وثائق إسرائيلية سرية تكشف: عمق إسرائيل كان في مرمى صواريخ المصريين في الحرب

3 أكتوبر, 2013

بعد دقائق قليلة من بدء إطلاق النار فى 6 أكتوبر 1973، رصدت رادارات سلاح الجو الإسرائيلى هدفا استثنائيا يتحرك بسرعة باتجاه وسط إسرائيل. وتلقى الطيار الإسرائيلى إيتان كرمى أمرا عاجلا ومفاجئا بأن يغير مهمته ويتوجه بطائرته الميراج من الجنوب إلى الغرب، باتجاه الهدف الجديد.

 

وقال كرمى لصحيفة يديعوت أحرونوت لاحقا إنه اعتقد فى البداية أن ما شاهده كان عبارة عن طائرة حربية مصرية، ولكنه عندما اقترب منها فوق سطح البحر أدرك أنه لا يوجد طيار، وأن الحديث يجرى عن صاروخ موجه تم إطلاقه من طائرة قاذفة مصرية من طراز «توبوليف تو-16» باتجاه مدينة تل أبيب. فاقترب الطيار الإسرائيلى من الصاروخ وحافظ على مسافة 200 متر منه ثم بدأ بإطلاق النار عليه، حتى سقطت أجزاؤه فى البحر.

 

بعد 3 أيام من القتال، وتحديدا فى 9 أكتوبر 1973، بدأ سلاح الجو الإسرائيلى فى سلسلة غارات على العمق السورى فى دمشق، للضغط على قيادات النظام السورى. وعلى الرغم من أن هجوما كهذا كان مطلوبا أيضا على مصر للضغط على الرئيس محمد أنور السادات، لم تبادر إسرائيل إلى ضرب العمق المصرى، فلماذا حدث ذلك؟.

 

وهناك بحث جديد سيتم نشره قريبا، كتبه كل من الدكتور ديما أدامسكى، رئيس إدارة المتميزين فى الاستراتيجية، وهو محاضر كبير فى مركز هرتزليا متعدد المجالات، والبروفيسور أورى بار يوسف الباحث المتخصص فى حرب أكتوبر 1973، يتناول التداعيات الاستراتيجية للمواجهة بين القوى العظمى فى حرب أكتوبر.

 

ويكشف البحث جانبا من أزمة الصواريخ الباليستية النووية التى حدثت فى ذروة القتال. ويعتمد البحث على مصادر سوفييتية وأمريكية ووثائق الاستخبارات المركزية الأمريكية، ومقابلات مع شخصيات محورية فى هذا الموضوع، من بينهم عسكريون سوفييت كانوا مسؤولين عن تشغيل وحدة صواريخ سكود فى مصر.

 

ويستعرض البحث أسباب الدراما التى حدثت خلف الكواليس، والتى تضمنت رفع درجة الاستعداد القصوى والاستثنائية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب ما بدا أنه قراءة خاطئة من أجهزة رادار ياخت متنكر فى قلب البحر.

 

لا يمكن الحديث عن فشل الاستخبارات الإسرائيلية فى حرب أكتوبر 1973 بدون تناول الفشل الإسرائيلى فى إدراك الأهمية الخطيرة الكامنة فى صواريخ «أرض- أرض» من طراز سكود، التى وصلت مصر فى مطلع شهر أغسطس 1973. وتشير الوثائق إلى أن الفشل الإسرائيلى هنا كالعادة، لم يكن فشلا فى جمع المعلومات الاستخباراتية، فإسرائيل تقول إن أشرف مروان أخبر الموساد الإسرائيلى منذ البداية بتوقيع اتفاق بين مصر والاتحاد السوفييتى لشراء هذه الصواريخ، وقام مسؤولو الموساد بإبلاغ هذه المعلومات الخطيرة إلى قادة إسرائيل، مضافا عليها معلومات عن وصول الصواريخ إلى مصر، والتدريبات التى تلقاها المصريون لتشغيل صواريخ سكود. ولكن مسؤولو الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) لم يدركوا أن وصول هذه الصواريخ إلى مصر جعل من السهل على السادات الخروج إلى الحرب، لأنها منحته قدرة الردع اللازمة لمواجهة سلاح الجو الإسرائيلى ومنعه من ضرب العمق المصرى.

