرئيس مبارك والذي سيتعرض للرئيس نقطعه لأنه رمز البلد ولانقبل المساس به.

هذه مصر "المختبئة" في النفوس القابعة في الضمير والتي دخلت سويداء القلب ونسيها الناس. لكنها مثل الجوهرة الثمينة تخبئها الرمال وتنهال عليها الأتربة. لكن فجأة تهطل أمطار أو تهب عواصف فإذا بلمعة ومعدن الجوهرة يظهر للناظرين ولامراء فيه.

لقد كان درساً آخر من الزعيم الكبير حسني مبارك الذي أرسل أعز ما لديه وهما علاء وجمال لمباراة أفادت الأنباء والتقارير أنها ربما تكون شرسة من المشجعين ومع ذلك وافق الرئيس أن يكون ابناه مع الجماهير.. فهما مصريان ولايتمتعان بأية ميزة لكونهما ابني حسني مبارك.. لم يرهبهما تهديد الجزائريين ولا اشاراتهم لهما مهددين بذبحهما. ظلا مع الفريق حتي النهاية وصمما علي البقاء في الخرطوم حتي عودة وتأمين أفراد البعثة.. تصرف جنود في ساحة الواجب وليس تصرف ابني رئيس مرفهين.

كل هذه المشاعر الوطنية الجياشة التي تفجرت عند الجميع لم تكن لاننا كنا نسعي للفوز بمباراة ولكنها انطلقت لأننا شعرنا أن مصر وكبرياءها وكرامتها ومكانتها العربية في أزمة ولابد أن نلتف حولها وهذا ماحدث.

لكن فرحنا بالايجابيات ينبغي ألا ينسينا السلبيات..

أولا: استدرجنا الإعلام الجزائري إلي ملاسنة وسب وقذف وللأسف تبارينا معهم في الشتائم وزاد الاحتقان الإعلامي مع أننا كان يمكن أن نوثق أخطاءهم وخطاياهم منذ البداية في شرائط وأسطوانات ندخرها ليوم عصيب.. كان يمكن أن نتركهم ينزلقون إلي فخ الخطأ ونثبته ضدهم.

ثانيا: كسبنا إعلاميا داخل مصر.. لكن المعركة الحقيقية كانت مع الإعلام الأوروبي وللأسف فاز فيها الجزائريون لأنهم عندما حضروا للقاهرة اصطحبوا معهم محطتي تليفزيون فرنسيتين هما القناتان الأولي والثانية واستغلوا حادث الأتوبيس المدبر منهم أفضل استغلال وظهر المجني عليه جانيا أمام الرأي العام العالمي.. أما نحن فعندما وصلنا الخرطوم فقد أخذنا علقة ساخنة واعتدي المشجعون علي أوتوبيس المنتخب ولم يفكر أحد في تصوير الاعتداء وتوثيقه.

ثالثا: كان لابد من دحض شائعة وفاة المشجع الجزائري في المباراة الأولي بالقاهرة فورا وليس علي لسان السفير الجزائري فقط ولكن من خلال مطالبة الجزائر "رسميا" بالإعلان عن اسم المتوفي وعمره وإعلان موعد جنازته حتي يتسني للسفير المصري المشاركة فيها. بل اننا كنا نستطيع احراج الجزائر وكشفها بأن نعلن عن وصول مبعوث رسمي مصري علي أعلي مستوي للمشاركة في الجنازة المزعومة اذا كانت حدثت.

رابعا: دائما ما كان الإعلام المصري ينتقد لأنه لا يجاري قناة الجزيرة في الهجوم علي مصر وكنا نطلب ان تشتبك معها المحطات الرسمية وتكشف نقائصهم. لكن عندما حدث ذلك مع الإعلام الجزائري المنحط الذي وصل إلي أسوأ وأقذر انتقاد لقادة مصر وشعبها وجهنا اللوم لإعلامنا علي الشحن الخاطئ للجماهير والنزول الي مستوي غوغاء الجزائر.. والحقيقة أننا كنا يمكن أن نرد لهم الصاع صاعين بمستندات وأفلام أو بنقل علي الهواء مباشرة لما فعلوه في شوارع مرسيليا وباريس في فرنسا أو في ايطاليا أو في دول الخليج.. نقل المشهد الهمجي الجزائري للاحتفال في العالم كله كان كفيلا بترسيخ مفهوم البربرية وإلصاق الغوغائية بالجمهور الجزائري للأبد.. واعتقد ان هذا ما تفعله وزارة الإعلام الآن وأوكلت المهمة الي فريق متخصص برئاسة د. فاروق أبوزيد عميد كلية الإعلام السابق. وبعدها سيتم عقد مؤتمر صحفي عالمي بعد الانتهاء من الملف وبعد تقديم الأدلة للفيفا وساعتها سيكون الحكم منصفا.

ويبقي أهم شيء وهو أن الرئيس مبارك أعطي المثال والقدوة في ضبط النفس.. وكان حليما صبورا رغم غضبه الشديد.. وهذا معيار هام للدول المتحضرة ولم يقدم علي ما أقدم عليه الرئيس الراحل السادات عندما استنفزوه أكثر من مرة فاضطر الي عملية عسكرية محدودة ورغم أنها أدت الغرض. لكنه ظل نادما عليها حتي آخر يوم في عمره.. هذه ميزة مبارك وهو أنه قوي بدون استعراض وواثق دون ضجيج وحاسم بأقل الأفعال والأقوال.