رغم الزحام المحيط به، إلا أنه بجلسته الصامتة يبدو وكأنه لا يشعر بالعالم من
حوله، يسرح ببصره وينظر أمامه بنظرة خاوية لا معنى لها سوى أنه يشعر براحة واطمئنان
حقيقيين فى رحاب المكان الذى قطع مسافة طويلة من بيته بمصر القديمة، تحديدًا بالقرب
من محطة مترو الملك الصالح ليأتى إليه.
يخرج عم محمد كل عيد طول 30 عامًا من بيته فى ثانى أيام العيد، قاصدًا مسجد
السيد البدوى بطنطا، ليوفى بنذره القديم، يقول العم محمد نجيب (61 عامًا) "كل
سنة تانى يوم العيد لازم آجى هنا، علشان أنا جزار وأول يوم بكون مشغول، لكن تانى يوم
بكون فاضى، بقالى 30 سنة بعمل الحكاية دى، آجى هنا أوفى بندرى.. أحط فى الجامع اللى
فيه النصيب، وأقضى بقية يومى هنا، لأنى برتاح هنا".
يشير إلى الساحة الواسعة ويضيف "أنا كنت باجى هنا من التمانينات، من أيام
ما السيد البدوى دا كان لسه مسجد صغير، وما كانش فى الساحة دى ولا الميدان، كان كل
اللى موجود خيمة كده علشان الشمس وبس".
وحين ترى إصراره على الوفاء بالنذر ينتابك الفضول بشأنه، ولكنه لا يتركك لتساؤلاتك
طويلاً فيقول "من 30 سنة كانت مراتى جايه هنا، السيد البدوى، ومعاها ابنى شريف،
كان لسه عيل صغير، وماكانش عندى غيره، قالت لى تيجى معانا رديت بزهق لأ مش عايز، وأنا
كنت لسه شاب، كنت بلعب مع أصحابى كوره، فسابت معايا الولد ومشيت، بعدها بمافيش ساعة،
خلصنا لعب وداخلين البيت وهو فى إيدى، مسكت فينا الكهربا"، يتابع بخوف وكأنه عاش
الحادث للتو "سبحان من نجانا، إحنا عايشين بمعجزة، ابنى قعد فى المستشفى 7 أيام،
بعد ما جات الإسعاف وشالتنا وكنا زى الجثث الهامدة، أنا حسيت إن دى إشارة من ربنا،
وساعتها ندرت إنى مهما كان ظروفى ولا حالى لازم اجى هنا كل سنة واطلع اللى أقدر عليه".
ورغم أن ابنه الآن أصبح شابًا، إلا أن "عم محمد" لا يزال متمسكًا
بنذره ويقول "ابنى دلوقتى اتجوز وعنده عيال، بس أنا لسه بوفى بالندر وهفضل كده
لحد ما أموت"، ويتابع "دا غير إن العيد هنا حلو، والدنيا هاديه، علشان كده
بجيب ولادى معايا وأحفادى، لكن حتى لو رفضوا يجوا بسيبهم هناك واجى أنا هنا، تانى يوم
العيد".