 

وطلب السادات من السوفييت صواريخ طويلة المدة تكون قادرة على ضرب العمق الإسرائيلى. وفى مطلع أغسطس 1973 وصلت إلى مصر شحنة من صواريخ سكود، وفريق من العسكريين السوفييت لتشغيلها، ومترجم سوفييتى يتحدث العربية. وكان هذا الفريق يتلقى أوامره المباشرة من القيادة السياسية للاتحاد السوفييتى. وكان وصول الصواريخ إلى مصر أمرا مفاجئا جدا لقادة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، الذين لم يكونوا يتوقعون أبدا أن يستجيب الاتحاد السوفييتى لمطالب مصر وبهذه السرعة.

 

لم يكن الفشل الاستخباراتى مقصورا فقط على إسرائيل، فقد فوجئ الأمريكيون أيضا بشدة من وصول صواريخ سكود إلى مصر.

 

خلال الوقت القصير الذى سبق اندلاع الحرب فى أكتوبر 73، حاول الجيش الإسرائيلى دراسة هذا الموضوع. وأصدرت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تقريرا استخباراتيا عن صواريخ سكود، ولكن دون أن تتطرق إلى تداعياته وتأثيراته على ميدان الحرب.

 

ويقول أدامسكى: «إن صواريخ سكود منظومة متطورة كانت مصر أول من يحصل عليها ويدخلها إلى الشرق الأوسط. ولكن الاستطلاع الذى قدمته الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية كان فنيا تقنيا فقط، يتناول الميكانيكا ولم يتطرق إلى أهميته العسكرية.

 

بحسب الوثائق الإسرائيلية، كانت تقديرات الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تقول إن صواريخ سكود لن تدخل الخدمة الفعلية فى الجيش المصرى قبل مطلع عام 1974، وأنها لا تستطيع تحديد المسؤول عن تشغيل وحدة الصواريخ، هل هم السوفييت أم المصريون؟ كما تم تخمين مدى الصواريخ، دون معرفتها بدقة. وذكرت تقديرات الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أن كل هدف فى إسرائيل من منطقة ناتانيا وما تلاه باتجاه الجنوب سيدخل فى نطاق صواريخ سكود المصرية.

 

وتدافع إسرائيل مجددا عن نفسها، فتقول إن الفشل الاستخباراتى فى هذا الموضوع لم يكن مقصورا على إسرائيل أيضا، فقد كان الفشل مشابها لدى أجهزة الاستخبارات الأمريكية وأجهزة استخباراتية غربية أخرى، لأنها لم تكن تملك معلومات كافية عن صواريخ سكود، ولذلك لم يكن ممكنا توفير معلومات دقيقة عن عملياته والأثر الذى يمكن أن يحدثه.

 

جاء اندلاع حرب أكتوبر فى وقت لم تكن إسرائيل مستعدة فيه لخوض القتال.

 

ويقول الإسرائيليون إن ما عبر عن كارثة أول يومين من القتال هو القول المنسوب لوزير الدفاع الإسرائيلى موشيه ديان، الذى أكد فيه أن الهيكل الثالث فى خطر، فى إشارة إلى أن إسرائيل تواجه خطر الزوال على يد القوات المصرية. وكشفت مصادر غربية طوال السنوات الماضية أن موشيه ديان طرح استخدام السلاح النووى، وأن إسرائيل حرصت على إرسال إشارة موجهة إلى المخابرات الأمريكية، تفيد بأن إسرائيل تفكر جديا فى استخدام السلاح النووى إذا لم يصلها جسر جوى من المساعدات العسكرية العاجلة من الولايات المتحدة.

 

ويقول أدامسكى وبار يوسف فى البحث الجديد أنهما لم يجدا أى أساس أو وثائق تثبت صحة هذا الكلام الذى دار حول استعداد إسرائيل لإطلاق صواريخ «أريحا» المرتبطة والموجهة جيدا بالأقمار الصناعية الاستخباراتية الأمريكية.

 

كانت إسرائيل قلقة للغاية من وجود صواريخ سكود بأيدى المصريين. ولم تكن هناك أى حلول عملية لمواجهة هذه الصواريخ طويلة المدى، ولذلك بادر موشيه ديان فى اجتماع عقد صباح يوم 6 أكتوبر، قبل ساعات من اندلاع الحرب، إلى إصدار أمر إلى وحدات الدفاع الجوى بالاستعداد لاحتمال إطلاق صواريخ سكود على تل أبيب.

 

وكان الإسرائيليون عاجزين عن تقدير أثر هذا الصاروخ بدقة، ولكنهم كانوا يعتقدون أن صاروخا يحمل رأسا متفجرا يزن نصف طن سيحدث تدميرا وخرابا كبيرا، خاصة إذا تم إطلاقه على قلب مدينة سكنية.

 

وتم طرح أمر صواريخ سكود مرة ثانية يوم 8 أكتوبر. ففى الجيش الإسرائيلى بدأوا يبحثون إمكانية توجيه ضربات فى العمقين المصرى والسورى لإضعاف قواتهما على الجبهتين. وقبل شن هجوم إسرائيلى على مقر قيادة أركان الجيش الإسرائيلى فى دمشق، توجهت رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير بسؤال إلى وزير دفاعها ورئيس أركان الجيش الإسرائيلى: هل يمكن أن ترد مصر بضرب العمق الإسرائيلى إذا ضربنا العمق السورى؟. وجاء رد الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بأن احتمال حدوث ذلك ضعيف، لأن الصواريخ لم تدخل الخدمة بعد فى الجيش المصرى.

 

تم التصديق على الهجوم الإسرائيلى وتنفيذه بنجاح على سوريا. وفى اليوم التالى، بينما تدور المباحثات حول أوضاع الجبهة المصرية، تغيرت تقديرات الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية. فيقول أدامسكى: «فى يوم واحد فقط تغيرت صورة الوضع تماما، ورئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية إيلى زعيرا بات يعتقد أن السوفييت سيستخدمون صواريخ سكود عند الضرورة».

 

فى الليلة الفاصلة بين 12 و13 أكتوبر 1973، رصدت الاستخبارات الإسرائيلية تحركات غريبة على الأرض. واتضح أن السوفييت يتحركون لإعادة نشر منصات صواريخ سكود فى منطقة بورسعيد، الأمر الذى أثار انزعاجا شديدا لدى قادة الجيش الإسرائيلى. فقد جاء تحريك الصواريخ ليزيد من مداها فى العمق الإسرائيلى. وكانت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية قبل ذلك تقدر بأن مدى صواريخ سكود يغطى من منطقة ناتانيا وما تلاها باتجاه الجنوب الإسرائيلى. وزاد القلق الإسرائيلى حتى وصل إلى درجة رهيبة من المبالغة. ووفقا للتقديرات الجديدة آنذاك، أصبحت معامل تكرير البترول الإسرائيلى فى حيفا فى خطر. وقائمة الأهداف التى قدمتها قيادة أركان الجيش الإسرائيلى لوزير الدفاع الإسرائيلى موشيه ديان تضاءلت أكثر وأكثر بسبب هذه المعلومات الجديدة. وتراجع الجيش الإسرائيلى عن مهاجمة العمق المصرى، وأصبح ضرب أهداف فى القاهرة خيارا غير مطروح بسبب سلاح الردع المصرى. وبدلا من ضرب أهداف استراتيجية فى القاهرة، أشار قادة الجيش الإسرائيلى إلى إمكانية ضرب منشآت اقتصادية، ولكنهم احتاروا أيضا وترددوا فى ضربها خوفا من الرد المصرى.

 

فى 16 اكتوبر ألقى السادات خطابا فى مجلس الشعب، ووقف إلى جانبه رئيس الوزراء السوفييتى أليكسى كوسيجين (الذى تولى رئاسة الحكومة السوفييتية من عام 1964 إلى 1980). وقال السادات فى هذا الخطاب بوضوح إن كل اعتداء إسرائيلى على العمق المصرى سيتم الرد عليه بضربة مصرية للعمق الإسرائيلى، بعد أن أعلن صواريخ «ظافر» المصرية باتت على قواعدها فى بورسعيد بانتظار إشارة للانطلاق إلى أعماق أعماق إسرائيل، مرددا مقولته الشهيرة: «العين بالعين والسن بالسن والعمق بالعمق». ولكنهم فى إسرائيل كانوا يعلمون أن السادات لا يتحدث عن صواريخ «ظافر» المصرية، وإنما كان يتحدث عن صواريخ سكود السوفييتية. ويوضح أدامسكى أن حقيقة وقوف كوسيجين إلى جانب السادات أثناء إلقاء هذه الكلمة أكد التقديرات الإسرائيلية بأن الاتحاد السوفييتى منح مصر ضوءا أخضر للرد بإطلاق الصواريخ على العمق الإسرائيلى. ويقول: «فى تلك اللحظة، تم استبعاد فكرة ضرب العمق المصرى تماما حتى انتهاء الحرب، ونجحت قوة الردع المصرى».

 

فى 17 و18 أكتوبر رصدت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تطورا باليستيا إضافيا زاد من القلق الإسرائيلى. فقد قامت وحدات صواريخ سكود بقيادة سوفييتية بنقل صواريخ من مكان لآخر، وزودوها برؤوس تفجيرية. وبالتزامن مع ذلك، زادت شدة لهجة الصحف السوفييتية عن ذى قبل. وفى إسرائيل كان الانطباع بأن مصر تستعد لاحتمال إطلاق صواريخ سكود. ونقلت إسرائيل رسالة عبر سفيرها فى واشنطن، سيمحا دينيتس، إلى مستشار الأمن القومى الأمريكى هنرى كسينجر، الذى كان فى طريقه إلى موسكو. وكانت الرسالة الإسرائيلية تقول: «إذا فكر المصريون فى إطلاق صاروخ سكود، سوف تعرف إسرائيل كيف ترد الصاع صاعين». ولكن لم يصل أى رد من موسكو، إلا بعد 4 أيام.

 

فى 22 أكتوبر، وكان وقف إطلاق النار على وشك التنفيذ، تم إطلاق صاروخى سكود على إسرائيل، ولقى العديد من الجنود الإسرائيليين مصرعهم.

 

ويتساءل أدامسكى: «لماذا رغم ذلك تم إطلاق صواريخ سكود فى النهاية؟». ويجيب هو وبار يوسف فى بحثهما الجديد بأن الحديث يجرى عن سلسلة من الأخطاء الاستخباراتية التى أدت إلى استنتاجات خاطئة على الأرض وتصعيد عسكرى. ويقول أدامسكى: «حقا أنه كان هناك خطاب بارز للسادات، وحقا أن الصواريخ كانت منتصبة وجاهزة للإطلاق، ولكننا اكتشفنا أن التحركات المتزايدة وتركيب الرؤوس المتفجرة على الصواريخ كان جزءا من تدريبات غير تقليدية، ولم تكن بهدف استخدام تلك الصواريخ فعليا.. والمهم أن المصريين والسوفييت واصلوا هذه التدريبات رغم الحرب، بدون أن يضعوا فى اعتبارهم أن إجراءات كهذه فى وقت الحرب لها أهمية أخرى وكبيرة جدا عما لو كانت تمت فى وقت عادى.. فمثل هذه التصرفات قد تؤدى إلى تصعيد غير متعمد وأزمة لا يريدها أى من الطرفين».

 

وبحسب أدامسكى: «تم نقل الصواريخ فى الصيف من الاتحاد السوفييتى إلى مصر، مع تحديد موعد لاحق فى عام 1974 لاحتمال نقل التحكم فيها إلى المصريين الذين لم يكونوا قد عرفوا بعد كيفية تشغيل هذه الصواريخ. وفى تلك الأثناء بقيت الصواريخ تحت القيادة السوفييتية بشكل كامل. وقام السادات من جانبه بالضغط على السوفييت حتى يسلموه تلك الصواريخ، وطلب منهم أن يسمحوا له بإطلاقها».

 

ويشير البحث الإسرائيلى إلى أن قرار إطلاق صواريخ سكود على جسور العبور الإسرائيلية نبع من سلسلة أخطاء فى القيادة الروسية. ففى 22 أكتوبر استدعى السادات سفير الاتحاد السوفييتى بالقاهرة فلاديميرفينوجرادوف وطلب منه السماح له بإطلاق الصواريخ. وبحسب البحث الإسرائيلى، قال السادات للسفير إن الوضع سيئ للغاية، وأن الجيشين الثانى والثالث باتا محاصرين، وأن الوضع على الجبهة أصبح كارثيا. ويقول أدامسكى: «سارع السفير فينوجرادوف إلى الاتصال هاتفيا بالقيادة السوفييتية فى موسكو، وطلب التحدث إلى وزير الخارجية السوفييتى أندريه جروميكو، الذى لم يستطع الرد عليه فى تلك اللحظة، وقام وزير الدفاع السوفييتى أندريه جريتشكو بالرد بدلا منه، وأصدر موافقته الفورية على إطلاق صواريخ سكود».

 

وأنهى فينوجرادوف مكالمته، وعاد ليتصل بالرئيس السادات ليبلغه بالموافقة السوفييتية. ويتم إبلاغ هذه الموافقة للفريق السوفييتى المسؤول عن تشغيل وحدة صواريخ سكود، والذى تلقى ضوءا أخضر بإطلاق الصواريخ. ويقول أدامسكى: «عاد وزير الدفاع السوفييتى إلى مائدة الاجتماعات عقب انتهاء المكالمة الهاتفية، وأخبر الزعيم السوفييتى ليونيد بريجينيف بمضمون المكالمة، ولكن برجينيف غضب بشدة، واعتبر ذلك موقفا متطرفا خطيرا، وأصدر أوامر فورية بإلغاء الأمر السابق، ولكن خلال نقل الأوامر من موسكو إلى وحدة إطلاق الصواريخ فى مصر، كان قد تم إطلاق صواريخ سكود بالفعل».

 

حتى ذلك اليوم كان معروفا (بل واشار كسينجر إلى ذلك فى مذكراته) أن رفع درجة الاستعداد النووى الأمريكى قبيل انتهاء الحرب نبعت من رغبة فى نقل رسالة واضحة إلى الاتحاد السوفييتى بعدم إرسال قوات إلى الشرق الأوسط. حدث ذلك بعد أن غضب السوفييت من تقدم القوات الإسرائيلية على الجبهات، حتى على الرغم من إعلان وقف إطلاق النار فى 22 أكتوبر. فقد استمرت إسرائيل فى القتال، وحاصرت الجيش الثالث، وحققت تقدما. وبعث بريجينيف رسالة إلى الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون، قال فيها إنه نظرا لأن القوات الإسرائيلية لم تتوقف عن القتال رغم إعلان وقف إطلاق النار، ينبغى على الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة إرسال قوات مشتركة إلى المنطقة، وإذا رفضت الولايات المتحدة فإن الاتحاد السوفييتى سيرسل قواته منفردا لوقف إسرائيل. عندئذ رفع الأمريكيون درجة الاستعداد الاستراتيجى إلى مستوى «ديفكون 3»، بغرض إطلاق رسالة ردع إلى الكرملين.

 

ويكشف البحث الذى أعده أدامسكى وبار يوسف زاوية أخرى ومهمة عن درجة الاستعداد النووى التى تم رفعها آنذاك، وهى لحظة اندلاع الأزمة بين القوتين العظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى، الأمر الذى أثر بشكل كبير على الشكل الذى انتهت به حرب أكتوبر.

 

أبحر يخت مدنى، ذو مظهر برى، فى منطقة مضيق البوسفور والدردنيل فى تركيا. ولكن كان بداخله يختبئ عدد من رجال الاستخبارات الأمريكية الذين كانت مهمتهم تتبع قطع بحرية عسكرية سوفييتية، كانت فى طريقها إلى الشرق الأوسط، عبر ميناءى نيكولاييف وأوديسا فى البحر الأسود. وكان هذا الياخت مزودا بأجهزة استشعار حساسة قادرة على قياس النشاط الإشعاعى، وكان الهدف هو رصد ما إذا كانت القطع البحرية السوفييتية تحمل أسلحة نووية من موانئ الاتحاد السوفييتى باتجاه الأسطول الخامس الذى تمركز فى البحر المتوسط، وفى وقت الحرب كان يتتبع القطار البحرى الذى أطلقه الاتحاد السوفييتى لنقل الذخيرة والسلاح إلى مصر وسوريا.

 

فى 22 أكتوبر، رصد رجال الاستخبارات الأمريكية سفينة سوفييتية دخلت مصر. وكان الياخت متتبعا السفينة ماجدورتشنسكى، حين أطلقت أجهزة الاستشعار الأمريكية صفاراتها لتؤكد رصدها لإشعاعات نووية داخل السفينة. وقامت الاستخبارات الأمريكية بنقل هذه المعلومة الدرامية إلى واشنطن، وهناك أخذوا فى تحليل الاحتمالات.

 

وكان أحد التقديرات الاستخباراتية يقول إن الحديث يجرى عن رأس نووية يتم نقلها لتركيبها على صواريخ سكود السوفييتية الموجودة فى مصر. وتم تعزيز هذا التقدير عندما توجهت السفينة فى 23 أكتوبر باتجاه الجنوب، أى باتجاه أرض النيل. وتتبعت الاستخبارات الأمريكية مسار السفينة السوفييتية عن قرب، حتى توقفت فى ميناء الإسكندرية.

 

فى الليلة الفاصلة بين 24 و25 أكتوبر، رفعت الولايات المتحدة درجة استعدادها النووى العالمى إلى مستوى «ديفكون 3» (من بين 5 مستويات). وكانت هذه هى المرة الأولى التى تتخذ فيها الولايات المتحدة هذا الإجراء منذ أزمة الصواريخ مع كوبا عام 1962. ويقول أدامسكى: «بعد التهديد السوفييتى بإرسال قواته إلى مصر بشكل أحادى الجانب، وهو ما سمعه الأمريكيون بالتفصيل، والآن يكتشف الأمريكيون وجود سفينة يحتمل جدا أنها تنقل الآن سلاحا نوويا تكتيكيا إلى مصر، فى وضع بات يشبه كثيرا أزمة الصواريخ فى كوبا.. وكانت تلك عملية درامية للغاية بالنسبة للأمريكيين».

 

إحدى الوثائق الخاصة بالاستخبارات المركزية الأمريكية (سى آى إيه)، والتى تم الكشف عنها مؤخرا، يعود تاريخها إلى 30 أكتوبر 1973، بعد أيام قليلة من وقف إطلاق النار، تكشف أن الاستخبارات الأمريكية لم تتمكن من تحديد ما إذا كان هناك سلاح نووى بالفعل على متن السفينة السوفييتية، وماذا كان الهدف منه. وجاء عنوان الوثيقة السرية الأمريكية فى صيغة تساؤل: «هل هناك سلاح نووى سوفييتى فى مصر؟». وتسرد الوثيقة بعد ذلك تفاصيل المعلومات التى حصلت عليها الاستخبارات المركزية الأمريكية عن نقل صواريخ سكود إلى مصر ومواقع تمركزها. وورد فى الوثيقة ما يلى: «هناك العديد من الأدلة التى تؤكد أن السوفييت نقلوا سلاحا نوويا إلى مصر، ومن المحتمل أنها مخصصة لاستخدامها عبر صواريخ سكود». والوثيقة موجهة إلى وزير الخارجية الأمريكى هنرى كسينجر، ومسؤولين رفيعى المستوى فى قيادة وزارة الدفاع الأمريكية، وتتضمن وصفا لمسار السفينة حتى وصولها إلى الإسكندرية.

 

بعد الحرب بشهور قليلة، اتضح الخطأ الذى كان على وشك أن يؤدى إلى مواجهة نووية بين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة. ويقول أدامسكى: «فوحدة الاستخبارات البحرية الأمريكية التى اكتشفت الإشعاع النووى الصادر عن السفينة ماجدورتشنسكى، أجرت فحصا لجهاز الاستشعار وتبين أنها رصدت إشارة كاذبة للإشعاع النووى، وهذا يحدث كثيرا فى مثل هذه الحالات، ولكن الأمريكيين لم يكتشفوا ذلك إلا بعد انتهاء الحرب، وبالتالى لم تكن هناك شحنة نووية، وكانت المعلومة الاستخباراتية النووية التى حصلت عليها القيادة الأمريكية كانت معلومة «خاطئة ومضللة».. وقد قامت الاستخبارات الأمريكية بمراقبة السفينة التى وصلت إلى الإسكندرية، وبقيت هناك لفترة طويلة، ولكن عملاء الاستخبارات لم يروا شيئا.. وبعد مرور عدة شهور عرف الجميع لماذا لم يروا شيئا هناك، لأنه لم يكن هناك شىء ليروه.